دفن البذور عند الشيخ ابن باديس -رحمه الله-

ودفن البذور مصطلح أريدُ به أن يعمل المصلح القرآني على ترسيخ أدوات الخير، دون انتظار نتيجة عاجلة، وأهل هذه الرتبة -الذي هم أهلها حقًا- صفوة العاملين لله.

  • التصنيفات: مجتمع وإصلاح -

كانت الجزائر ذلك الوقت تعيش غربة خانقة، ولم يكن هينًا على الإنسان آنذاك تخيل البلد بدون استعمار فرنسي، إذ الفأل في بعض الأحوال عمل ثوري تام الأركان، وهذه شهادة من الشاعر محمد الأمين العمودي (ت:١٣٧٧هـ)، وسترى تحت مجاري حديثه حالته الشعورية؛ يقول:

 

"أما حياتي فحياة كل مسلم جزائري، حياة بلا غاية ولا أمل، حياة من لا يأسف على أمسه، ولا يغبط على يومه، ولا يثق في غده، تلك حياتي من يوم عرفت الحياة، لم أظفر بعقد هدنة مع الدهر الذي أشهر علي حربًا عوانًا لا أدري متى يكون انتهاؤها، ولا أظن أن يكون لها انتهاء، لأن هذا العدو القوي الظلوم الجائر الغشوم لا يمسك عني إحدى يديه إلا ليصفعني بالأخرى"[1]

وهذه شهادة أخرى مؤلمة للحالة العلمية وقتئذٍ، يقول الزعيم المصري محمد فريد بك (ت:١٣٣٨هـ)، بعد زيارة دامت لأشهر لكبريات المدن الجزائرية تلمسان والجزائر العاصمة وقسنطينة:

"أصبحت البلاد وليس فيها من المدرسين بالجوامع إلا ما يعد على الأصابع، وقل الطالب والمطلوب، وهجرت ربوع العلم، وخربت دور الكتب، وصارت الديار مرتعًا للجهل والجهلاء، وكادت تندرس اللغة العربية الفصحى، وباختصار فحالة التعليم بالقطر الجزائري سيئة جدًا، ولو استمر الحال على هذا المنوال لحلت اللغة الفرنسية محل اللغة العربية في جميع المعاملات، بل وربما تندرس اللغة العربية العربية مع مرور الزمن، فلا الحكومة تسعى في حفظها، ولا تدع الأهالي يؤلفون الجمعيات لفتح المدارس لمنعها أي اجتماع خوفًا من أن تشتغل جمعياتهم بالأمور السياسية"[2]

 

ودفن البذور مصطلح أريدُ به أن يعمل المصلح القرآني على ترسيخ أدوات الخير، دون انتظار نتيجة عاجلة، وأهل هذه الرتبة -الذي هم أهلها حقًا- صفوة العاملين لله.

ومن أوجه تطبيق الشيخ ابن باديس لهذه المنهجية:

 

أولًا: التعليم: فقد كان أول ما قام به لما نزل قسنطينة التعليم، وأخذ يعلم صغار الصبيان الذي يقرؤون القرآن في الكتاتيب، خصوصًا في كتّاب سيدي فتح الله.[3]

وحين التقى ابن باديس الشيخ البشير الإبراهيمي في المدينة المنورة اتفقا أن يشرعا في دفن بذور حركة علمية واضحة المعالم، يكون فيها التركيز على الكيف لا الكم، يقول الإبراهيمي:

"كانت الطريقة التي اتفقنا عليها أنا وابن باديس في اجتماعنا بالمدينة في تربية النشء هي ألا نتوسع له في العلم، وإنما نربيه على فكرة صحيحة ولو مع علم قليل، فتمت هذه التجربة في الجيش الذي أعددناه من تلامذتنا"[4]

 

انتقل الشيخ إلي المسجد الأخضر للتعليم والتربية، وحوّل المسجد إلى مُناخٍ للاستهداء، فقدم للطلاب المسكن والطعام والدواء والرعاية التامة، وكانت له لفتات حانية؛ إذ كان يستقبلهم فور وصولهم قسنطينة، ويودعهم بعد انتهاء السنة الدراسية، وكان يوقظهم قبل الفجر بنفسه.

 

ولم يكن مشروعه التعليمي مقتصرًا على جنس دون آخر، وكان يدعو الآباء لتعليم بناتهن، وإلحاقهن بجمعيات التعليم، وقد قال في إحدى المناسبات:

"لماذا تعاقب المرأة بعلمها؟ هل العلم وِرْدٌ صفاء للرجل ومنهج كدر للنساء؟ هل له تأثيران حسن على فكر الذكور قبيح على فكر الإناث"[5]

 

يحكي الشيخ بنفسه عن دأبه في دفن البذور فيقول:

"لما قفلنا من الحجاز وحللنا بقسنطينة عام ١٣٣٢هـ [١٩١٣م] وعزمنا علي القيام بالتدريس، أدخلنا في برنامج دروسنا تعليم اللغة العربية وآدابها، والتفسير، والحديث، والأصول، ومبادئ التاريخ، ومبادئ الجغرافيا، ومبادئ الحساب، وأخذنا نحث على تعليم جميع العلوم، لما قمنا بهذا وأعلنا قامت علينا القيامة، قيامة أهل الجمود والركود، وصاروا يدعوننا -للتنفير والحط منا- عبداويين، أي: الذين ينصرون فكرة محمد عبده الإصلاحية"

 

ثم يقول -وهنا تلحظ جلَده وعدم استعجاله النتائج- :

"لم نلتفت إلى قولهم، ولم نكترث لأفكارهم على كثرة سوادهم، وشدة مكرهم، وعظيم كيدهم، ومضينا على ما رسمنا من خطة، وصمدنا إلى ما قصدنا من غاية، وقضينا عشر سنوات وأظهرت بحمد الله نتائجها"[6]

 

ثم عقب الشيخ أحمد حماني:

"واسمحوا لي أن أذيع الأسرار. جمعية العلماء عقيدة اقتنع بها ابن باديس وإخوانه وفي طليعتهم الإبراهيمي، إن فترة العشر سنوات كانت كافية لتكوين نواة نشء علمي كفء للقيام بالدعوة، ولكنها لم تكن كافية للإقدام على عمل جماعي، وعلى تأسيس جمعية عظيمة، تنسق أعمال الأفراد وتربط بينهم، وتعمم المبادئ والمشاريع في جميع البلاد، لأن عملًا مثل هذا يجب أن تلتف حوله الأمة وتستعد للتضحية، ولا سبيل إلى ذلك إلا بإنشاء رأي عام في الأمة يدفع العلماء إلى تأسيس الجمعية.

 

ويقول ابن باديس بخطه في المقالة السابقة: " فكان لزامًِا علينا أن نؤسس لدعوتنا صحافة تبلغها للناس"[7]، وهنا بدأت المرحلة الثانية.

 

ثانيًا: الصحافة:

بدأت المرحلة الثانية من دفن البذور حين ساهم الشيخ في تأسيس صحيفة "النجاح" عام ١٩١٩م، وكان يكتب فيها بأسماء مستعارة: كالقسنطيني، والعبسي، والصنهاجي، وقد ترك الصحيفة وأسس صحيفته الخاصة.

 

أسس صحيفة "المنتقد" عام ١٩٢٥م، ثم توقفت بعد صدور ثمانية عشر عددًا، ثم أعقبها فورًا بصحيفة "الشهاب" التي استمرت حتى عام ١٩٣٩م، وكان أسبوعية ثم صارت شهرية.

"صنوان أنشئا على مبدأ واحد، ولغاية واحدة، قضت طوارق الزمن على أحدهما فخلفه الآخر" هكذا وصف ابن باديس "المنتقد" و "الشهاب".

ورد في أول مقالاته في الشهاب: "تستطيع الظروف تكييفنا، ولا تستطيع إتلافنا".

وفي نفس العام أصدر الشيخ محمد السعيد الزاهري جريدة "الجزائر"، وعطّلتها الحكومة.

وأصدر رفيق ابن باديس الشيخ العقبي والشيخ أحمد العابد جريدة "صدى الصحراء"، ثم صدرت جريدة "البرق" سنة ١٩٣٧م، وأصدر الشيخ العقبي أيضًا جريدة "الحق" في بسكرة سنة ١٩٣٦م.

كما أصدر الشيخ أبو اليقظان جريدة "وادي ميزاب" في سنة ١٩٢٦م، فعطلتا الحكومة بعد نحو عامين ونصف، ثم أصدر بعدها جريدة "ميزاب" فصودرت، فأصدر بعدها "المغرب" ثم "النور" ثم "النبراس".

 

وهكذا استمر سياسة "جز العشب"، كلما طالت نبتة، واقتربت ثمرتها جزّتها يد المستعمر، لتعيدهم لنقطة الصفر الإصلاحي.

وهنا أتت فكرة قديمة، هي بذرة "جمعية العلماء المسلمين" لتكون المرحلة الثالثة.

 

ثالثًا: الجمعيّات:

البذرة المدنية آذنت بالإثمار، ففي إحدى ليالي طيبة الطيبة وضعت مخططات إنشاء جمعية العلماء المسلمين، لكن سبقها مهاد تعليمي نحو عشر سنوات، ومهاد إعلامي عام امتد هو الآخر سنوات عدة.

 

يقول البشير الإبراهيمي:

"وأشهد الله على أن تلك الليالي من سنة ١٩١٣م هي التي وضعت الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي لم تبرز للوجود إلا في سنة ١٩٣١م"[8]

ثمانية عشر عامًا والبذرة مدفونة في تربة الإصلاح، لا يعلم عنها العدو شيئًا، حتى أينعت وأزهرت.

 

كان الشيخ ابن باديس في فترة الصحافة يوطئ لفكرته بأحاديث عن الوحدة والاتحاد، فمثلًا قال في العدد الثالث من الشهاب:

"أيها السادة العلماء المصلحون المنتشرون بالقطر الجزائري، إن التعارف أساس التآلف، والاتحاد شرط النجاح، فهلموا إلى التعارف والاتحاد بتأسيس حزب ديني محض"[9]

 

وفي يوم الثلاثاء السابع عشر من ذي الحجة عام ١٣٤٩هـ (الموافق: ٥/٥/١٩٣١م) ولدت جمعية العلماء الجزائريين، برئاسة ابن باديس[10].

 

وبذا صارت أرض الجزائر صالحة للتغيير الذي خُتمت سلسلته بجهاد المستعمر، بعد سنوات من دفن البذور التي كان يتوارى بها المصلحون، ويتنادوا إليها همسًا، كان ابن باديس يفكّر حين كان التفكير ممنوعًا، وينطق حين البقية يخشون التفكير فيه؛ لأن المصلح القرآني أوسع خطوًا ببصيرته من غيره، فهو صاحب الخطوة الأولى، وقد جرت سنة الله ألا يعان طالب المعالي ما دام في طريقها، فإذا وصل ادعى كل من حوله أنهم كانوا رفاقه أثناء المسير.

 

____________________

[1] انظر: شعراء الجزائر في العصر الحاضر، لمحمد الهادي الزاهري السنوسي (٢/ ٢٠)

[2] التعليم والمدارس في الجزائر، مقالة لمحمد فريد بك، جريدة اللواء، العدد: ٦١٢، ١٣/ ١٠/ ١٩٠١م، وقد أفدت هذا النقل والسابق من كتاب الدكتور: السلوادي "عبدالحميد بن باديس مفسرًا".

[3] انظر: الإمام عبدالحميد بن باديس حياته وآثاره، د. عمار الطالبي (١/ ٨٥)

[4] "أنا" لمحمد البشير الإبراهيمي ص١٤٣.

[5] انظر: "عبدالحميد بن باديس العالم الرباني والزعيم السياسي"، لمازن مطبقاني ص٥١-٦٤.

[6] انظر: "ابن باديس والإبراهيمي وجمعية العلماء المسلمين في الثورة الجزائرية" للشيخ: أحمد حماني ص٤٨-٤٩

[7] السابق ص٥٠

[8] آثار البشير الإبراهيمي (٥/ ٢٨٧)

[9] انظر: التجربة الدعوية للشيخ عبدالحميد ابن باديس، إعداد مركز البحوث والدراسات، ص١٤٧ وما بعدها.

[10] اطلعت علي رسالتين جامعيتين مفيدتين في تأريخ الجمعية.

الأولى: للدكتور إسحاق السعدي "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين منهجها وآثارها"، رسالة ماجستير بجامعة الإمام حمد بن سعود، عام ١٤٠٧هـ، كلية الشريعة.

والثانية: للدكتور مازن مطبقاني "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ودورها في الحركة الوطنية الجزائرية"، رسالة ماجستير من جامعة الملك عبدالعزيز عام ١٤٠٤هـ-١٤٠٥هـ، قسم التاريخ.

وقد أحصى الباحث الدكتور مسعود فلوسي ما كتب عن الجمعية من كتب ورسائل وبحوث ووجدها نحو ١٣٧ عملًا.

_____________________________________________
الكاتب: بدر بن مرعي آل مرعي