خير ما يستعان به على الإقلاع عن المعاصي
"فخير الدنيا والآخرة بحذافيره في طاعة الله تعالى، وشر الدنيا والآخرة بحذافيره في معصيته"
- التصنيفات: نصائح ومواعظ -
إن من إيماننا بالله تعالى أنه جل وعلا له الأسماء الحسنى والصفات العلا؛ فهو عز وجل محيط بكل شيء، عالم بما كان وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، فعِلم الله عز وجل يشمل الكبير والصغير، والغائب والحاضر، والمشهود والخفيَّ؛ فهو القائل عن نفسه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر: 22]، فعِلم الله عز وجل يشمل ما يُعلنه الخلق وما يُخفونه؛ فهو القائل سبحانه: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 29]، فلا يغيب شيء من أقوال العباد وأعمالهم الظاهرة والباطنة عن علمه سبحانه وإحاطته، وقد أوكل بكل إنسان مَلكًا يرصُد ما يصدر منه؛ خيرًا كان أم شرًّا؛ قال جل وعلا: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12]، ثم تُنشر صحف العباد يوم الدين؛ فآخذٌ كتابه بيمينه، وآخذ بشماله، نسأل الله السلامة والعافية.
فإذا استقر الإيمان بهذا كله في قلب العبد، وآمن به حقًّا، قاده إلى مراقبته تعالى في السر والعلن، وخوفه في الغيب والشهادة؛ فلم يعصِ له أمرًا، ولم يرتكب له نهيًا، سرًّا ولا جهرًا، فإن زلَّت به القدم بادر إلى التوبة والاستغفار، يخاف ذنبه، ويرجو عفو ربه سبحانه؛ القائل في صفات عباده المؤمنين: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [فاطر: 18]، والقائل سبحانه عنهم: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].
إخوة الإيمان: إذا كانت {الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]؛ كما قال الله تعالى ذلك، فإن بعض السيئات قد تُذهب الحسنات، فمن وفَّقه الله تعالى لاجتناب المعاصي وهجرها، فقد أُوتي خيرًا كثيرًا، وقد ذكر العلماء أسبابًا تُعين بعد توفيق الله تعالى على البعد عن المعاصي، وتصبِّر على مقارفتها وإتيانها، وممن ذكر هذه الأسباب وأبدع في بيانها الإمام ابن القيم رحمه الله، فقد ذكر عددًا من الأمور والأسباب إذا استحضرها العبد كانت خيرَ داعٍ له ومعينٍ لهجر كل معصية، بعد إعانة الله تعالى وحفظه وتوفيقه.
فأول هذه الأسباب: عِلم العبد بقبح المعصية ودناءتها، وأن الله تعالى إنما حرمها لصيانة العبد وحمايته من الرذائل، كما يحمي الوالد الشفيق ولده الصغير عما يضره.
ثانيًا: الحياء من الله تعالى، فإن العبد إذا أيقن أنه بمرأًى ومسمع من خالقه، وأنه مطَّلع عليه في كل حال من أحواله، استحيا من ربه أن يقترف ما يسخطه.
ثالثًا: حِفظ النعم من أن تزول بالذنوب، فما أذنب عبدٌ ذنبًا إلا زالت عنه نِعمه من الله تعالى بحسب ذلك الذنب؛ فهو القائل سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، والقائل عز وجل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]، فالمعاصي نار النِّعم، تأكلها كما تأكل النار الحطب.
رابعًا: استحضار الخوف من الله تعالى وخشيته عند الهم بالمعصية، وهذا السبب يقْوَى بالعلم واليقين، ويضعُف بضعفهما، وقد ورد في الكتاب والسنة ما يدل على إعراض من وُفِّق لاستحضار الخوف من الله تعالى عند داعي المعصية، فكان مانعًا له من الوقوع فيها؛ كيوسف عليه السلام، والثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، فلم ينجِّهم الله تعالى منها إلا بعد أن ذكر كلُّ واحد منهم صالحَ عمله، وقد كانت خشية الله تعالى وخوفه السببَ في هذا العمل، فنجَوا بفضل الله سبحانه.
خامسًا: تقوية محبة الله سبحانه في القلب وإجلاله، فإن المحبَّ المجِلَّ لمن يحب مطيعٌ، فكلما قوِيَ سلطان المحبة والإجلال لله عز وجل في القلب، كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى.
سادسًا: الحرص على شرف النفس وفضلها من أن تقترف ما يحقِرها، وينزل بها منزلة السَّفَلة من الناس الذين تجرؤوا على المعاصي، فسقطوا عن منزلة الكرم والولاية لله تعالى.
سابعًا: استحضار سوء عاقبة المعاصي والذنوب، وهي كثيرة؛ منها: سواد الوجه، وظلمة القلب وضيقه، وغمه وحزنه وألمه، وشدة قلقه واضطرابه، وربما موته؛ فإن المعاصي تُميت القلوب، وكذلك زوال أمن القلب، فأشد الناس خوفًا أشدهم إساءةً، وكذلك زوال الأنس واستبدال الوحشة به، وكذلك الوقوع في بئر الحسرات، والفقر بعد الغِنى، فإن أعظم الغِنى إنما يكون بالإيمان، فكلما عمِل العبد طاعةً واجتنب معصيةً، زاد إيمانه، فإذا اقترف شيئًا من الذنوب، نقص من إيمانه بقدرها حتى يفتقر، وأي فقر أعظم من الافتقار إلى الإيمان الخالص؟ ومن الآثار المترتبة على اقتراف المعاصي نقصان الرزق؛ كما ورد في الحديث: «إن العبد لَيُحرم الرزق بالذنب يُصيبه»، ومن ذلك حصول البغض والنفرة منه في قلوب الناس، وكذلك طمع عدوه فيه وظفَره به، فأعظم عدو للإنسان الشيطانُ، فإنه إن استجاب له في صغيرة، تجرأ على دعوته وتزيين أختها التي هي أكبر منها له، فيتدرج معه من الصغائر إلى الكبائر حتى يصبح أسيرًا له، وكذلك الطبع على القلب، فإن العبد إذا أذنب ذنبًا، نُكت في قلبه نُكتة سوداءُ، فكلما أكثَرَ من الذنوب، زادت النكت في القلب حتى يُطبع عليه؛ وهو الران؛ كما قال سبحانه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، ومن آثار المعاصي حرمان حلاوة الطاعة، وإعراض الله تعالى وملائكته وعباده عنه، ومنها أن الذنب يستدعي ذنبًا آخر، ثم يقوِّي أحدهما الآخر، ويستدعيان ذنبًا ثالثًا، حتى يُغمر بالذنوب وتحيط به خطيئته، وكذلك فوات ما هو أحب إليه وخير له منها من جنسها في الدنيا، وخشية أن يكون ذلك في الآخرة، واستحضار أن العمل هو الوليُّ والأنيس في القبر، والشفيع عند الرب سبحانه، والمخاصِم والمحاجُّ عنه، فيختار العبد لنفسه أي العملين يكنِز ويعد له في قبره، ومنها خروج العاصي من حصن الله تعالى الذي لا ضياع على من دخله، فيخرج بمعصيته منه إلى أن يصير محلًّا لنهب اللصوص وقُطَّاع الطريق، ومن آثار المعاصي أن العاصي بمعصيته يتعرض لمحق البركة في كل شيء من أمر دنياه وآخرته؛ فإن الطاعة للعبد بركة كل شيء، والمعصية تمحق عنه كل بركة.
فآثار المعاصي القبيحة أكثر من أن يحيط بها العبد علمًا، وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط بها علمًا، فخير الدنيا والآخرة بحذافيره في طاعة الله تعالى، وشر الدنيا والآخرة بحذافيره في معصيته؛ أخرج الطبري من حديث وهب بن منبه أنه تعالى يقول في الحديث القدسي: «من ذا الذي أطاعني فشَقِيَ بطاعتي؟ ومن ذا الذي عصاني فسعِد بمعصيتي» ؟.
ثامنًا: قِصر الأمل، ويقين العبد بسرعة انتقاله، وأنه كمسافر دخل قريةً وهو عازم على الخروج منها، أو كراكب قالَ في ظل شجرة ثم سار وتركها، فهو لعلمه بقلة مقامه وسرعة انتقاله من هذه الدار حريصٌ على ترك ما يُثقل حمله، ويضره ولا ينفعه، حريص على الانتقال بخير ما بحضرته، فليس للقلب أنفع من قصر الأمل، ولا أضر به من التسويف وطول الأمل.
تاسعًا: مجانبة الفضول في المطعم والمشرب، والملبس والمنام، والاجتماع بالناس، خاصةً من كان للسوء داعيًا، وللمعصية مزينًا؛ فإن قوة الداعي إلى المعاصي إنما تنشأ من هذه الفضلات، فإنها تطلب لها مصرفًا فيضيق عليها المباح، فتتعداه إلى الحرام، ومن أعظم الأشياء ضررًا على العبد بطالته وفراغه، فإن النفس لا تقعد فارغةً، فإن لم تُشغل بما ينفع، شُغلت بما يضر ولا بد.
عاشرًا: وهو الجامع لما سبق من الأسباب: ثبات شجرة الإيمان في القلب، فصبر العبد عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه، فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أتمَّ، وإذا ضعُف الإيمان ضعُف الصبر؛ فإن من باشر قلبه الإيمانُ بقيام الله تعالى عليه ورؤيته له، وتحريمه لما حرم عليه وبغضه له، ومقته لفاعله، وباشر قلبه الإيمان بالثواب والجنة والنار، امتنع منه ألَّا يعمل بموجب هذا العلم، ومن ظن أنه يقوى على ترك المعاصي دون الإيمان الثابت، فقد غلط.
ولا شك أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم؛ وسوسةً وسعيًا لإسقاطه في الغواية والضلال؛ كما أخبر بذلك ربنا جل وعلا ونبينا صلى الله عليه وسلم، فإذا استحضر الإنسان ذلك وأكثر من التعوذ منه، والتجأ إلى الله تعالى بطلب السلامة من كيده وإغوائه، نجا وسلِم من الضلال بتوفيق الله تعالى ورحمته، وإذا غفل عن هذه الحقيقة أو تغافل، فقد سلَّم نفسه لعدوه، وأمكنه من نفسه، عندها لا تسأل في أي وادٍ يهوي به ويُرديه، نسأل الله السلامة والعافية.
فاللهَ الله في الفطنة والحذر من كيد العدو، والتنبه لسلاحه وخطواته، والمبادرة إلى التخلص من كيده ومكره، والسعي الجاد لطلب رضا الله تعالى وجنته، ولا يكون ذلك إلا بطلب التوفيق والإعانة من الله تعالى، واللجوء إليه، والجد والسعي الحثيث في مراغمته ودحضه للفوز بخير الدنيا والآخرة.
ربنا أعِذْنا من همزات الشياطين، ونعوذ بك أن يحضرون.
اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
_________________________________________________
الكاتب: عبدالعزيز أبو يوسف