|2| البسملة

أيمن الشعبان

من أعظم الحِكم والغايات من إنزال الآيات، التدبر والتفكر واستخراج الدرر والمكنونات، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29]

  • التصنيفات: القرآن وعلومه -

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فإن من أعظم الحِكم والغايات من إنزال الآيات، التدبر والتفكر واستخراج الدرر والمكنونات، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].

يقول ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (1/450): فَلَيْسَ شَيْءٌ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَأَقْرَبَ إِلَى نَجَاتِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَإِطَالَةِ التَّأَمُّلِ فِيهِ، وَجَمْعِ الْفِكْرِ عَلَى مَعَانِي آيَاتِهِ.

قال سفيان بن عيينة رحمه الله (زاد المسير في علم التفسير، 2/370): قال سفيان بن عيينة: إِنما آيات القرآن خزائن، فإذا دخلتَ خزانةً فاجتهد أن لا تخرج منها حتى تعرف ما فيها.

فهذه فوائد ووقفات وهدايات وتأملات في البسملة قبل التلاوة:

1- البسملةُ هي أن تقولَ "بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم".

2- من الأذكارِ المهمةِ العظيمة التي يحتاج إليها العبدُ في يومه وليلته، بل تبقى معه حتى دخولَه القبر؛ البسملة.

3- إن أول ما نزل من الوحي على نبينا عليه الصلاة والسلام تضمّن الأمرَ بالبسملة: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}.

4- البسملة نعمة عظيمة، لأن ملكَ الملوك أذن لك أن تستعين به! فكم من البشر عندما يترأس يتأفف ممن يطلب العون منه!

5- فيها إشارةٌ إلى أن الأمورَ العظيمةَ تبدأ بالبسملةِ، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يقرؤها في أول كلِّ سورةٍ إلا سورةَ التوبة.

6- لما أرسلَ سليمانُ عليه الصلاة والسلامُ رسالةً إلى ملكةِ سبأ قال فيها: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.

7- يُستحب للمسلم في الأمور المهمة أن يبدأ بالبسملة، في بداية الكتاب والرسائل المهمة والدرس والاجتماع، فقد كان صلى الله عليه وسلم يكتب البسملة كاملة في بداية رسائله إلى الملوك.

8- البسملة أدب أدّب الله به نبيه صلى الله عليه وسلم بتعليمه تقديم ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وبين يدي كل مهماته.

9- البسملة جاءت بعد الاستعاذة، من باب التخلية قبل التحلية، فتهيئة المكان وتخليته من العدو، ثم طلب العون والمدد من الله.

10- إذا فارق المسلمُ الدنيا؛ صَحِبته "بسم الله" في قبره؛ فتُشرَع التسمية عند وضْعِ الميتِ في قبره.

11- تلاوة القرآن طاعة عظيمة، والطاعات تبدأ بالبسملة، والقرآن دستور ومرسوم إلهي، لذلك يصدر باسم الله.

12- البسملة عند الفقهاء: تكون شرطا عند الذبح، وواجبة عند الوضوء لمن تذكر، وسنة عند دخول المنزل، وتكون مكروهة إذا كان في الخلاء.

13- البسملة عند المفسرين: أجمعوا أنها بعض آية من سورة النمل: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[النمل:30]، وذكر جمع أنها آية من سورة الفاتحة، وذكر آخرون أنها للفصل بين السور وليست آية.

14- حين نقول "بسم الله"، فإن المعنى يكون: "أبدأ باسم الله"، أو "أقرأ باسم الله"، أو "ابتدائي باسم الله"، أو "قراءتي باسم الله".

ويجوز أيضًا أن يُقال: "باسم الله أبدأ"، أو "باسم الله أقرأ"، أو "باسم الله تكون قراءتي"، أو "باسم الله يكون ابتدائي".

15- البداءة بالبسملة تَجلب التبرك والتيمن، وتُعلن الاستعانة بالله تعالى وحده، ومن أعرض عنها، فقد يُحرَم بركة ما يُقدِم عليه.

16- ليست البسملة دلالةً على مجرد البداءة بالفعل، بل هي استـعانةٌ بالله على أداء الفعل على الوجه الذي يُرضيه.

17- البسملة أدبٌ من آدابِ الدين، وشعارٌ للمسلمين، وشعيرةٌ عظيمة، وقُربةٌ وطاعةٌ جليلة. وهي إقرارٌ بالعبودية، واعترافٌ بالنعمة، وقد اشتملت على تعليم عظيم، يُرشد إلى استفتاح الأمور بالتبرك بالله، وتعظيمه بذكر اسمه.

18- في البسملة إثباتٌ لأنواع التوحيد الثلاثة:

توحيد الألوهية، في لفظ الجلالة "الله"، إذ فيه إفراد الله بالعبادة، وتوحيد الربوبية، إذ إن من أقر بألوهيته استلزم ذلك إقراره بربوبيته، وتوحيد الأسماء والصفات، في اسميه الكريمين "الرحمن الرحيم".

19- في البسملة يتبرأ العبدُ من حوله وقوّته، ويلجأ إلى حول الله وقوّته؛ فإذا قلتَ "بسم الله"، فأنت تُظهر ضعفك وعجزك وذلّك، وتُعلن افتقارك، لتستمد القوة والعون من القوي العزيز الغني.

20- تجمع البسملة بين معاني الترغيب والترهيب، وهو دليلٌ على كمال عظمة الله سبحانه؛ ففي لفظ الجلالة "الله" ما يدلّ على القهر والغلبة والعظمة، وفي "الرحمن الرحيم" إشعارٌ بلطفه بعباده ورحمته الواسعة بهم. وهذا الجمع البديع يُورث في قلب العبد خوفًا من عظمة الله وهيبته، ورجاءً في رحمته وفضله، فيسير إلى ربّه بين جناحي الخوف والرجاء.

21- قال بعض العلماء: إن قوله تعالى: "بسم الله الرحمن الرحيم" قد اشتمل على جميع معاني الشرع؛ لأنها دلت على الذات الإلهية، ودلت على الصفات العظيمة، وهذا قولٌ صحيحٌ معتبر.

22- فمعنى أن أبتدئ عملي بقول: "بسم الله الرحمن الرحيم"، أنني أؤديه امتثالًا لأمر الله، وطلبًا لرضاه، لا تحقيقًا لحظوظ النفس وشهواتها.

23- معنى البسملة التي جاءت في أول الكتاب الكريم، أن جميع ما في القرآن من أحكام، وشرائع، وأخلاق، وآداب، ومواعظ، إنما هو من الله، ولله، لا يشاركُه فيه أحد.

24- في البسملة مخالفةٌ للمشركين الذين كانوا يبدؤون أعمالهم بالاستعانة بأسماء أصنامهم وأوثانهم، أما العبدُ الموحدُ فيبدأ عمله مستعينًا بالله وحده، صادقًا في توكّله وتفويضه.

25- ذكر اسم الله في البسملة له تأثير عظيم في طرد شر الشيطان، وذلك إذا كان الذاكر يذكره بصدقٍ وإخلاص، حيث إن البسملة تُعد حصنًا للعبد من وساوس الشيطان وسعيه للإضلال.

26- فيها تنبيهٌ على أن العونَ التامَّ والبركةَ لا يأتيان إلا من الله تعالى، فلا يجوز طلبُهما من غيره.

27- الاستعانة بالله هي مفتاح النجاح والفلاح، وحتى وإن لم يظفر العبد بما هو أعظم، فإنه يكون قد غنم بأجر الاستعانة نفسها، فهي عبادة جليلة.

28- البدء باسم الله هو رادعٌ للعبد عن معصيته فيما يقبل عليه، فمَن عرف الله تعالى استحى أن يبدأ فعل المعصية باسمه، لأنه لا يجوز للعبد أن يستعين باسم الله في أمرٍ يخالف مرضاته.

29- البدء بالبسملة يدفع العبدَ لأن تكونَ أعماله وأقواله طيبة، لتجانسها مع هذا الذكر الطيب، فيصبح عمله وكلامه متوافقًا مع ما يبدأ به من ذكر لله تعالى.

30- البدء بالبسملة يدفع العبدَ للفأل والأمل، ويجعل قلبه بعيدًا عن اليأس والقنوط، فكل من استقرت في قلبه سعة رحمة الله لا يمكن أن يدبَّ اليأس في نفسه.

31- افتتاح القراءة بالاسمين "الرحمن الرحيم" يحمل في طياته طمأنينة للقلب، ففيهما جمال ورحمة تهدئ النفس وتمنحها السكينة.