1 - شعلة لن تنطفئ
خباب الحمد
في عصر الدولة الأموية بالأندلس، أوفد أحد ملوك النصارى في أوربا جاسوسًا ليكون عونًا وعينًا له على المسلمين، لكي يقيس درجة إيمانهم وصلاحهم وكرههم لأعداء الإسلام، ولكي يتحسَّس أخبار المسلمين، فإن وجد فيهم ضعفًا وهواناً أخبر العدو الصليبي لكي ينقض على المسلمين كما يَنْقَضُّ الصقر على فريسته..
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
في عصر الدولة الأموية بالأندلس، أوفد أحد ملوك النصارى في أوربا جاسوسًا ليكون عونًا وعينًا له على المسلمين، لكي يقيس درجة إيمانهم وصلاحهم وكرههم لأعداء الإسلام، ولكي يتحسَّس أخبار المسلمين، فإن وجد فيهم ضعفًا وهواناً أخبر العدو الصليبي لكي ينقض على المسلمين كما يَنْقَضُّ الصقر على فريسته.
لكنَّ ذلك الجاسوس فوجئ حينما رأى شابًّا يبكي لأنَّه أصاب تسعة أسهم في الهدف من عشرة، فأخبر الجاسوس سيده الصليبي بذلك، فقالوا: إن كان شباب الإسلام على هذه الشاكلة فيستحيل أن نغزوهم عسكريًّا، ولكنَّنا سنغزوهم فكريًّا ونضعف محبة الإسلام والقيام بشعائره في قلوبهم وجوارحهم حتَّى نجد الحال قد اختلف عندهم، وحينها يمكن احتلال ديارهم بكل سهولة ويسر.
وبالفعل قاموا بذلك وعندما عاد الجاسوس بعد مدَّة زمنيَّة، لكي يتفقد أحوال المسلمين وجد شابًّا يبكي لأنَّ حبيبته تركته، فذهب فرحًا جذلاً للصليبيين وقال لهم: إنَّ هذه هي الفرصة المواتية لقتال المسلمين، واحتلال أرضهم.
أحببت الابتداء بهذه القصَّة قاصدًا إيرادها عن دور الكفَّار في اغتنام الفرصة لغزو المسلمين، وإفساد تربيتهم، وقياسهم للمؤشر العام في الصحوة الإسلاميَّة في قلوبهم، وآثار هذه الصحوة على أرض الواقع وفي دنيا الناس، والتنبيه على دور الكفَّار في محاولة إغراق المسلمين بالملهيات وتوافه الأمور؛ لكي يستطيعوا أن ينفذوا من خلالها لتحقيق مآربهم ونواياهم الخبيثة.
طرائق الدراسات الممهدة للاحتلال:
إنَّ العدو يبقى عدوًّا فلن يتوقع المرء من الصليبيين أو من الصهاينة أن يلقوا ببذور السلام، ويرفعوا أعواد الزيتون ويسلموا الأراضي التي احتلوها لأهلها، فهذا مستحيل والتاريخ خير شاهد على ذلك.
فلن يخرج الأعداء من البلاد التي احتلوها بدون أيَّة مقاومة شعبيَّة من أهلها، فالحقوق المستلبة لن تستعاد إلاَّ بالقوَّة، ولقد قال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في آثاره: «الحقوق التي أخذت اغتصابًا لا تُسترجع إلاَّ غلابًا».
لكنَّ العدو المحتل يحاول أن يغرس الكثير من الخطايا والأخطاء بين المسلمين، ويستغلها لمصلحته، ولهذا نجدهم يصطادون في الماء العكر، ويحاولون التفريق بين المسلمين، لكي يحركوا بذور الخلاف بينهم فيضخموها أكثر مما كانت عليه، وكذلك يرقبون أية حالة إحياء نهضوية تريد العودة بالبلاد إلى دين الله ليشوهوها ويضيقوا عليها.
لقد ذكر المؤرخ الفلسطيني شاكر مصطفى في مقالة له بعنوان "من الغزوة اليهودية إلى الصهيونية ومن الغزوة الصهيونية إلى اليهودية": «أنَّ مجموعة من الباحثين اليهود باللغة العبرية درسوا عصر صلاح الدين، وتعمقوا في هذه الدراسة، وأخضعوها للقواعد التي تخص العلوم الإنسانية اليوم، ويقولون هدفنا من هذه الدراسة معرفة الأسباب التي أوجدت صلاح الدين حتى نعمل على تطويل عمرنا على هذه الأرض بحيث نعمل على عدم وجود هذه الأسباب التي ستظهر صلاح الدين.
فقد درسوا عصر صلاح الدين دراسة علمية، ودرسوا كل ما يخص الإنسان ونمط الحياة، ودرسوا المساجد، هل لها دور فنعطل مهمة المسجد إن كان هذا سيؤدي إلى إظهار صلاح الدين، حتى درسوا نداءات الباعة في الأسواق في عصر صلاح الدين، حتى يعرفوا كيف يفكر الناس ودرسوا الأهازيج التي تقوم الأمهات بإنشادها للأطفال على السرير قبل نومهم، وهل هذه الأهازيج لها دور في إظهار صلاح الدين، فدرسوا كل شيء عن حال الأمَّة».
فإذا كانت الحالة هذه، وخطط الأعداء واضحة تجاه بلاد المسلمين المحتلَّة، فإنَّ المراقب لتلك التجليات الصعبة سيأتيه شعور داخلي بمدى أهميَّة حاجة المسلمين للتربيَّة على منهج إسلامي متكامل ومتوازن، فالأمَّة الإسلاميَّة بشتَّى أشكالها وجماعاتها وروافدها الفكريَّة ونخبها الثقافيَّة لا بدَّ لهم من تربيَّة شموليَّة تعنى بزرع العقيدة الصحيحة والقيم والمفاهيم الإسلاميَّة لترسيخها في العقول، وتطبيقها في أرض الواقع.
وبخاصة عندما نعلم أنَّ أعداء الإسلام ما استطاعوا أن يحتلوا بلاد الإسلام ويسقطوا الدولة العثمانيَّة، إلاَّ لهوان الإسلام في قلوب كثير من منتسبيه، وابتعادهم عنه، وضعف تطبيق التوحيد بل الجهل العام بكثير من قضايا العقيدة الإسلاميَّة، وعدم تطبيق شرع الله بكامله، وعدم توحد المسلمين فيما بينهم، وانشغالهم بالجزئيات وتركهم للكليات، وحالة الضعف والتراخي في مواجهة العدو، والترهل الداخلي، والموات الجماعي، وكثرة الخلاف فيما بينهم، وبُعْدهم أولاً وآخرًا عن الارتباط بالله تعالى، ولذلك يقوم العدو باغتنام هذه الفرصة لاحتلال تلك الأرض وضعف قدراتهم العسكرية والسياسيَّة.
فمن الحماقة أن يجد العدو أرضًا يستطيع الاستيلاء عليها بدون مقاومة ويتركها لكل من هبَّ ودب، بل يجب الاعتماد عندهم على "قانون الصدمة" لأهل تلك البلاد والقيام باحتلالها وهذا ما فعله العدو بالفعل، ولأنَّ العدو رأى الدولة العثمانيَّة قد ضعفت وتهاوت من الداخل وتعاضد ضدها أعداؤها من الخارج، فراق لهم وبكل يسر وسهولة أن يكسروا هذا المارد الإسلامي الكبير الذي كانت له الريادة والقيادة والسياسة في أزمان خلت وقرون مضت.
وبكل تأكيد فإنَّه لن يتم تحرير الأراضي التي يغزوها العدو إلاَّ بعد صحوة أهلها من غفوتهم، وفرك أعينهم جيدًا وهم يرون الأعداء يعبثون بمقدراتهم ويرونهم قد استولوا على كل شيء في أراضيهم، فتنبعث روح اليقظة الإسلاميَّة والعصبيَّة والحميَّة فيما بينهم وإدراك مخاطر العدو في احتلاله لبلادهم، وتغيير ما بالأنفس استعدادًا لمواجهة العدو المحتل، فالله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]، وبعد ذلك التغيير النفسي، فستكون الشعوب التي قام العدو باحتلال ديارها مهيَّأة للرد والجهاد لعدوهم بثورة مجلجلة على الباطل والمحتل، والله تعالى يقول: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251].
إنَّ الخطورة تكمن داخل قلوب تلك الشعوب التي قام العدو باحتلالها، عندما تكون تلك القلوب ميَّالة للدنيا، وكارهة للموت، تخاف وترتعد فرائصها إن لقيت عدوًّا، وتكون قلوبها منخلعة إن واجهها فهي كرجل جبان تنتفض فرائصه فَرَقًا، لأنَّه خائف رعديد حينما يواجهه عدو شرس صنديد، ولا يذهب الخوف من القلوب المؤمنة إلا بتعظيم الخوف من الله فيصغر الخوف من العدو حتى ينمحي فضلا عن الاستعانة بالله وطلب الثبات منه سبحانه وتعالى لكي يبدأ "فوران الدم" من جديد وتتحرَّك العقول وتثبت القلوب لمواجهة ذلك العدو المحتل بشتَّى أنواع المواجهة.
إستراتيجية التربيَّة في ظل الاحتلال:
قال الشاعر المسلم أحمد شوقي:
وما استعصى على قومٍ منالٌ *** إذا الإقدامُ كان لهم رِكـابا
ففي البلاد التي تنتشر فيها الحروب يشعر الآباء والأمهات الملتزمون بدين الإسلام والتربويون المخلصون لدينهم أهمية البناء التربوي للجيل الذي نشأ في جو الاحتلال، وخصوصًا حينما نستشعر أنَّ البلاد المحتلة والمنكوبة سيجد أهلها ضِيقًا في الوقت للقيام بالعملية التربويَّة بشكل منظَّم ودقيق.
وبما أني أتحدَّث عن واقع أعيشه في أرض محتلة هي "فلسطين المباركة"، وما أجده من ضرورة ماسَّة في نشر ثقافة فكرة "البناء التربوي" فإنَّ مدارسة هذه القضيَّة مدارسة جادة بين نخب الأمَّة المسلمة الفكرية والعلمية والثقافية قضيَّة ملحَّة للغاية، في تلك الدول التي قام العدو المحتل باحتلال أراضيها، وما أكثرها!
ولو كشفنا الستار عن طبائع النفوس وحالاتها تحت بغي الاحتلال الغاشم لبلادنا الإسلاميَّة فإنَّنا سنجد الوضع يختلف من بلد لآخر، بيد أنَّ هناك خيوط تماس، وأرضيَّة عامة نستطيع أن نتلمس من خلالها قواسم مشتركة، وسنجد عدَّة ملاحظات حيال ذلك:
- تزايد حالة التدين والرجوع إلى الله في شدة الحرب والحصار، والتراخي فيها إن انخفضت وتيرة الحرب أو ضعفت، خصوصًا مع قلَّة الدعاة والعلماء، وإيداع كثير منهم في السجون والمعتقلات، أو طردهم من ديارهم أو اضطرارهم لمغادرة البلاد بسبب الوضع الصعب الذي يعيشه أهلها.
ـ البلد المحتل يعيش فيه الناس عمومًا تحت مطارق الفقر وغلاء الأسعار والاحتكار.
ـ البلد المحتل تعيش فيه الشعوب في دوامة قلق، ونوع من الخوف يصاحبهم صباح مساء.
- ازدياد التماسك الاجتماعي بين الأقارب والتكافل بينهم، بسبب الأواصر الموجودة بين الشبكة الاجتماعية التي عانت من جرائم الاحتلال فليس من بيت إلاَّ وفيه شهيد أو جريح أو معاق أو مسجون أو مطارد، وذلك يستدعي نوعًا من التعاطف البيني من عموم المجتمع الذي يعاني من ذلك الاحتلال البغيض.
ـ تعدد الديانات والمذاهب والأفكار المتناقضة، ولهذا قد نجد نزاعات دينيَّة أو طائفيَّة أو مذهبيَّة وما شاكل ذلك يحاول أن يغرسها الاحتلال وبشكل غريب أو أصابع خفيَّة تُعنى بمثل ذلك للانتقام.
- تزايد حالات الأمراض النفسيَّة من وساوس وقلق وخوف وانهيارات عصبيَّة، وهموم نفسيَّة، وحالات صعبة بسبب إفرازات الاحتلال.
وهذا يتطلَّب أن يكون للمرء خلفيَّة ذهنيَّة، لكي يعرف أن الإشكالات التي تعاني منها الدول الإسلاميَّة التي تعيش تحت نير الاحتلال وعذابات البغي والإجرام، هي قضيَّة ذات أهميَّة فائقة، فلكل داء دواء، لكنَّ تشخيص الداء وتحديده بدقَّة يسهل كثيرًا من الوصفة العلاجيَّة المناسبة له.
تركيبة المجتمع تحت حراب الاحتلال:
إنَّ ظروف عيش الناس تحت الاحتلال البغيض - بلا شك - تؤثر في طريقة تعاطيهم مع هذا الجو المحتقن، والتفاعل مع آثار الاحتلال يختلف من شعب لآخر، ونستطيع أن نقول: إن شرائح المجتمعات التي يؤثر عليها الاحتلال، تتكون من عدة أصناف:
* فصنف يبغض الكافر المحتل، ويقوم بمقاومته بما يناسبه عسكريًّا أو فكريًّا أو اقتصاديًّا أو اجتماعيًّا.
* وصنف يعتبره العدو المحتل (جاسوسًا أو عميلاً) وهو ما يطلق عليه في الفكر الفلسطيني - مثلاً - (ظاهرة العملاء)، ومنهم من يعيش داخل السجون الصهيونية بعد أن أسقطهم الاحتلال في براثن شهواتهم، ويطلق عليهم الأسرى (العصافير) كناية عن نقلهم المعلومات من السجين للمحققين والضباط الصهاينة، وهؤلاء الجواسيس والعملاء هم سبب من أسباب نجاح المحتل في أي بقعة محتلة، وعليه فإنَّ هذا الصنف من الشعب يمكن أن يطلق عليهم بأنَّهم أولياء لليهود كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، وهذه الفئة هي أخطر فئة على عموم المجتمعات التي ترزح تحت الاحتلال، لأنَّها تعرف خبايا هذه المجتمعات، وقد تتظاهر بالصلاح وما هي إلاً من مخلفات الاحتلال بل هي زراعة عضويَّة وجد فيها المحتل قابليَّة للارتباط به، ولهذا حينما درس الزعيم الهندي الشهير "المهاتما غاندي" أسباب هزيمة الشعب الهندي أمام المحتل البريطاني، عثر على مشكلة في إرادة بعض الناس من الشعب الهندي للارتباط بالمحتل البريطاني، فقال كلمته المشهورة: «ليست البنادق البريطانية مسئولة عن عبوديتنا قدر مسؤولية تعاوُننا الإرادي مع هذه البنادق».
* وصنف يعيش لنفسه ويتحاشى إغضاب الكافر المحتل، وإن كان يتمنَّى أن يغادر المحتل أرضه ووطنه، لكي يعيش في أمن واسترخاء بال وهدوء فكر، ويهتم بماله ووظيفته، ومتجره وعمله، ويحاول إن كان غنيًّا أو ثريًّا أن يرفه عن نفسه في كل سنَّة بالسفر إلى الخارج، فالمهم أن يعيش بسلام ذاتي أناني.
والشاهد من ذلك أنَّ الشعوب تنقسم لأقسام مختلفة في نظرتها للكافر المحتل، وبناء عليه فإنَّ على الداعية العامل لدينه وأمَّته في تلك البلاد المحتلة، أن يعرف طبائع الناس وطرائق تفكيرهم، وكيفية التعامل معهم، ثم يضع الحلول المناسبة للتعامل مع كل فئة منهم بما يفيد مجتمعه، لا أن يكون بعضهم كلاًّ أينما توجهه لا يأت بخير لمجتمعه وأمَّته، فدور الدعاة وأهل التربية المنوط بهم مهم للغاية، وذلك لإحياء الأمَّة وبعثها من جديد.
1432/7/5 هـ