حث العلماء والدعاة وطلاب العلم على إصلاح ذات البين
محمد بن علي بن جميل المطري
«والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم»
- التصنيفات: مجتمع وإصلاح -
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيقول الله في كتابه الكريم: {{فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}} ، ويقول سبحانه: {{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}} ، ويقول تعالى: {{وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}} .
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» ، فالجنة لا يدخلها إلا المؤمنون، ولا يتحقق إيمانهم إلا بالمحبة فيما بينهم، ومن أعظم أسباب المحبة إفشاء السلام بينهم، ففي هذا الحديث العظيم بيان أن أول طريق الجنة إفشاء السلام بين المؤمنين حتى تتحقق المحبة بينهم، فيكونوا كالبنيان يَشُدُّ بعضه بعضاً، وتتضافر جهودهم على الخير والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذلك يتحقق الإيمان الذي هو شرط دخول جنة الرحمن.
وإن الناظر إلى حال المسلمين في هذا الزمان يَكادُ قلبه يتقطع حسرة إلى ما وصلوا إليه من التنازع والاختلاف على مستوى الدول والحكومات، وعلى مستوى الأفراد والمجتمعات، وعلى مستوى العلماء والدعاة، فتفرقت الجهود، وذهب ريح المؤمنين، كما قال الله سبحانه: {{وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}} ، أي: نصركم وقوتكم ودولتكم.
وحين تنازع المسلمون وفشلوا وذهب ريحهم اجتمع الكفار على اختلاف أممهم وتعدد مِلَلِهم على حرب الإسلام والمسلمين، وصاروا يتداعون على هذه الأمة كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، كما روى أبو داود عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها!!)) فقال قائل: ومن قلةٍ نحن يومئذ؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن))، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا، وكراهية الموت))» ، فأعظم أسباب ذل المسلمين وهوانهم هو ضعف إيمانهم وتركهم العمل بما يأمرهم به كتابهم، {{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}} .
وإن بداية طريق التمكين للأمة والوصول إلى عزها هو جمع الكلمة على الحق، وإن العلماء والدعاة وطلاب العلم قدوة الناس؛ وبهم يَصلُحُ شأن الناس بإذن الله، فإذا لم يصلحوا ما بينهم من الخلافات، فكيف يصلحون غيرهم؟!
يا معشر القُرّاء يا ملح البلد ... ما يُصلِحُ المِلحُ إذا المِلحُ فَسَد
فإذا أراد العلماء والدعاة وطلاب العلم أن تصلح أمور المسلمين فعليهم أوّلاً أن يصلحوا ما بينهم، ويوالي بعضهم بعضاً، وإن لا يفعلوا ذلك يحصل شر عظيم، كما قال الله الحكيم: {{وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}} ، فهذه الفتن العظيمة في الأمة، والفساد الكبير في أحوال المسلمين، سببه عدم تولي المؤمنين بعضهم بعضاً، وتفرقهم واختلافهم فيما بينهم.
فيجب على كل العلماء وجميع الدعاة وسائر طلاب العلم أن يسعوا سعياً حثيثاً فيما يجمع شملهم، ويوحد صفوفهم، ويؤلف بين قلوبهم، حتى تزول هذه الفتنة والفساد الكبير، فإذا أصلحوا أنفسهم أصلح الله بهم أحوال أمتهم، فصلح ملوكهم ورؤساؤهم، وصلحت الشعوب بطاعة الله ورسوله وطاعة ولاة الأمر من العلماء والأمراء.
فلنبدأ من الآن بالإصلاح بين أهل السنة أولا، حتى يكونوا جماعة واحدة، ويدا واحدة كما أمرهم الله ورسوله، وهم بحمد الله أقرب الناس إلى الصلح، والخلافات التي بينهم لا تدعو إلى الشقاق والنزاع، ولكن الشيطان ينزغ بينهم، كما روى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «((إن الشيطان قد أَيِس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم))» .
والحمد لله فعلماء أهل السنة عندهم من الإيمان الصادق والعلم النافع والعمل الصالح ما يدعوهم إلى التآلف والاجتماع والتصالح، وقد حصل بين علي ومعاوية رضي الله عنهما من الحرب والقتال والدماء ما حَصَل؛ ولم يمنعهم ذلك في السعي في الصلح، ثم لم يمنع ذلك أيضاً الحسن بن علي رضي الله عنهما أن يعقد الصلح مع معاوية عام الجماعة، فحصل خير عظيم للمسلمين بسبب ذلك الصلح، وتحققت بشارة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قوله عن الحسن: «((إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يُصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين))» ، رواه البخاري من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
بل إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صالح كفار قريش عام الحديبية، وقد كره ذلك بعض المؤمنين، ثم ظهر لهم أن ذلك الصلح كان نصراً عظيماً للإسلام، وفتحاً مبيناً للمسلمين، وقد أمر الله رسوله والمؤمنين أن يُصالحوا الكفار إن جنحوا للسلم فقال سبحانه: {{وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}} ، فما بالكم بالإصلاح بين المسلمين؟! فما بالكم بالإصلاح بين الصالحين من العلماء والدعاة وطلاب العلم؟! {{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}} .
والحمد لله فأهل السنة لم يحصل بينهم حروب ولا قتال، وأكثر خلافهم هو من خلاف التنوع والأفهام، فلماذا هذا الإعراض عن الصلح؟! وإلى متى هذه الغفلة عما فيه عز الأُمّة؟!
أَنُريدُ أن يُصلِحَ بيننا اليهود والنصارى؟ أم نُريد أن يُصلح بيننا ولاة الأمر المختلفون فيما بينهم أصلا؟ أم نُريد أن يُصلح بيننا عوام الناس؟!
لماذا لا نتوكل على الله ونُبادر إلى الصلح وجمع الكلمة؟! أليس كلنا يقرأ كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفيهما الحث على الصلح، والنهي عن التنازع والتباغض والتدابر؟!
ما لنا لا نطيع أمر الله في قوله: {{فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ}} ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذا تحريج من الله على المؤمنين أن يتقوا الله وأن يُصلحوا ذات بينهم. [انظر: صحيح الأدب المفرد (304)].
أين أنتم أيها المؤمنون من قول الله سبحانه: {{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}} ؟!
وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «((لا تباغضوا؛ ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال))» ، فما لنا لا نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
وروى أحمد في مسنده بإسناد صحيح عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «((ألا أُنبئكم بدرجة أفضل من الصلاة والصيام والصدقة؟)) قالوا: بلى؛ قال: ((صلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة))» ، أي: حالقة الدين لا حالقة الشعر كما جاء تفسيره في حديث آخر.
فليوصي بعضنا بعضاً من الآن بجمع الكلمة على كتاب الله، فهو حبل النجاة الذي إن تمسكنا به خرجنا مما نحن فيه من التيه والهوان، كما قال تعالى: {{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}} ، فأمرنا الله بالتمسك بكتابه الذي يهدي للتي هو أقوم، وينهانا عن التفرق، فإلى متى هذه الغفلة عن سلوك الطريق إلى عز الأمة وسعادتها في الدنيا والآخرة؟!
ندعو العقلاء من علماء أهل السنة والدعاة وكبار طلاب العلم في كل بلد ومنطقة إلى أن يتدارسوا موضوع الصلح، وينظروا في معوِّقاته، وطرق إزالة تلك المعوقات، وينظروا في الخطوات المناسبة لإنجاح الصلح، ويهيئوا له الأسباب، ويمهدوا له الطرق.
وهذه بعض الأسباب والمقترحات التي تمهد للصلح بإذن الله إن صلحت النيات:
- أن يجتهد العلماء والدعاة وطلاب العلم في الحث على الصلح في خطبهم ومحاضراتهم وكتاباتهم، ويبيِّنوا فضائل الصلح ووجوبه ومصالحه، ومفاسد التفرق والتعصب، وأن يُكثروا من موضوع فضل الأخوة والمحبة في الله، وبيان حقوق الأخوة، وبيان وجوب تولي المؤمنين بعضهم بعضاً.
- الحث والتحريض على التمسك بالقرآن الكريم، والتوسع في تفسيره وتدبره، تعلماً وتعليماً ودعوة، والاعتماد العظيم على القرآن في الخطب والدروس والمحاضرات حتى نعتصم بحبل الله جميعاً.
- العودة إلى كتب السنة النبوية وشروحها، وإقامة المسابقات التشجيعية الواسعة في حفظ القرآن، وفي التفسير، وفي حفظ بعض كتب متون الحديث، وفي جرد أمهات كتب الحديث وشروحها.
- الحرص على التفقه في الدين، وتوسيع الصدور في مسائل الخلاف الاجتهادية، ومعرفة فقه الخلاف، وآداب الخلاف، وضوابط التعامل مع المخالف.
- أن يتعاون العلماء وطلاب العلم والدعاة في الدعوة إلى الله بالخطب والمحاضرات المتبادلة في جميع المساجد، وإقامة الدورات العلمية المشتركة، والقيام بالزيارات واللقاءات المتكررة.
- معرفة الضوابط الشرعية لباب المصالح والمفاسد، بلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا جمود.
- الإكثار من دعاء الله تعالى أن يؤلِّف بين قلوبنا، وأن يصلح ذات بيننا، وأن لا يجعل في قلوبنا غِلاً للذين آمنوا.
هذه ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين، {{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}} ، {{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}} .
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.