كلام القاضي ابن العربي في تحسين الصوت بالقرآن
محمد بن علي بن جميل المطري
والقلوب تخشع بالصوت الحسن كما تخضع للوجه الحسن، وما تتأثر به القلوب في التقوى فهو أعظم في الأجر وأقرب إلى لين القلوب، وذهاب القسوة منها.
- التصنيفات: القرآن وعلومه -
روى عبد الله بن مغفل قال: ««رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته وهي تسير به، وهو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة لينة وهو يرجِّع، ويقول: آه»» ، واستحسن كثير من فقهاء الأمصار القراءة بالألحان والترجيع، وكرهه مالك، وهو جائز لقول أبي موسى للنبي عليه السلام: «لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا»؛ يريد لجعلته لك أنواعا حسانا، وهو التلحين، مأخوذ من الثوب المحبر، وهو المخطط بالألوان. وقد سمعت تاج القراء ابن لفتة بجامع عمرو يقرأ: {{ومن الليل فتهجد به نافلة لك}} [الإسراء: 79]. فكأني ما سمعت الآية قط. وسمعت بمدينة السلام شيخ القراء البصريين يقرأ في دار بها الملِك: { {والسماء ذات البروج}} [البروج: 1] فكأني ما سمعتها قط، حتى بلغ إلى قوله تعالى: {{فعال لما يريد}} [البروج: 16] فكأن الإيوان قد سقط علينا.
والقلوب تخشع بالصوت الحسن كما تخضع للوجه الحسن، وما تتأثر به القلوب في التقوى فهو أعظم في الأجر وأقرب إلى لين القلوب، وذهاب القسوة منها.
وكان ابن الكازروني يأوي إلى المسجد الأقصى، ثم تمتعنا به ثلاث سنوات، فلا يقدر أحد أن يصنع شيئا طول قراءته إلا الاستماع إليه. وكان صاحب مصر الملقب بالأفضل قد دخلها في المحرم سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة وحولها عن أيدي العباسية، وهو حنق عليها وعلى أهلها، بحصاره لهم وقتالهم له، فلما صار فيها، وتدانى بالمسجد الأقصى منها، وصلى ركعتين، تصدى له ابن الكازروني، وقرأ: {{قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير}} [آل عمران: 26] فما ملك نفسه حين سمعه أن قال للناس على عظم ذنبهم عنده، وكثرة حقده عليهم: {{لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}} [يوسف: 92]. والأصوات الحسنة نعمة من الله تعالى، وزيادة في الخلق ومنَّة، وأحق ما لبست هذه الحلة النفيسة والموهبة الكريمة كتاب الله؛ فنعم الله إذا صرفت في الطاعة فقد قضي بها حق النعمة. انتهى كلام ابن العربي من كتابه أحكام القرآن (4/ 4، 5).
قلت: روى الدارمي (3544) بإسناد صحيح عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ««حسِّنوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حُسنا»» ، والمراد تحسين التلاوة وفق قواعد التجويد بلا تكلف وتنطع.
قال الإمام النووي رحمه الله في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن (ص: 110 - 112): قال العلماء رحمهم الله: يستحب تحسين الصوت بالقراءة وترتيلها ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط، فإن أفرط حتى زاد حرفا أو أخفاه فهو حرام، .. وقال الماوردي في كتابه الحاوي: القراءة بالألحان الموضوعة إن أخرجت لفظ القرآن عن صيغته بإدخال حركات فيه أو إخراج حركات منه أو قصر ممدود أو مد مقصور أو تمطيط يُخفي به بعض اللفظ، ويلتبس المعنى فهو حرام، .. وإن لم يخرجه اللحن عن لفظه، وقراءته على ترتيله، كان مباحا، .. والقراءة بالألحان المحرمة مصيبة ابتلي بها بعض الجهلة الذين يقرؤون على الجنائز وبعض المحافل، وهذه بدعة محرمة ظاهرة. انتهى باختصار وتصرف يسير.