نعمة الوقت والعمر

فإن نعمةَ العمر والأوقات واللحظات والأنفاس، يَغفل عن قيمتها كثيرٌ من الناس، ولَمَّا كنا في زمن طيبٍ مبارك، فينبغي لنا أن نعرِف قيمة الزمن والوقت والعمر؛ لأن أكثر الناس لا يعرِف قيمة عُمره ووقته وساعاته وأنفاسه.

  • التصنيفات: نصائح ومواعظ -

دقَّاتُ قلب المرء قائلةٌ لــــــــــه   **   إن الحياةَ دقائقٌ وثوانِ 

فارفَع لنفسِك بعد موتك ذِكرَها   **   فالذكرُ للإنسان عُمرٌ ثانِ 

فإن نعمةَ العمر والأوقات واللحظات والأنفاس، يَغفل عن قيمتها كثيرٌ من الناس، ولَمَّا كنا في زمن طيبٍ مبارك، فينبغي لنا أن نعرِف قيمة الزمن والوقت والعمر؛ لأن أكثر الناس لا يعرِف قيمة عُمره ووقته وساعاته وأنفاسه؛ قال الله عز وجل:  {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}  [إبراهيم: 33، 34]، فتسخيرُ ساعات الليل والنهار من أجل أن نَملأ هذه الساعات بالطاعات، ومن أجل أن نسابق الأوقات بالطاعات - نعمةٌ من الله عز وجل، وقال تعالى:  {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}  [الفرقان: 62].

 

مفهوم أهمية الوقت:

أقسم الله بالوقت (الزمن) في أكثر مِن موضع في القرآن الكريم؛ مما يؤكِّد ما للوقت من أهمية عظمى في الإسلام يُحاسب عليها الإنسان يوم الحساب، هل ضيعه في أعمال غير مجدية - غير نافعة - أم استخدمه في الأعمال الصالحة.

 

المقصود بالوقت:

يعرف الفيروز آبادي مصطلح الوقت باعتباره: (المقدار من الدهر)، وهو بهذا يشير إلى أن الوقت هو الكم المقتطع من الزمن، سواء كان هذا الكم قصيرًا أم طويلًا، وتقسيم الوقت وتوزيعه بما يَسمح الاستفادة منه، يُمثل أحد اهتمامات الإدارة الحديثة المعاصرة، وبما يُعرف الآن بمفهوم إدارة الوقت، وفي هذا يشير الحميدي إلى أن إدارة الوقت تعني: (ضبطه وتنظيمه واستثماره فيما يعود بالفائدة على الفرد والمجتمع، سواء من ذلك وقتُ العمل والدراسة الذي يُمثل التزامًا بين الفرد وبين الجهة التي يعمل فيها، أو المدرسة والجامعة التي يدرُس فيها، أو الوقت المتبقي بعد ذلك الوقت الخاص بالفرد ذاته، وكلا النوعين مترابطان، وقت العمل والوقت الحاضر، ويؤثر كلٌّ منهما على الآخر، فالاستخدام الأمثل للوقت الخاص يكون ذا تأثير إيجابي معين يعود على وقت العمل بالنسبة للموظف أو صاحب العمل، أو الدراسة بالنسبة للطالب، والاستخدام السيئ للوقت الخاص أيضًا، سوف يعود سلبًا على وقت العمل ووقت الدراسة، والفارق بين إدارة الوقت في العمل وإدارة الأوقات الأخرى - أن المدير لوقت العمل تتعدى إدارته لوقته إلى إدارة الآخرين الذين يعملون تحت إشرافه، في حين أن إدارة الأوقات الأخرى تكون إدارة ذاتية تخص الشخص نفسه، وهو المسؤول عنها والمتحمل نتائجها).

 

أدلة من القرآن الكريم على أهمية الوقت:

من هذه الأدلة ما أقسم بها الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالزمن:

1) فقال تعالى:  {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}  [العصر: 1 - 3]، وفي هذه السورة العظيمة أقسم الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالعصر وهو الدهر والزمن والوقت، وقد ذكر القرطبي في تفسيره لهذه السورة: (أي عصر أقسم الله به ـ عز وجل ـ لِما فيه من التنبيه بتصرُّف الأحوال وتبدُّلها، وما فيها من الأدلة على المصانع، وجواب القسم إن الإنسان لفي خسر؛ أي غَبن).

 

2) قال تعالى:  {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}  [فاطر: 37]، وقد علَّق على هذه الآية خلدون الأحدب: (لقد كانت أعماركم التي وهبناكم بين أيديكم تكفي لمن أراد أن يتذكَّر ويتفكَّر، ويعمل صالحًا)، ومن هذا المنهج القرآني الكريم يُمكن أن نستخلص أهميةَ الوقت للإنسان المسلم؛ حيث ألقى عليه هذا المنهج مسؤولية استغلال الوقت الاستغلال الأمثل الذي يحقِّق مرضاة الله تعالى، وفائدة الإنسان.

 

أدلة من السنة النبوية الشريفة في أهمية الوقت:

1 - عن أبي برزة الأسلمي قال: إن رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ: عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ, وَعَنْ عِلْمِهِ مَا فَعَلَ بِهِ, وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ, وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ»[1].

 

2) عن ابن عباس ما قال: قال النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ, وَالْفَرَاغُ»[2].

 

3) عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ»[3].

 

4) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا، فَلْيَغْرِسْهَا»[4].

 

خصائص الوقت:

هذا الوقت له خصائص، ومن أهم خصائصه:

سرعة انقضاء الوقت: الوقت يمضي سريعًا، خاصةً أيام السعادة والشباب والسرور والفرح، هذه أوقات سرعان ما تنقضي، إذًا فهذه خاصةٌ من خصائص الوقت، وإن كانت لحظات الأسى والحزن والألم تَمر بطيئةً على النفس، فهذا الوقت سرعان ما ينقضي ويتذكره الإنسان، وأنت تذكَّر نفسَك: كيف كانت طفولتك؟ كيف كان صباك؟! والآن تجد نفسك شابًّا يافعًا كبيرًا ذا أسرة، أو متحملًا مسؤوليةً.

 

نوح عليه السلام بُعث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، هذه مدة بَعثته، أما عمره، فقيل: هو على الألف، أو نيَّف على الألف سنة، قيل له: يا أطول الأنبياء عمرًا، كيف وجدت العمر؟ كيف وجدت الوقت؟ كيف وجدت الحياة؟ قال: وجدت الدنيا كداخلٍ من باب ثم خرج من باب آخر.

 

الوقت لا يعود:

الخاصة الثانية للوقت بعد سرعة انقضائه هي أن ما مضى منه لا يُمكن أن يعود أبدًا، الدقيقة تمضي لكن لا يُمكن أن تردَّها بكل ما أُوتيت من وسائل الدنيا بخيلها ورَجِلها وأموالها ورجالها وسلاحها وعتادها، لا يُمكن أن تستردَّ من هذا الوقت لحظة واحدة.

 

حينما نعد خصائص الوقت، يعني ذلك أن ننتبه لأهمية الوقت؛ قال الحسن البصري: (ما من يومٍ يخرج على ابن آدم إلا وينادي فيه منادٍ: يا بن آدم، أنا خلقٌ جديد، وعلى عملك شهيد، فتزوَّد مني، فإني لا أعود أبدًا)، هذه من خصائص هذا الوقت أنه يمضي ولا يعود، ولذلك يقول كثير من الناس: إن الوقت كالسيف إن لم تقْطعه قطعك، بل إنه أدق عبارة للوقت؛ لأن كثيرًا من الحكماء والعقلاء شبَّهوا الوقت به.

 

 

الوقت أنفس ما يَملِك الإنسان:

الخاصة الثالثة في هذا الوقت: أنه أنفس ما يملك الإنسان؛ لأنه لا يمكن أن أحدًا يسلفك ويعيرك من وقته مهما بلغ الأمر، حياتك محدودة، حينما تأتي ساعة الأجل، لو يأتي الناس أجمعون، ويقولون: نريد أن نتبرع لهذا بخمسة أيام من أعمارنا لا يمكن إطلاقًا، فهو أنفس ما تَملِك، ولا يعوض بشيء، وإذا مضَى لا يرجع.

 

 

الأمور الدالة على أهمية استغلال الوقت:

دل على خطر الوقت والنَّفَس ثلاثة أمور:

الأمر الأول: أنه لو تاجَر العبدُ مع ربه عز وجل في كلِّ نفَسٍ من أنفاسه، لربِح على الله عز وجل أعظم الأرباح؛ قال النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): «اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّكُمْ تُؤْجَرُونَ عَلَيْهِ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ: ألم حَرْفٌ، وَلَكِنِ الْأَلِفُ حَرْفٌ، وَاللَّامُ حَرْفٌ، وَالْمِيمُ حَرْفٌ»[5].

 

الأمر الثاني: الذي يدل على خطر الوقت والأنفاس أن الأنفاس التي قدَّرها الله عز وجل لنا عددُها مُغيَّب عنا، كما قال الحسن البصري: المبادرة المبادرة! فإنما هي الأنفاس لو حبست انقَطعت عنكم أعمالكم التي تتقرَّبون بها إلى الله عز وجل، رحم الله امرأً نظَر في نفسه ثم بكى على عدد ذنوبه، ثم قرأ:  {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا}  [مريم: 84]، آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراقُ أهلك، آخر العدد دخولك في قبرك.

 

الأمر الثالث: أن كل نفس يُنفق في غير طاعة الله عز وجل قد يكون آخر الأنفاس، وأي نفَس ينفق في غير طاعة الله قد يكون آخر الأنفاس، والعبرة بالخواتيم؛ قال النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ»؛ أي: إن عاقبة العبد تتعلَّق بخاتمته، فمن خُتم له بعملٍ من أعمال أهل الجنة دخل الجنة، ومَن خُتم له بعملٍ من أعمال أهل النار، دخل النار والعياذ بالله.

 

قيمة الوقت عند الصحابة ومن بعدهم:

يقول الحسن البصري: أدركتُ أقوامًا كانوا على أوقاتهم أحرصَ منكم على دنانيركم ودراهمكم؛ يقول ابن مسعود: ما ندِمت على شيء ندمي على يوم غرَبت شمسه نقَص فيه أجلي ولم يَزِد فيه علمي.

 

إياكم والتسويفَ، لا شك أن كل الحضور عندهم قناعة تامة الآن بقيمة العلم، ويريد الواحد منا أن يكون عالِمًا من علماء المسلمين، ونحسَبكم جميعًا على خيرٍ، ولا نزكي على الله أحدًا، لكن ليس كلنا سيبتدئ اليوم في العمل، فهناك ناس ستقول: سأبتدئ إن شاء الله من أول الأسبوع، أو من أول السنة الآتية؛ لأن هذه السنة مضى منها جزء، وإن شاء الله السنة القادمة سأهتم اهتمامًا كبيرًا.

 

من قصص السلف في المحافظة على أوقاتهم:

كان السلف أحرصَ الناس على أوقاتهم، وكانوا يبخلون بالوقت والنفس أن يُنفق في غير طاعة الله عز وجل، وكانوا أشدَّ بخلًا بذلك من أشد الناس بخلًا بماله، وكانوا يعدون خصال الخير، ويبكون على أنفسهم إن فاتهم شيءٌ منها؛ دخل بعضهم على عابد مريض، فنظَر إلى قدميه وبكى وقال: ما اغبَرَّتا في سبيل الله، وقال أحدهم: أَعُدُّ ثلاثين خصلة من خصال الخير ليس في شيء منها، وقال بعضهم لأحد العلماء: قفْ أكلِّمك، فقال: أوقِف الشمس، أوقف الشمس.

 

وكان يزيد الرقاشي يبكي ويقول: يا يزيد، مَن يبكي بعد لك، من يترضى ربَّك عنك.

 

ودخلوا على الجنيد وكان يصلي وكان في النزع، فقالوا له: الآن! قال: الآن تطوى صحيفتي.

 

ذكر بعض الخطط السريعة المعينة على اغتنام الأوقات:

خطط سريعة تعين على اغتنام الأوقات:

الخطة الأولى: ابدأ من الآن في إعداد جدول عملي للعلم.

 

الخطة الثانية: حدِّد الهدف والأولويات، في أي مجال من مجالات العلوم سأعمَل؟ ما هدفي؟ إلى ماذا أصل؟ ما نيَّتي؟ ثم ترتِّب ما هو الأول، ثم الذي يليه، وهكذا.

 

الخطة الثالثة: ضَعْ خطة فيها كلُّ الدوائر التي تهمك، فأنت لستَ فقط طالبَ علمٍ، فأنت طالب، ويُمكن أن تكون زوجًا أو أبًا أو ابنًا أو موظفًا، أو عاملًا أو أستاذًا، أو عندك أعمال أخرى في حياتك، عندك رَحِمٌ، وعندك أمة إسلامية، وعندك دعوةٌ، وعندك مسجد، ولديك نادٍ تذهب إليه، وهناك أمور كثيرة جدًّا مشغول بها، ضَعْ خطة فيها كلُّ الدوائر وقسِّم الأعمال على الدوائر، ورتِّب الأولويات.

 

الخطة الرابعة وهي مهمة جدِّا: أن تُشرك معك ذوي الخبرة، فإذا كنت صاحب كيمياء أو فيزياء، أو فقه أو حديث، فلا تضَع خُطتك لنفسك، ولكن اجلِس مع أحد المتخصصين حتى يساعدك في وضْع خُطة محكمة، وابدَأ من حيث انتهى الآخرون، استفِد من تجارب السابقين وإخوانك وأصحابك وأقرانك، وأساتذتك وعلماء الأمة.

 

الخطة الخامسة قبل الأخيرة: تابِع خطتك، يعني: بعد أن تعمل الخطة وتضع مقدارًا زمنيًّا معينًا لتنفيذ هذا العمل في ثلاثة شهور أو سنة أو سنتين، اعمَل متابعة لنفسك بعد شهر مثلًا، وحاسِب نفسك: ماذا عمِلت؟ هل تمشي في الطريق مشيًا صحيحًا، أم أنك تضيِّع وقتك؟ وبعد ثلاثة أشهر تجلس مع نفسك، ثم بعد ستة أشهر وبعد سنة، لتكُن لك جلسات تقييم مستمرة، وإلا ستتفاجَأ أن سنتين مضَتا وأنت لم تعمل شيئًا؛ لأنك وضعتَ خطة ولم تتابِعْها.

 

الخطة الأخيرة: تَحَلَّ بأخلاق العلماء الربانيين؛ لأنه يُمكن أن تكون عالِمًا، ولكن قد تُسَعَّرُ في جهنم والعياذ بالله، ومعلوم أن أول ما تُسَعَّرُ جهنم تُسعر بعالم وبمجاهد وبِمُنفق، فعليك أن تتحلى بأخلاق العلماء الربانيين.

 


[1] رواه الترمذي وقال الشيخ الباني إسناده صحيح.

[2] رواه البخاري .

[3] رواه الحاكم في المستدرك، وقال الشيخ الباني حديث صحيح.

[4] مسند الامام أحمد، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.

[5] رواه الحاكم في المستدرك وقال الشيخ الألباني صحيح.

______________________________________________________

الكاتب: عفان بن الشيخ صديق السرگتي