ذوق الفقه الحوائل .. والنوائل

  • التصنيفات: مسائل فقهية -

من الأسئلة التي تتوارد على الأذهان: ألا توجد كتابات فقهية تجمع بين الفكرة الناصعة والعبارة المشرقة والنقول المعزِّزة؟ كتاباتٌ لا تنقصها الخبرة بالمدوَّنات الفقهية، ولا تعوِزُها الشواهد الشرعية، ولا تفتقر للقضايا الواقعية؟ مصنفاتٌ يطالعها المتفقه في آخر النهار، فيجد أثرًا لبعض أفكارها وصدىً لبعض مقرَّراتها وهو يدقِّقُ النظرَ في ألفاظ المتن الذي يتحفَّظُه وَجْهَ النهار وآخرَه. 

مؤلفات فقهية يَرِدُها الفقيه والمتفقّه فيصدران عنها وقد وَجَدا فيها شيئًا يشفي العِلَّة ويروي الغَلَّة ويوقد ذُبالة الفِكْرة؟ فهما يجدان فيها شيئًا من بغيتَهما على حَدٍّ سواء!

الحقيقة أننا نبعد النجعة وننأى عن أسوار الحقيقة ونبوء بظلم النتاج الفقهي المعاصر إذا كنا سنجيب على هذه الأسئلة -على طريقة بعضهم في تبخيس أهل زمانه- بالنفي والسَّلْب والإزراء؛ إذْ إنَّ الساحة الفقهية خصوصًا والعلمية عمومًا حفلتْ بمؤلفات نافعة خليقة بالنظر وجديرة بالاقتناء لاسيَّما في السنوات الأخيرة، فقد بَرَزَ فيها إلى السطح باحثون في الفقه على درجة من حسن الاطلاع وجمال العبارة.
من هذه الكتب الوافية بالشروط السالفة كتاب سيصدر في معرض الكتاب لهذا العام 1447 هـ، وهو كتاب ذوق الفقه الحوائل .. والنوائل للباحث عثمان بن عبدالله العمودي.

فهذا الكتاب يتَّسِم بحسن المعالجة ولُطْفِ الإشارة وجودةِ العبارة وكثرةِ الشواهد، وهو يعالج قضايا الفقه على مستوى تصحيح النظر الفقهي وتبديد الغيوم المتكاثفة التي تحول دون نفاذ البصيرة.

وقد أحسن المؤلف حينما قَسَمَ كتابَه إلى قسمين: الحوائل، والنوائل. فالشطر الأول يتعلق بتخلية القلب من الصوارف والشواغل؛ ليكون على أهبة الاستعداد لتحليتِهِ بالنوائل والفوز بثمرتها.

وعلى جمال الفصول التي يكتبها الباحثون في هذه الأبواب إلا أني شديد الولع بكل فصلٍ يخطّه باحث موفَّق يرشد إلى العيش مع الوحي والقرب من منابعه وطول الاتصال به، ويسلك بالطالب طريقًا يبتدئ بالمتون الفقهية، وينتهي به إلى تدبر الوحي وفهم منازع العلماء منه، فإنه الينبوع الذي لا ينضب، والنور الذي لا يدركه الخفوت، ولا يلحقه الزوال والاضمحلال، وهذا هو أصل التفقه الصحيح وغايته القريبة، ولذلك يقول ابن تيمية: (التفقه في الدين معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية، فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقهًا في الدين).

ففي كثيرٍ من الكتابات الفقهية والمناهج الشائعة تجد مسافةً شاسعة تحول الانتفاع بالوحي، مع اطراحِ ذلك والبراءة التامة منه نظريًّا، وأما على صعيد التطبيق فأنت حيالَ أسوارٍ منيعة ومفازات واسعة تجعل الاستفادة من الوحي بالتلقي والاستهداء والنظر من علوم الغيب الميؤوس من معرفتها، والتي تنقطع دونها أعناق المطايا.

ولذلك تكثر المعارضات النظرية في بعض المناهج الفقهية الشائعة: وذلك مثل: أأنت أعلم من الإمام فلان؟! يقول ابن تيمية عن هذه المعارضة: (إذا قيل لهذا المستهدي المسترشد: أنت أعلم أم الإمام الفلاني؟ كانت هذه معارضةً فاسدة، لأن الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة، ولستَ أعلم من هذا ولا هذا). 

والفقيه ما لم يستأنف النظر في كلِّ عصر بحسب ما تقتضيه الحوادث المتجددة فإنه سينأى بفقهه عن واقع الناس وحيواتهم، ولذلك من أمعن النظر وَجَدَ أن أجدى المناهج في التعليم والتفقه تعيش ما يشبه العزلة عن الواقع العملي على صعيد الفتوى وقضايا الاقتصاد والاجتماع وغيرها. ولذلك وغيره فقد وفق الباحث حينما جعل العيش من الوحي والنهل منه من النوائل والمنائح.

والحقيقة أنَّ من أحبَّ الكتابات إليَّ أيضًا تلك التي تبعث للمتلقي رسالة مباشرة بأن طريق التعلم والتفقّه رغم كونه لاحبًا بيِّنًا ظاهر المعالم إلا أنه لا يبلغ بقاصده شيئًا ذا بال ما لم يكن ذا صبر طويل على المشاق وصاحبَ احتمال للعوارض، وقد أحسن المصنف في سوق هذه الفكرة حينما عدّ من النوائل طول الممارسة وكثرة الفكرة وتعميق النظر فإنها توصل إلى تمام التصرف وذوق الفقه الذي قصد إليه الكتاب.

والكتاب يشتمل على فصول أخرى وُفِّقَ الباحثُ في سوقِها، وسُدِّد في سوقِ الشواهد عليها، وإنما قصدتُّ الإشارة السريعة الخاطفة، والله المسؤول أن ينفع بهذا البحث ويمنَّ على راقمه بالعفو والقبول.

____________________________________
 
الكاتب: سليمان بن ناصر العبودي