من أخبار المتعرضين للجناب المحمدي

في مدينة دمشق، وفي عام (704هـ) كان هناك شخص يقال له "الكمال الأحدب"، وفي أثناء نقاش حاد ألقى هذا الكمال الأحدب عبارة تتضمن الغض من مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال لخصمه أثناء النزاع: "تكذب ولو كنت رسول الله"..

  • التصنيفات: مذاهب باطلة -



الحمد لله، وبعد:
في مدينة دمشق، وفي عام (704هـ) كان هناك شخص يقال له "الكمال الأحدب"، وفي أثناء نقاش حاد ألقى هذا الكمال الأحدب عبارة تتضمن الغض من مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال لخصمه أثناء النزاع: "تكذب ولو كنت رسول الله".
فتطور الأمر قضائياً بصورة لم يتوقعها هذا الرجل بتاتاً.. حيث كان قاضي دمشق حينها هو العلامة الفقيه جمال الدين المالكي، وقد مكث قاضياً لدمشق ثلاثين سنة، وكان ممن درس على الإمام العز بن عبد السلام (صاحب قواعد الأحكام).

ولندع المؤرخ ابن العماد الحنبلي يروي لنا القصة بأسلوبه المختصر حيث يقول:
"وفي هذه السنة أي سنة 704هـ ضربت رقبة الكمال الأحدب، وسببه أنه جاء إلى القاضي جمال الدين المالكي يستفتيه، وهو لا يعلم أنه القاضي، فقال: ما تقول في إنسان تخاصم هو وإنسان فقال له الخصم "تكذب ولو كنت رسول الله"؟ فقال له القاضي: من قال هذا؟ قال: أنا، قال فأشهد عليه القاضي من كان حاضراً، وحبسه، وأحضره من الغد إلى دار العدل وحكم بقتله" [شذرات الذهب، لابن العماد الحنبلي، 6/9].


وهذا القاضي جمال الدين المالكي استمر في تطبيق حد القتل على من يتعرض لجناب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عنه الإمام ابن حجر العسقلاني: "وكان صارماً مهيباً، أراق دم جماعة تعرضوا للجناب المحمدي" [الدرر الكامنة: 5/190].

ويقول عنه أيضاً المؤرخ صلاح الدين الصفدي: "كان قاضياً يبلغ به الضعيف مرامه، ماضي الأحكام بتاتاً، أراق دم جماعة تعرضوا لجناب النبي صلى الله عليه وسلم" [أعيان العصر: 4/456].


وممن نقل وقائع قضائية ذات صلة بهذا الموضوع الإمام القاضي عياض رحمه الله في كتابه المشهور "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" ومن الأخبار التي نقلها رحمه الله قوله: "وأفتى أبو عبد الله بن عتاب في عشّار - أي جابي المكوس - قال لرجل: أدِّ واشكِ إلى النبي! وقال: إن سألت أو جهلت فقد جهل وسأل النبي صلى الله عليه وسلم: بالقتل.
وأفتى فقهاء الأندلس بقتل "ابن حاتم المتفقه الطليطلي" وصلبه بما شهد عليه به من استخفافه بحق النبي صلى الله عليه وسلم، وتسميته إياه أثناء مناظرته بـ"اليتيم"، و"ختن حيدرة"، وزعمه أن زهده لم يكن قصداً ولو قدر على الطيبات أكلها، إلى أشباه لهذا.


وأفتى فقهاء القيروان وأصحاب سحنون بقتل "إبراهيم الفزاري" وكان شاعراً متفنناً في كثير من العلوم، وكان ممن يحضر مجلس القاضي أبي العباس بن طالب للمناظرة، فرفعت عليه أمور منكرة من هذا الباب في الاستهزاء بالله وأنبيائه ونبينا صلى الله عليه وسلم، فأحضر له القاضي "يحيى بن عمر" وغيره من الفقهاء، وأمر بقتله وصلبه، فطعن بالسكين وصلب منكساً [الشفا، للقاضي عياض، 2/218].

وأما في عصر الإمام ابن تيمية فقد كانت أشهر قضية شارك فيها أبو العباس ابن تيمية نفسه هي قضية "الكاتب عساف" الذي ألقى عبارة فيها غض من مقام النبوة، فنقل خبر الحادثة لابن تيمية، فجمع ابن تيمية مجموعة من المحتسبين وتحرك لدى القضاء الشرعي، وتعرض ابن تيمية لمصاعب جمة في هذه القضية، حتى أنه اعتقل وجلد رحمه الله، وألف فيها كتاباً موسعاً انتصاراً لجناب النبي من أن ينال بتعريض أو انتقاص، ولندع ابن كثير يروي لنا الحادثة بطريقته السلسة رحمه الله: قال ابن كثير في تاريخه: "واقعة عساف النصراني: كان هذا الرجل من أهل السويداء قد شهد عليه جماعة أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم وقد استجار عساف هذا بابن أحمد بن حجي أمير آل علي، فاجتمع الشيخ تقي الدين بن تيمية، والشيخ زين الدين الفارقي شيخ دار الحديث، فدخلا على الأمير عز الدين أيبك الحموي نائب السلطنة فكلماه في أمره فأجابهما إلى ذلك، وأرسل ليحضره فخرجا من عنده ومعهما خلق كثير من الناس، فرأى الناس عسافا حين قدم ومعه رجل من العرب فسبوه وشتموه، فقال ذلك الرجل البدوي: "هو خير منكم" يعني النصراني، فرجمهما الناس بالحجارة، وأصابت عسافا ووقعت خبطة قوية، فأرسل النائب فطلب الشيخين ابن تيمية والفارقي فضربهما بين يديه، ورسم عليهما أي اعتقلهما- في العذراوية، وقدم النصراني فأسلم وعقد مجلس بسببه، وأثبت بينه وبين الشهود عداوة، فحقن دمه، ثم استدعى بالشيخين فأرضاهما وأطلقهما، ولحق النصراني بعد ذلك ببلاد الحجاز، فاتفق قتله قريبا من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله ابن أخيه هنالك، وصنف الشيخ تقي الدين بن تيمية في هذه الواقعة كتابه "الصارم المسلول على ساب الرسول" [البداية والنهاية، لابن كثير، 13/396].


وأما الكتاب الذي ألفه ابن تيمية في هذه الأزمة وهو "الصارم المسلول على شاتم الرسول" فقد قال في مطلعه: "اقتضاني لحادث حدث أدنى ماله - أي رسول الله - من الحق علينا، بل هو ما أوجب الله من تعزيزه ونصره بكل طريق، وإيثاره بالنفس والمال في كل موطن، وحفظه وحمايته من كل موذٍ، وإن كان الله قد أغنى رسوله عن نصر الخلق، ولكن ليبلوا بعضكم ببعض، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب" [الصارم المسلول: ص 2].


والحقيقة أن جوهرة كتاب ابن تيمية هي هذه الجملة المضمخة بكل معاني العزة والاستعلاء بهذا الدين وتوقير نبيه صلى الله عليه وسلم في القلوب حيث يقول رحمه الله: "فإن الكلمة الواحدة من سب النبي صلى الله عليه وسلم لا تحتمل بإسلام ألوف من الكفار، ولأن يظهر دين الله ظهورا يمنع أحدا أن ينطق فيه بطعن أحب إلى الله ورسوله من أن يدخل فيه أقوام وهو منتهك مستهان" [الصارم المسلول: ص 505].
هكذا كانت منزلة جناب رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين..

لا مساومة بتاتاً على جناب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومهابته في النفوس، وهكذا كانت سيرة أئمة وفقهاء وقضاة المسلمين، لم يكونوا يعتبرون أي عبارة فيها غض من مقام النبوة مسألة "خلاف فكري" و "وجهات نظر" تتم مناقشتها على طاولة الحوار، بل كانوا يعتبرونها قضية تعرض على سيف القضاء الشرعي.

وهؤلاء الذين يتعرضون للجناب المحمدي تحت غطاء "الفكر يواجه بالفكر" يذكرونني بعبارة تضطرم بعزة الإسلام يقول فيها ابن العربي عن نظير هذه الزندقات: "هذا كفر بارد لا تسخنه إلا حرارة السيف، فأما دفء المناظرة فلا يؤثر فيه" [العواصم: ص247].


إذا تعرض الزنادقة لجناب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تتحرك غيرتنا وحميتنا وبقينا نتفرج فبطن الأرض والله خير لنا من ظاهرها.. أي خذلان وخور وضعف بلغناه! يُسب رسول الله.. رسول الله بذاته.. بين أظهرنا في جزيرة الإسلام! ماذا بقي؟! يارب انتصر لنبيك يا ذا الجلال والإكرام..

لست بحاجة طبعاً أن أؤكد لإخواني أن هذا الجريمة الفظيعة تعالج بالطرق المشروعة، وهذا الحد في قتل سابّ النبي صلى الله عليه وسلم يختص بتنفيذه ولي الأمر فلا يُفتأت عليه، حتى لا تقع فتن وتصرفات غير محسوبة تأتي بنقيض المقصود.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه..


إبراهيم السكران