حسن الظن بالله تعالى
حُسْن الظن بالله تعالى فرع عن المعرفة به جل وعلا، فإن العبد كُلما كان أعظم معرفة بالله وأسمائه وصفاته وإحاطته بكل شيء وقدرته علي
- التصنيفات: تزكية النفس - نصائح ومواعظ -
عباد الله، في هذه الدنيا التي طُبِعت على كدر، والإنسان الذي خُلِق في كَبَد، كم يقع من البعض من سخط من الضيق الذي يعيشه؛ إما ماديًّا أو صحيًّا أو اجتماعيًّا أو غير ذلك من سُبُل الحياة، وهذا حال من ملأ التشاؤم قلبه، وقتل اليأس والقنوط فيه كل أمل وفأل حسن، الفأل الحسن الذي يحمل على الاحتساب والرضا، والتسليم بالقضاء والقدر، واليقين بالفرج القريب، فتتحوَّل معه المحنة إلى منحة، والألم إلى أمل، والضيق إلى سعة، والظلام إلى فجر مشرق، والقنوط من رحمة الله وإحسانه إلى انتظار فرجه وكرمه سبحانه، وهذه المعاني الجميلة لا تكون إلا بحُسْن ظن بالله تعالى.
أيها المسلمون، حُسْن الظن بالله تعالى فرع عن المعرفة به جل وعلا، فإن العبد كُلما كان أعظم معرفة بالله وأسمائه وصفاته وإحاطته بكل شيء وقدرته عليه، وكرمه وعظيم فضله ورحمته، زاد حظُّه من حُسْن الظن بربِّه بعد إحسانه العمل، فإذا استحضر أصحاب الهموم هذا الكنز الثمين والمورد العظيم، وتعلقوا به، فلن يحصل لهم هم وحزن ويأس وقنوط؛ فإن اليأس والقنوط من فضل الله ورحمته والتشاؤم إنما من صفات الضالِّين عن الهدى والرشاد، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56]، الذين أساؤوا الظن بالله تعالى، كما حكى حالهم في كتابه الكريم فقال: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح: 6].
حُسن الظن بالله تعالى من صفات المؤمنين الراغبين في فضل الله وإحسانه، القائل في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء».
أيها المباركون، من تأمل قصص أنبياء الله تعالى ورسله عليهم السلام تجلَّى له التفاؤل وحُسْن الظن بالله تعالى في أبهى صوره، وأجمل معانيه من لدن آدم عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
فإبراهيم الخليل عليه السلام حين حطم أصنام قومه وعلموا به، أرادوا الانتصار لها، والانتقام منه، فأضرموا نارًا عظيمة، وألقوه فيها طلبًا لإهلاكه، {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 68]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين أُلقي في النار"، ظن عليه السلام بربِّه أنه سيحفظه وينجيه مما أراد به قومه، فكان الرب جل وعلا حسيبه وعند ظنه، فأمر النار بقوله: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]، فأذهل عقول قومه، ورد كيدهم في نحورهم تكريمًا لنبيه وخليله الذي أحسن الظن به، فكان عند ظنِّه.
ويونس عليه السلام حين أُلقي في البحر والتقمه الحوت، ووقع في موطن الهلاك؛ ظلمات ثلاث، لم يستسلم لما لحق به من كرب؛ بل نادى ربه جل وعلا محسنًا الظن به أنه مُنجيه مما لحق به من هم وغم وكرب، فتحقق له ما أمَّل، كما ذكر ربنا سبحانه ذلك في كتابه العزيز {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 87، 88].
ويعقوب عليه السلام حين فقد ابنيه يوسف وبنيامين وطال فقدهم، ولحقه الحزن الشديد حتى فقد بصره، ومع ذلك لم يخِب ظنُّه بربِّه جل وعلا يومًا أنه سيُعيدهما له، قال جل وعلا حاكيًا قوله: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، فكان الله جل وعلا عند ظنِّه حين جاء البشير فألقى قميص يوسف على وجهه فارتدَّ بصيرًا، وجمعه الله بابنيه وقد علا شأنهما وارتفعت مكانتهما.
وموسى عليه السلام لما فرَّ ومن آمن معه، تبعه فرعون وملؤه بخيلهم وقوتهم يُريدون استئصالهم والقضاء عليهم، وكانوا عددًا كبيرًا، فلما اقتربوا منهم وكان موسى وقومه قد وصلوا البحر، فالبحر أمامهم، وعدوُّهم من خلفهم، أيقنوا بالهلاك واستسلموا للأمر، فقالوا: إنا لمدركون، ولم يكن ذلك من نبي الله موسى الذي بدَّد هذا الشعور السيئ لديهم بإحسانه الظن بربِّه جل وعلا، فقال: كلا إن معي ربي سيهدين، قال جل وعلا حاكيًا هذا الموقف: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} [الشعراء: 61 - 66].
وقصص الأنبياء عليهم السلام في هذا الباب كثيرة جدًّا، وأختم بخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم سيد المتفائلين المحسنين الظنَّ بربِّ العالمين، فمن قصصه في هذا الباب: لما هَمَّ المشركون بقتله خرج من مكة ومعه صاحبه أبو بكر رضي الله عنه مهاجرين إلى المدينة، فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الذين خرجوا في آثارهم ثم يُكملا المسير، وحين وصل طلابهم ووقفوا على رأس الغار، لحق أبا بكر رضي الله عنه الخوفُ والهلعُ، فقال لرسول الله: "لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا"، فقال صلى الله عليه وسلم الذي امتلأ قلبه حُسْن ظن بربه عز وجل: " «يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنينِ الله ثالثهما» "، فكان الله تعالى عند حُسْن ظنِّه به، كما قال جل وعلا: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]، وكان من قوله صلى الله عليه وسلم: " «لا عدوى ولا طيرة وأُحب الفأل» ، قالوا: يا رسول الله، وما الفأل: قال: «الكلمة الطيبة» "؛ (رواه الترمذي) ، فالكلمة الطيبة تبعث الراحة والطُّمَأْنينة في النفوس لا سيما في أوقات الهمِّ والحزن والكرب، فتدعوا إلى حُسْن الظن بالله تعالى، وتوقع الخير والفرج واليُسْر، ومواقفه وقصصه صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كثيرة جدًّا؛ كقلب الرداء بعد الاستسقاء، وتفاؤله بالنصر في غزواته حُسنًا بالظن بالله تعالى، وزيارته للمحزونين والمرضى وغيرهم من المصابين كثيرًا ما ينبع لهم من لسانه صلى الله عليه وسلم أزكى عبارات التفاؤل وحسن الظن بالله تعالى.
أيها الفضلاء، المسلم المتفائل متوكل على الله تعالى، يوقن بأن كل شدة بعدها فرج قريب آتٍ، فيتوقع الخير، ويبتسم للحياة، ويؤمن بأن الأمر كله لله تعالى، وبيده مقادير الأمور، فقلبه مليء ثقة بأن الرحيم سيجعل له بعد العسر يسرًا، وبعد الضيق فرجًا، وبعد الحزن سرورًا، وأنَّى لمن يرجو رحمة الله وفرجه ويطرق بابه ويتعلق بحبله المتين أن يُحبط أو يستسلم للشدائد والمحن، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "والذي لا إله غيره لا يُحسن عبد بالله الظن إلا أعطاه عز وجل ظنه؛ ذلك بأن الخير في يده".
عباد الله، حُسن الظن بالله تعالى لا يكون مع التفريط والإضاعة والإهمال والتكاسل؛ وإنما يكون مع حُسْن العمل، وتمام الإقبال على الله عز وجل، أما المسيء المرتكب لما حرَّم الله سبحانه، فإن ذلك يحول بينه وبين حُسْن الظن بالله جل وعلا، قال الحسن البصري رحمه الله: "إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل، وإن الفاجر أساء الظن بربه فأساء العمل"، فلا يجتمع العصيان والإصرار على الضلال مع حُسْن الظن بالله؛ إذ كيف يكون المضيع المفرط في جنب الله تعالى محسنًا الظن به، وهو عنه شارد، وفي طاعته مقصر، وعن أبواب رحمته ومغفرته معرض؟!
حُسْن الظن بالله تعالى إخوة الإسلام متضمن أن يؤمل العبد في الله جل وعلا الخير والرحمة والإحسان له، ومجازاته بأحسن الجزاء في الدنيا والآخرة، فمهما طال المرض والهم والحزن والكرب فإن الفرج آتٍ لا محالة لمن بذل الأسباب وأحسن الظن بالله تعالى.
ما أجمل أن يستحضر الداعي إذا استكمل أسباب الإجابة حُسْن الظن بالله تعالى أنه سيُجيب دعاءه، ويُعطيه مسألته، ويفرج كربه، فهو القائل: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وما أجمل أن يُحسن المرء الظن بالله تعالى عند فوات ما يُحبه ويرغبه، أو حصول ما يكرهه، فيوقن بأن اختيار الله جل وعلا له خير من اختياره لنفسه، أليس الله يقول: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216]، ويقول جل شأنه: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]، ولا يكون هذا اليقين إلا بُحْسن الظن بالله تعالى.
وما أجمل أن يمتلئ قلب المرء عند نزول البلاء والهم والحزن وضيق الحال بالفرج واليُسْر من الله تعالى العاجل أو الآجل إحسانًا للظن بالله تعالى القائل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6]، والقائل جل وعلا: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7]، قال أحد السلف: "استعمل في كل بلية تطرقك حسن الظن بالله عز وجل في كشفها، فإن ذلك أقرب بك إلى الفرج".
وإذا دعا العبد ربه مستحضرًا أسباب الإجابة فإنه يُحسن الظن بأن الله تعالى سُيجيب دعاءه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة»؛ (رواه الترمذي) .
وإذا تقرَّب العبد إلى الله تعالى بالعمل الصالح مع استكمال شروط قبول العمل فإنه يُحسن الظن بربه تعالى أنه سيقبله ويرفعه إليه كما قال جل وعلا: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].
وإذا أذنب العبد ورجع وأناب واستغفر فإنه يُحسن الظن بربه أنه سيقبل توبته ويعفو عن سيئاته، وإذا تصدق بمال حلال وأخلصه لوجه الله تعالى يُحسن ظنه بربه أنه سيقبل صدقته، فهو جل وعلا القائل: {هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104].
وأن يوقن العبد بحُسْن لقاء الله تعالى، وتجاوزه عنه، ومجازاته بالحُسْنى عند الموت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يُحسن الظن بربه».
اللهم أملئ قلوبنا يقينًا بك وحسن ظن بك يا كريم.