شيخُ الشباب
حين أطالع تراجم الأئمة في سير الذهبي، وطبقات السبكي، ووفيات ابن خلّكان، أوقن أن الأثر لا يُصنع بصوتٍ مرتفع، بل بخطى ثابتة على درب الحق، ولم تكن العظمة في فصاحة اللسان، بل في عمق الفكرة، وسكينة المقصد، ومتانة البناء الخفيّ
- التصنيفات: تزكية النفس -
حين أطالع تراجم الأئمة في سير الذهبي، وطبقات السبكي، ووفيات ابن خلّكان، أوقن أن الأثر لا يُصنع بصوتٍ مرتفع، بل بخطى ثابتة على درب الحق، ولم تكن العظمة في فصاحة اللسان، بل في عمق الفكرة، وسكينة المقصد، ومتانة البناء الخفيّ، وفي هذا السياق، خطر لي لقبٌ اجتهدتُ في تسميته: “شيخ الشباب”، لا على جهة الترف، بل على جهة التمييز بين الحماسة العابرة والبصيرة الراسخة.
هو من يَجمع حرارة الجيل بوعي التأسيس، ويصوغ وعيًا لا يذوب عند أول اصطدام، ذلك مقامٌ لا يُوهب بكثرة الكلام، بل يُمنح لمن نهض بتكاليفه في زمنٍ كثرت فيه الألقاب وقلّت فيه الأثقال.
وهو ليس وصفًا طارئًا يُعلّق على الأكتاف، ولا لقبًا يُنتزع من زحمة الأضواء، بل مقامٌ تولّده الموازنة الدقيقة بين حرارة التغيير وسكون التمكُّن، بين توثُّب البدايات ورسوخ النهايات، هو ذلك النموذج النادر الذي إذا تحدّث إلى الشباب لم يتكلف النزول إليهم، لأنه لم يغادرهم أصلًا، وإذا جالس الشيوخ لم يداور لغتهم، لأنه يحمل من سكينتهم ما يليق بالمقام.
شيخُ الشباب هو من جمع الله له في قلبه حدّة النظر وبُعد الخُطى، فإذا فكرَ، ربط بين السنن لا بين الشعارات، وإذا قرر، مدّ بصره إلى العواقب لا إلى فتنة التأثير. لا يستخفّه التصفيق، ولا تجرّه المجازفة، لأنه يزن الأشياء بميزانٍ أدق من الضجيج، وأثقل من وهج اللحظة.
هو من يَفهم أن الميدان لا يُدار بردّات الفعل، ولا يُبنى بصخب الحشود، بل بمن امتلك وعيًا مركّبًا: يُبصر هشاشة الواقع، لكنه لا يسقط في اليأس، ويؤمن بسنن الإصلاح، لكنه لا يُسرع على جسرٍ لم يُشدَّ بعد.
شيخُ الشباب ليس ابنًا للمرحلة، بل هو ناظمٌ لاتّزانها، يَعرف مداخل الانهيار، ويُحسن صناعة المفاتيح، فيكون دعامةً فكرية حين تميل الموازين، وصمام توازن حين يشتدّ التيار.
شيخ الشباب هو الذي إن مشى مع الجيل الصاعد لم يتصاغر، بل شبّ هو بهم، وإن جلس إلى الشيوخ لم يتكلّف، بل تلبّس سمتهم وكأنه أحدهم، يحمل مشروعًا يتنفّس، لا فكرةً تتردّد، ويعرف أن التغيير لا يكون بانفجار العاطفة، بل بانضباط الشعور وامتداد النظر.
هو من إذا تكلّم مع الشيوخ فهموه، وإذا نادى الشباب تبعوه، لأنه لا يتكلّف لسان أحد، بل يجمع لغتين: لغة الجيل القادم، ولسان الخبرة المتراكمة، فتستقيم له المعادلة التي تُخفق فيها المؤسسات وتُرهق بها المشاريع.
وإذا أردت أن تراه، فلا تبحث عنه في أعمار الرجال، بل التفت إلى من يحمل في صدره جذوةً لا تحرق، وبصيرةً لا تتكاسل، وعزيمةً لا تنكسر، فذاك هو شيخ الشباب، وإن لم تبيّض لحيته بعد.