قبض العلماء
ذا أردنا أن نَعرِفَ قَدْرَهم، فلْنَسألِ الأعمى الضَّريرَ عن حاجتِه للقائدِ البَّصيرِ، ولْنَسألِ التَّائهَ في الصَّحراءِ، عن فائدةِ النُّجومِ في السَّماءِ، ولْنسألِ السَّائرَ في الظَّلماءِ، عن أهميَّةِ النُّورِ والأضواءِ؛ إنَّهم العلماءُ ورثةُ الأنبياءِ، مصابيحُ الدُّجى، ومَناراتُ الهدى
- التصنيفات: الإسلام والعلم -
أيُّها الأحبَّةُ: إذا أردنا أن نَعرِفَ قَدْرَهم، فلْنَسألِ الأعمى الضَّريرَ عن حاجتِه للقائدِ البَّصيرِ، ولْنَسألِ التَّائهَ في الصَّحراءِ، عن فائدةِ النُّجومِ في السَّماءِ، ولْنسألِ السَّائرَ في الظَّلماءِ، عن أهميَّةِ النُّورِ والأضواءِ؛ إنَّهم العلماءُ ورثةُ الأنبياءِ، مصابيحُ الدُّجى، ومَناراتُ الهدى، يَبقى العلمُ بوجودِهم وحياتِهم، ويذهبُ العلمُ بذَهابِهم ووفاتِهم، كما في الحديثِ: «إنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزعهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوساً جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ فَضَلُّوا وَأضَلُّوا»، فما ظنُّكم عندما يذهبُ العلماءُ، ويَتَصدَّرُ للنَّاسِ الجُهَلاءُ، فلا تَسلْ عن الفِتنةِ والبَلاءِ.
لعَمْرُكَ مَا الرَّزِيَّةُ فَقْدُ مَالٍ *** ولا شَاةٌ تَمُوتُ ولا بَعِيرُ
ولكنَّ الرَّزِيَّةَ فَقْدُ فَـــــــذٍّ *** يمُوتُ لِمَوْتِهِ خَلْقٌ كَثِيرُ
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ -رَحِمَهُ اللهُ-: شَهِدْتُ جِنَازَةَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَلَمَّا دُلِّيَ فِي قَبْرِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَعْلَمَ كَيْفَ ذَهَابُ الْعِلْمِ، فَهَكَذَا ذَهَابُ الْعِلْمِ، وَالله لَقَدْ دُفِنَ الْيَوْمَ عِلْمٌ كَثِيرٌ.
وقد يًقولُ القائلُ: كيفَ يَذهبُ العِلمَ وعِندنا كتابُ اللهِ -تعالى-؟! فاسمعوا لهذا الحديثِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «خُذُوا الْعِلْمَ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ»، قَالُوا: وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ!؛وَفِينَا كِتَابُ اللَّهِ؟، قَالَ: فَغَضِبَ، ثُمَّ قَالَ: «ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ، أَوَلَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمْ شَيْئًا؟؛ إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ، إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ»، من سيُفسرُ القرآنَ بتفسيرِ القُرونِ الفاضلةِ الصَّالحةِ؟, ومن سيَشرحُ الأحاديثَ بالطَّريقةِ الصَّحيحةِ الوَاضِحةِ؟, ومَن سيُبيَّنُ الأحكامَ الشَّرعيَّةَ والفُقهيَّةَ الرَّاجحةَ؟، من سيَكشفُ عن المُتعالمينَ الغِطاءَ؟، ومَن سيَردُّ على أهلِ الشَّهواتِ والأهواءِ؟.
إنَّهم أهلُ العلمِ, الذينَ يَدعونَ مَنْ ضَلَّ إلى الهُدى، ويَصبرونَ مِنهُم عَلى الأَذى، يُحيونَ بكِتابِ اللهِ المَوتى، ويُبصِّرونَ بنُورِ اللهِ أَهلَ العَمى، فَكَم مِن قَتيلٍ لإبليسَ قَد أَحيَوْه، وكَمْ من ضَالٍّ تَائهٍ قَد هَدَوْه!، يَنفونَ عن كِتابِ اللهِ تَحريفَ الغَالينَ، وانتحالَ المُبطلينَ، وتَأويلَ الجَاهلينَ، هُم للأرضِ كالجِبالِ الأوتادِ، وبموتِهم خَرابُ العِبادِ والبلادِ، قَالَ -تعالى-: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}[الرعد: 41], قَالَ ابنُ عَباسٍ -رَضيَ اللهُ عَنهُما- في تَفسيرِ هذهِ الآيةِ: خَرابُها بمَوتِ فُقهائها وعُلمائها، وأَهلِ الخَيرِ مِنهَا.
الْأَرْضُ تَحْيَا إِذَا مَا عَاشَ عَالِمُهَــــــا *** مَتَى يَمُتْ عَالِمٌ مِنْهَا يَمُتْ طَرَفُ
كَالْأَرْضِ تَحْيَا إِذَا مَا الْغَيْثُ حَلَّ بِهَا *** وَإِنْ أَبَى عَادَ فِي أَكْنَافِهَا التَّلَــــفُ
أيُّها الأحبَّةٌ: أَعظمُ المَصائبِ، هي مُصيبةُ مَوتِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- كما قَالَ: «إذا أَصابَ أحدَكُم مُصيبَةٌ، فليذكُرْ مُصيبتَهُ بي؛ فإنها من أَعظمِ المَصائبِ»، ويأتي التَّثبيتُ من اللهِ -تعالى- في هذهِ المُصيبةِ بقولِه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا}[آل عمران: 144].
وحيثُ أنَّ العلماءَ هم ورثةُ الأنبياءِ، الذينَ اصطفَاهم ربُّ السَّماءِ، كما قالَ -سُبحانَه-: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}[فاطر: 32]، فلا شكَّ أن في موتِهم مُصيبةٌ عُظمى، وثُلمةٌ في الإسلامِ كُبرى، ولكن يَبقى في الأمَّةِ طائفةٌ ظاهرةٌ على الحقِّ إلى يومِ القِيامةِ.
فيا أيُّها الشَّبابُ: مَن سَيُعوِّضُ فَقدَ العُلماءِ؟، ومَن سَيَرثُ ورثةَ الأنبياءِ؟، مَن يُريدُ هذا الفَضلَ والثَّناءَ؟، يقولُ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «منْ سَلَكَ طَريقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمَاً؛ سَهَّلَ اللَّهُ لَه طَريقًا إِلَى الجنةِ، وَإنَّ الملائِكَةَ لَتَضَعُ أجْنِحَتَهَا لِطالب الْعِلْمِ؛ رِضاً بِما يَصْنَعُ، وَإنَّ الْعالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ منْ في السَّمَواتِ ومنْ فِي الأرْضِ, حتَّى الحِيتانُ في الماءِ، وفَضْلُ الْعَالِم عَلَى الْعابِدِ كَفَضْلِ الْقَمرِ عَلى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ»، فالأملُ -بعدَ اللهِ- فِيكم والعزاءُ، فهَلُّمُوا إلى عِلمِ من بَقيَ من الأحياءِ، ودُونَكم تُراثُ من ماتَ من العُلماءِ، فأنتم مَن سَيُعيدُ لهّذهِ الأمَّةِ البَهاءَ.
العِلمُ يجلو العَمى عن قَلبِ صَاحبِهِ *** كَمَا يُجلِّي سَوادَ الظُّلمةِ القَمــــرُ
والعِلمُ يُحيِي قُلوبَ الحَاملينَ لـــهُ *** كالأرضِ تَحيَا إذا مَا مَسَّها المَطرُ
اللهمَّ ارحمْ علماءَنا ومَشايخَنا رَحمةً وَاسعةً، واجعل أَنوارَهم عَلى الأمَّةِ سَاطعةً، واجعلْ ما تركوهُ من العُلومِ نَافعةً، اللهمَّ مَن أَحييتَهُ مِنهم فبَاركْ في عُمُرِه وعِلمِهِ وَسَعيه، وَسددْهُ ووَفقْهُ وثَبتْهُ، ومَن مَاتَ مِنهم فتَغمدْهُ بالرحمةِ والغُفرانِ، والرَّوحِ والرَّيحانِ، والرِّضا والرُّضوانِ، وأَعلِ مَقامَه في الجِنانِ، وتَقبلْهُ في الصَّالحينَ، واحشرْهُ مع الشُّهداءِ والنَّبيينَ.
______________________________________
الكاتب: لشيخ هلال الهاجري