حماية المستضعفين في ميزان القرآن: تأصيل شرعي ورؤية معاصرة

"الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها"

  • التصنيفات: - آفاق الشريعة -

يحرص التشريع الإسلامي على حفظ النفوس وصيانتها من الهلاك، وقد تجلَّى هذا المقصد في نصوصه وتطبيقاته المختلفة، خاصةً في أحكام الجهاد وضوابطه، ويتضح ذلك من امتنان الله على المؤمنين بكفايتهم القتال، ومن تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم على عدم تمنِّي لقاء العدوِّ، ومن مدحه للقادة الذين يحرصون على حياة جنودهم.

 

ويتجلَّى اهتمام القرآن الكريم بحفظ النفوس في مشهد رباني بديع يتناغم فيه جلال التشريع مع جمال التعبير؛ إذ يمتن الله على عباده المؤمنين بقوله: ﴿  {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}  ﴾ [الأحزاب: 25]، ويا لها من مِنَّة عظيمة تتجلَّى فيها دقائق الإعجاز ولطائف التعبير! فقد جاء الفعل بصيغة الماضي (كفى) ليؤكد تحقق هذه الكفاية وثبوتها، وأسند إلى لفظ الجلالة (الله) ليدل على عظم المنَّة وجلالها، وخصَّ المؤمنين بهذه الكفاية ليبين أن حفظ أرواحهم من أهم مقاصد الشريعة السامية.

 

التكامل بين التشريع والتطبيق:

ويتناغم هذا المعنى الرباني مع قوله تعالى: ﴿  {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ}  ﴾ [البقرة: 179]، في مشهد تشريعي فريد يتجلَّى فيه إعجاز القرآن وحكمته؛ فتأمل كيف جعل الله القصاص - وهو إزهاق للنفس الجانية - سببًا لحياة النفوس البريئة! وفي نداء أولي الألباب إشارة لطيفة إلى أن إدراك هذا المعنى العميق يحتاج إلى عقل راجح وبصيرة نافذة، وكأن القرآن يوجه أنظارنا إلى أن التشريع الإلهي يتكامل فيه الحزم مع الرحمة، والعدل مع الحكمة، في منظومة تشريعية متكاملة تستهدف حماية النفوس وصيانة الحياة.

 

نصرة المستضعفين في المنظور القرآني وأبعاده الإنسانية:

ويتجلَّى اهتمام القرآن بالمستضعفين في مشهد بلاغي فريد يجمع بين قوة التوبيخ وجمال التعبير في قوله تعالى: ﴿  {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ}  ﴾ [النساء: 75]، ويا له من نظم قرآني عجيب! حيث قرن الله القتال في سبيله بنصرة المستضعفين، في تركيب بلاغي يجعل حمايتهم من أشرف مقاصد الجهاد وأسماها، وتأمَّل كيف جاء الاستفهام الإنكاري حاملًا في طيَّاته توبيخًا شديدًا لمن يتقاعس عن نصرة المظلومين، وكأن الله - جل في علاه - يقول: أي عذر يمكن أن يكون مقبولًا في التخلي عن هؤلاء المستضعفين؟

 

الرحمة المهداة وتجلياتها في الجهاد الشرعي:

ويتوِّج القرآن هذه المعاني السامية بقوله تعالى: ﴿  {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}  ﴾ [الأنبياء: 107]، ليؤكد أن الجهاد في الإسلام منضبط بضوابط الرحمة، ومحاط بسياج الحكمة، فالرحمة تقتضي حماية المستضعفين وصون النفوس، لا إلقاءها في التهلكة، ويتجلى هذا المعنى بصورة عملية في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتطبيقات الصحابة الكرام؛ فها هو خالد بن الوليد رضي الله عنه يؤثر الانسحاب في معركة مؤتة حفظًا لأرواح المسلمين، فينال بذلك ثناء النبي صلى الله عليه وسلم ولقب "سيف الله المسلول"، وفي هذا درس عظيم للقيادات المعاصرة في أن الحكمة في حفظ النفوس لا تتعارض مع الشجاعة والإقدام؛ بل هي من صلب التشريع الإلهي وجوهر الرسالة المحمدية، فالشجاعة الحقيقية، كما يؤصل ابن تيمية، تتمثل في الموازنة الحكيمة بين القوة والتدبير، فالقوي الشديد هو من يملك نفسه عند الغضب، ويحكم عقله في تقدير المصالح والمفاسد، وقد قرر العلماء أن "الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها"، فمن لم يوازن بين المصالح والمفاسد، قد يترك الواجبات ويفعل المحرمات؛ ولهذا ينبغي فهم الجهاد في إطار مقاصده الشرعية.

 

المسؤولية الشرعية والأخلاقية في حماية المستضعفين:

ويتفرع عن هذا الأصل العظيم قاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد، فكل عمل يؤدي إلى إزهاق الأرواح بغير وجه حق أو يعرض المستضعفين للهلاك يتنافى مع مقاصد الشريعة وأحكام الجهاد الشرعي؛ ولهذا جاءت نصوص الشريعة مؤكدةً أن الدفاع عن المستضعفين وحمايتهم وحفظ النفوس هو من أعظم مقاصد الجهاد، فيضع القرآن الكريم مسؤوليةً عظيمةً على عاتق القيادات المسلمة في حماية المستضعفين، ويتجلى ذلك في قوله تعالى: ﴿  {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}  ﴾ [النساء: 97]، فانظر كيف جعل الله سعة الأرض حجةً على المتخاذلين عن حماية المستضعفين! ويتأكد هذا المعنى بقوله تعالى: ﴿  {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}  ﴾ [التوبة: 52]، فجعل الله للجهاد غايتين: النصر أو الشهادة، وليس المقصود التهلكة وإهلاك النفوس، فإن الحياة في سبيل الله خير من الموت في سبيله، والجهاد الشرعي يحفظ الأرواح ولا يهدرها بلا ضابط أو مقصد شرعي؛ بل على العكس فإن الله تعالى يقول: ﴿  {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}  ﴾ [المائدة: 32]، في تصوير بليغ يجعل قتل نفس واحدة كقتل البشرية جمعاء! وهذا يستوجب على القيادات المسلمة توفير ملاذات آمنة للمستضعفين، وتأمين طرق نجاتهم قبل أي عمل عسكري؛ إذ لا يجوز شرعًا اتخاذهم دروعًا بشريةً أو تعريضهم للقصف؛ فذلك مخالف لمقاصد الشريعة وغاياتها السامية.

 

خاتمة:

وهكذا يتجلَّى لنا أن حماية النفوس ونصرة المستضعفين ليست مجرد شعار يُرفَع أو هدف ثانوي يُسعى إليه؛ بل هي من صميم رسالة الإسلام وجوهر تشريعاته، وقد تجلَّى ذلك في نظم قرآني بديع يقرن بين القتال في سبيل الله ونصرة المستضعفين، فلا يمكن أن يكون الجهاد سببًا في إهلاكهم؛ بل يقوم على حماية النفوس، لا إهلاكها، وتحقيق مصلحة المسلمين، لا تدميرها، وأن كل عمل يتجاوز ضوابط الشرع ومقاصده، ويؤدي إلى إهلاك المستضعفين، لا يمكن وصفه بالجهاد الشرعي، كما قرر ذلك العلماء الراسخون عبر العصور، وإن من واجب القيادات المعاصرة أن تستلهم هذا الهدي القرآني في تخطيطها العسكري وقراراتها المصيرية، ونسأل الله أن يلهمنا رشدنا، وأن يُجنِّبنا شرَّ الفتن ما ظهر منها وما بطن.