العلمانية المختبئة

فمن الفتنة الضاغطة على المسلم المعاصر الحرّ؛ أنه يحيى في وقت قد أحيط فيه بالثقافة الغربية بعلمانيتها، وطوّقت معاشه، وتداخلت نتائجها في تفاصيل ليله ونهاره، حتى غدا يراها في كل نحوٍ واتجاه!

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمن الفتنة الضاغطة على المسلم المعاصر الحرّ؛ أنه يحيى في وقت قد أحيط فيه بالثقافة الغربية بعلمانيتها، وطوّقت معاشه، وتداخلت نتائجها في تفاصيل ليله ونهاره، حتى غدا يراها في كل نحوٍ واتجاه!

لكن أشدّ ما يؤذيني في هذا الباب؛ اختباء العلمانيّة بتطبيقاتها وآثارها عن عين المسلم، وتسللها تلوذ عن بصره، حتى لا يراها بعين الناقد، فلا يدفعها بكفّ الإنكار.

• سترى آثارها فيمن يرتب أولوياته الدينية بحسب التقديم العلماني! وليس على منوال ترتيب الشريعة!

فيعظم من الدين ما هو مشترك بين الإسلام وبين غيره من الحضارة الغربية أكثر من تعظيمه لما لا يوافق الحضارة الغربية العلمانية؛ سواء عليه وافق في ذلك ترتيب الشريعة أم لم يوافق!

وإن هذا لعجب، ولكن خذ على ذلك مثلًا يتضح لك به مرادي:

فخذه في مثال الحفاوة بشأن: (حرية الرأي بضوابطه)، و(حقوق الحيوان)، و(حسن الخلق)، و(إتقان العمل)، ونعمة الخصال هذه!

لكن أن تُعظّم أكثر من مسائل توحيد الألوهية، والبراء، وتغيير المنكر، وإقامة حكم الشريعة، فهنا الموت الزؤام.

هذا إذا لم يتناولها بالتحريف والتعطيل.

وانظرها مختبئةً في تعريفهم للطفولة، وحدّها بثمانية عشر عامًا، وهو الحدّ الذي يباين التقدير الشرعي لسنّ التكليف، وهو أمر تترتب عليه كثير من الآثار في التقنينات المتعلقة بتصرفاته وأهليته.

وانظر آثارها في بداية أوقات الدوامات والأعمال، التي لم تراعِ بداية يوم المسلم بصلاة الفجر أو بعده بقليل، بل نقلت الفكرة الغربية بافتتاح الأعمال في الساعة السابعة والثامنة، التي امتُصّت من قوم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، تراهم ينامون إلى قريب من هذا الوقت، فجاء مَن ألقى بهذا الترتيب في بلاد المسلمين، دون أن يرعى الفرق بين برنامج يوم المسلم ونومه ويقظته، وبرنامج غيره.

وانظر آثارها في تأخير سنّ الزواج، وذيوع فكرة تأجيله عند الفتيان والفتيات، حتى أصبح الناس يتعجبون أن يتزوج متزوجُهم في زمن الدراسة الثانوية أو السنّ الجامعي.

وانظر ذلك في فصل العلوم عن الدين، فانظر كيف تدرس الجغرافيا في بلاد المسلمين، منزوعة عن اصطلاحات المسلمين في هذا العلم، وألقابهم ومسمياتهم.

حتى لقد كنت أعجب حين كانوا يدرسون كروية الأرض فلا يأتون على الآيات والآثار وكلام علماء الأمة وجغرافييها -في تاريخنا الطويل- الذين يثبتون كرويتها بالأدلّة والإجماعات المحكية، ثم أراهم يذكرون مستدلين على ذلك: برحلة فرديناند ماجلان، ودورانه على الأرض، وهو النّصراني المحترق المستعمر، الذي حارب المسلمين في الفلبين، وقاتل في جزيرة ماكتان، حتى قتله ﷲ على يد المجاهد الفلبيني عبد الله لابو لابو، وبسيوف جنود المجاهدين الفلبينيين في هذه الجزيرة قبل نحو مائتي عام.

وقل مثل ذلك في كتب ومناهج التاريخ، والبيلوجيا والهندسة، والطب، وإن اطلعت على موسوعة إشكالية التحيز -وهي مطبوعة متداولة- ستجد عجبًا، حتى في العلوم الطبيعية المحضة، فستجد حديثًا عن التحيز العلماني الغربي في مناهج الطب وتطبيقاته، وهو العلم الذي يفترض العقلاء أنه أبعد العلوم عن تصرف يد العلمانية فيه.

وإذا قلبت النظر في تلك الموسوعة سيفجؤك ما تراه من كتابات وأبحاث المتخصصين الذين كتبوا عن هذا التدخل القمئ لليد الغربية بتحيزاتها الثقافيّة في تفاصيل المناهج والعلوم، حتى لم يسلم من ذلك فرع من الفروع حتى طريقة الفهرسة للمكتبات! حينها تعلم أن ظنك الحسن لفهرسة (ديوي)، واعتقادك البريئ بسلامتها من التحيّز كان غفلة عن التوحش الثقافي الغربي.

 وانظر ترى ذلك واضحًا في مناهج الجامعات في مادة: أخلاقيات المهنة، وكيف تراها مصبوبة على النحو المشترك مع الغربي العلماني في أحسن أحوالها، بل ربما كان سلخًا للمناهج في الكليات الغربية، هذا فضلًا عن تدريس النظرية الإلحاديّة الدارونية في المناهج في كليات البلاد الإسلامية، فهذا باب له شجى آخر.

وتَحسّس تلك العلمانية الغربية في الأيام التي يسمّونها أيامًا عالمية، على أنني لست أدري من الذي يملك تخصيص هذه الأيام، ثم إشاعتها في الناس، وعلى أي معيار تنصب هذه الأيام، وعلى أي قاعدة!

وإذا علمت أن الأعياد العالمية هذه (مائة وخمسة وسبعون يوما)، فاعلم أنهم لم يضعوا فيها يومًا له تعلّق بالإسلام والمسلمين، مع أن القوم قد وضعوا أيامًا وأعيادًا لأمور تسخف في العقول، (كيوم سمك التونة)! (ويوم دورات المياه)، وجعلوا يومًا لمحرقة اليهود، ثم لم يضعوا يومًا له تعلق بالإسلام والمسلمين، أو بالجرائم التي صنعها عدوهم بهم - وما أكثرها- إلا أنهم وضعوا يوما واحدا للفلسطينيين!

هذا مع أننا لا نفرح ولا نبالي ولا نريد أن يخصصوا يومًا لنا ولقضايانا، فهم أعداؤنا سواء عليهم خصصوا لنا ذلك أم لم يخصصوا، ومن طالبهم بمثل هذا أو فرح به أو رآه حقًا فقد أُتي من آثار العلمانية المختبئة!

والله المستعان.

_____________________________________________
الكاتب: محمد آل رميح