لزوم المساجد: أحكام ومواعظ

إنّ لزوم المساجد، والمرابطة فيها، واستيطانها انتظارًا للصلاة، والمكوث في مواضع الصلاة بعد أداء الصلاة لم يزل دأبًا للصالحين، وخُلقًا للمتقين.

  • التصنيفات: شرح الأحاديث وبيان فقهها -

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فإنّ لزوم المساجد، والمرابطة فيها، واستيطانها انتظارًا للصلاة، والمكوث في مواضع الصلاة بعد أداء الصلاة لم يزل دأبًا للصالحين، وخُلقًا للمتقين.

وقد جاءت أحاديث عظيمة في فضل الجلوس في المسجد، وانتظار الصلاة، مما تؤنق المؤمن، ويطيب بها قلبه.

وهو أمر كان النبي ﷺ يُذكّر به الصحابة إذا تأخّرت الإقامة لأمر حادث، فكان ﷺ يذكرهم أجر انتظارهم للصلاة، وإنّهم في صلاة ما انتظروها، كما سيأتي.

• ومن الأجور التي جاء ذكرها في الأدلّة لمن لازم المساجد:

أ- صلاة الملائكة عليه، ودعائهم له، كما في الصحيحين: «إنّ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﺗﺼﻠّﻲ على أحدكم ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ: اﻟﻠﻬﻢ ﺻﻞّ ﻋﻠﻴﻪ، اﻟﻠﻬﻢ اﺭﺣﻤﻪ».

ب- حصول أجر الصلاة له، ففي الصحيحين: «فإن قام من مصلاه، فجلس في المسجد ينتظر الصلاة، لم يزل في صلاة حتى يصلي».

ج- مباهاة ﷲ لمن جلس ينتظر الصلاة، ففي المسند وابن ماجه عن ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻋﻤﺮﻭ قال: ﺻﻠﻴﻨﺎ ﻣﻊ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ اﻟﻤﻐﺮﺏ، ﻓﻌﻘّﺐ ﻣﻦ ﻋﻘّﺐ، ﻭﺭﺟﻊ ﻣﻦ ﺭﺟﻊ، ﻓﺠﺎء ﷺ ﻭﻗﺪ ﻛﺎﺩ ﻳﺤﺴﺮ ﺛﻴﺎﺑﻪ ﻋﻦ ﺭﻛﺒﺘﻴﻪ، ﻓﻘﺎﻝ: «ﺃﺑﺸﺮﻭا ﻣﻌﺸﺮ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ، ﻫﺬا ﺭﺑﻜﻢ ﻗﺪ ﻓﺘﺢ ﺑﺎﺑًﺎ ﻣﻦ ﺃﺑﻮاﺏ اﻟﺴﻤﺎء، ﻳﺒﺎﻫﻲ ﺑﻜﻢ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ، ﻳﻘﻮﻝ: ﻫﺆﻻء ﻋﺒﺎﺩﻱ ﻗﻀﻮا ﻓﺮﻳﻀﺔ، ﻭﻫﻢ ﻳﻨﺘﻈﺮﻭﻥ ﺃﺧﺮﻯ».

د- حصول أجر الرباط، ففي مسلم ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ، ﺃﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻗﺎﻝ: «ﺃﻻ ﺃﺩﻟﻜﻢ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻳﻤﺤﻮ اﻟﻠﻪ ﺑﻪ اﻟﺨﻄﺎﻳﺎ، ﻭﻳﺮﻓﻊ ﺑﻪ اﻟﺪﺭﺟﺎﺕ؟» ﻗﺎﻟﻮا ﺑﻠﻰ ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﻗﺎﻝ: «ﺇﺳﺒﺎﻍ اﻟﻮﺿﻮء ﻋﻠﻰ اﻟﻤﻜﺎﺭﻩ، ﻭﻛﺜﺮﺓ اﻟﺨﻄﺎ ﺇﻟﻰ اﻟﻤﺴﺎﺟﺪ، ﻭاﻧﺘﻈﺎﺭ اﻟﺼﻼﺓ ﺑﻌﺪ اﻟﺼﻼﺓ، ﻓﺬﻟﻜﻢ اﻟﺮﺑﺎﻁ».

هـ- إنه كالمجاهد في سبيل الله، فعن ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ قال: قال ﷺ: «ﻣﻨﺘﻈﺮ اﻟﺼﻼﺓ ﻣﻦ ﺑﻌﺪ اﻟﺼﻼﺓ، ﻛﻔﺎﺭﺱ اﺷﺘﺪ ﺑﻪ ﻓﺮﺳﻪ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﻛﺸﺤﻪ، ﺗﺼﻠﻲ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻼﺋﻜﺔ اﻟﻠﻪ، ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺤﺪﺙ ﺃﻭ ﻳﻘﻮﻡ، ﻭﻫﻮ ﻓﻲ اﻟﺮﺑﺎﻁ الأكبر».

و- هو سببٌ من أسباب رفع الدرجات ومغفرة الخطايا، دلّ عليه الحديث السابق: «ألا أدلكم على ما يمحو ﷲ به الخطايا ويرفع به الدرجات..». 

ز- إنه يكتب من القانتين، ففي المسند عن ﻋﻘﺒﺔ ﺑﻦ ﻋﺎﻣﺮ قال ﷺ: «اﻟﻘﺎﻋﺪ ﻳﺮﻋﻰ اﻟﺼﻼﺓ كالقانت، ﻭﻳﻜﺘﺐ ﻣﻦ اﻟﻤﺼﻠﻴﻦ ﻣﻦ ﺣﻴﻦ ﻳﺨﺮﺝ ﻣﻦ ﺑﻴﺘﻪ ﺣﺘﻰ ﻳﺮﺟﻊ ﺇﻟﻴﻪ».

ح- إن ﷲ يتبشبش له، ففي المسند وسنن ابن ماجه ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ ﻋﻦ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻗﺎﻝ: «ﻣﺎ ﺗﻮﻃّﻦ ﺭﺟﻞ ﻣﺴﻠﻢ اﻟﻤﺴﺎﺟﺪ ﻟﻠﺼﻼﺓ ﻭاﻟﺬﻛﺮ، ﺇﻻ ﺗﺒﺸﺒﺶ اﻟﻠﻪ ﻟﻪ، ﻛﻤﺎ ﻳﺘﺒﺸﺒﺶ ﺃﻫﻞ اﻟﻐﺎﺋﺐ ﺑﻐﺎﺋﺒﻬﻢ ﺇﺫا ﻗﺪﻡ ﻋﻠﻴﻬﻢ».
 

 والأحاديث في هذا الباب على نوعين في الجملة:
- أحاديث انتظار الصلاة.
- وأحاديث الجلوس بعد الصلاة.
وقد تجتمع في حقّ من صلى ثم جلس منتظرًا لصلاة أخرى.

وفي هذه الأحاديث مسائل:
١) ما اﻟﻤﺮاﺩ بقوله ﷺ: «في مصلّاه»، في الحديث: «إنّ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﺗﺼﻠّﻲ على أحدكم ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ: اﻟﻠﻬﻢ ﺻﻞّ ﻋﻠﻴﻪ، اﻟﻠﻬﻢ اﺭﺣﻤﻪ»،  فهل يقصد به ﻧﻔﺲ اﻟﻤﻮﺿﻊ اﻟﺬﻱ ﺻﻠّﻰ ﻓﻴﻪ، ﺃﻭ يدخل فيه كل موضع في اﻟﻤﺴﺠﺪ اﻟﺬﻱ أدى صلاته ﻓﻴﻪ؟

ﻫﺬا ﻓﻴﻪ ﺗﺮﺩﺩ وخلاف بين العلماء:
القول الأول: أن ذلك لا يختص بالمصلّى، بل يشمل جميع  المسجد، وقد ﺫﻫﺐ لهذا ﻃﺎﺋﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻤﺎء، ﻣﻨﻬﻢ: اﺑﻦ ﺑﻄﺔ، وابن عبد البر ورجحه ابن رجب، والعيني، وقال العراقي: "وهذا ﺃﻇﻬﺮ ﻭﺃﺭﺟﺢ ﺑﺪﻟﻴﻞ ﺭﻭاﻳﺔ اﻟﺒﺨﺎﺭﻱ اﻟﻤﺬﻛﻮﺭﺓ ﻓﻲ اﻷﺻﻞ: "ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ" ﻭﻛﺬا ﻓﻲ ﺭﻭاﻳﺔ اﻟﺘﺮﻣﺬﻱ، ﻓﻬﺬا ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ اﻟﻤﺮاﺩ بمصلاه ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻤﺴﺠﺪ".
وقال ابن حجر: "ﻛﺄﻧﻪ ﺧﺮﺝ ﻣﺨﺮﺝ اﻟﻐﺎﻟﺐ، ﻭﺇﻻ ﻓﻠﻮ ﻗﺎﻡ ﺇﻟﻰ ﺑﻘﻌﺔ ﺃﺧﺮﻯ ﻣﻦ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻣﺴﺘﻤﺮًا ﻋﻠﻰ ﻧﻴﺔ اﻧﺘﻈﺎﺭ اﻟﺼﻼﺓ ﻛﺎﻥ ﻛﺬﻟﻚ".
ويكون ذلك كقولهم: لا يجوز الخروج من معتكفه، وهم يصرحون أن مقصدهم المسجد.

القول الثاني: أنه خاصٌ بمحلّ صلاته.
ﻭﻗﺪ جاء ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ ﻣﺎ يدل عليه، ففي الموطأ عن أبي هريرة قال: «إذا صلى أحدكم، ثم جلس في مصلاه، لم تزل الملائكة تصلي عليه. اللهم اغفر له، اللهم ارحمه. فإن قام من مصلاه، فجلس في المسجد ينتظر الصلاة، لم يزل في صلاة حتى يصلي»، فإنه جعل فضل المتحول عن محله: كفضل الجلوس للصلاة، وهو فضل يتحقق لكل من انتظر، ولذا قال ابن عبد البر: "ﺇﻻ ﺃﻧﻪ ﻻ ﻳﻘﺎﻝ: ﺇﻧﻪ ﺗﺼﻠﻲ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ".

ﻭﻳﺆﻳﺪه ﻗﻮﻟﻪ ﷺ: في الصحيحين: ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ: «ﺻﻼﺓ اﻟﺮﺟﻞ ﻓﻲ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﺗﺰﻳﺪ ﻋﻠﻰ ﺻﻼﺗﻪ ﻓﻲ ﺑﻴﺘﻪ، ﻭﺻﻼﺗﻪ ﻓﻲ ﺳﻮﻗﻪ، ﺑﻀﻌًﺎ ﻭﻋﺸﺮﻳﻦ ﺩﺭﺟﺔ، ﻭﺫﻟﻚ ﺃﻥ ﺃﺣﺪﻫﻢ ﺇﺫا ﺗﻮﺿﺄ ﻓﺄﺣﺴﻦ اﻟﻮﺿﻮء، ﺛﻢ ﺃﺗﻰ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻻ ﻳﻨﻬﺰﻩ ﺇﻻ اﻟﺼﻼﺓ، ﻻ ﻳﺮﻳﺪ ﺇﻻ اﻟﺼﻼﺓ، ﻓﻠﻢ ﻳﺨﻂ ﺧﻄﻮﺓ ﺇﻻ ﺭﻓﻊ ﻟﻪ ﺑﻬﺎ ﺩﺭﺟﺔ، ﻭﺣﻂ ﻋﻨﻪ ﺑﻬﺎ ﺧﻄﻴﺌﺔ، ﺣﺘﻰ ﻳﺪﺧﻞ اﻟﻤﺴﺠﺪ، ﻓﺈﺫا ﺩﺧﻞ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻛﺎﻥ ﻓﻲ اﻟﺼﻼﺓ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺼﻼﺓ ﻫﻲ ﺗﺤﺒﺴﻪ، ﻭاﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﻳﺼﻠﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﺪﻛﻢ ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺠﻠﺴﻪ اﻟﺬﻱ ﺻﻠﻰ ﻓﻴﻪ، ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ: اﻟﻠﻬﻢ اﺭﺣﻤﻪ، اﻟﻠﻬﻢ اﻏﻔﺮ ﻟﻪ، اﻟﻠﻬﻢ ﺗﺐ ﻋﻠﻴﻪ، ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺆﺫ ﻓﻴﻪ، ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺤﺪﺙ ﻓﻴﻪ».
فإنه قال هنا: «ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺠﻠﺴﻪ اﻟﺬﻱ ﺻﻠّﻰ ﻓﻴﻪ».

وقد جاء عن عطاء أنّ ذلك في حق من لم يقم من محله، ففي مصنف عبد الرزاق: عن ابن جريج قال: "قلت لعطاء: أحب إليك ألا تقوم حتى تفرغ من تسبيحك؟ قال: نعم، قلت: لم؟ قال: لأنهم يقولون: لا تزال الملائكة تصلي على المرء ما لم يقم من مصلاه الذي صلى فيه، ما لم يحدث".
والعلم عند ﷲ

_________________________________________________
الكاتب: د. محمد آل رميح.