ما زال جبريل يوصيني بالجار

محمد سيد حسين عبد الواحد

العناصر الأساسية: 
العنصر الأول: جبريل وكثرة قدومه على سيدنا محمد. 
العنصر الثاني: وصية طويلة بالإحسان إلا الجار. 
العنصر الثالث: حسن الجوار وصوره 
العنصر الرابع:  كف عن الجار أذاك.

  • التصنيفات: مجتمع وإصلاح -

أيها الإخوة الكرام: قبل أسبوع من يومنا هذا كنا نتكلم عن أعلى وأرقى درجة من درجات الإيمان وهي درجة الإيمان بالغيب.. 
وقلنا وقتها إن نوايا الناس وضمائرهم وما يكون في قلوبهم من الخير أو الشر إنما هو في علم الله سبحانه وتعالى وحده.. 
ومن بين الغيب الذي نعتقد فيه ونؤمن به الملائكة.. 
قال الله تعالى: 
{{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}}  
وقال عز من قائل: {{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ} }
الاعتقاد بوجود الملائكة والإيمان بهم أحد أركان الإيمان.. 
قيل يا رسول الله ما الإيمان؟ 
قال:  "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره "
أيها الإخوة الكرام: إن التفاوت بين الخلائق سنة من سنن الله عز وجل في خلقه،  هذه السنة ( سنة التفاوت) تسري علينا كبشر منا النبي ومنا الرسول ومنا الصالح ومنا الولي وبعضنا أقرب إلى الله تعالى من بعض.. 
كذلك الملائكة يتفاضلون فبعضهم أعلى درجة من بعض، لكن لا خلاف على أن أفضل الملائكة وزعيمهم وقائدهم إلى العظائم سيدنا جبريل عليه السلام.. 
فهو الوحيد من بين الملائكة اختاره الله تعالى وانتقاه وأتمنه على الوحي فما من نبي ولا رسول إلا وجبريل الذي يحمل إليه دعوته ورسالته وشريعته وكتابه.. 
قال الله تعالى: {{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ' مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } }

سجل التاريخ الإسلامي أن جبريل عليه السلام أتي رسول الله مرتين بصورته قال: عَبْد اللَّهِ بن مسعود : رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ، وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، كُلُّ جَنَاحٍ مِنْهَا قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ، يَسْقُطُ مِنْ جَنَاحِهِ مِنَ التَّهَاوِيلِ وَالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ.

واتى جبريل رسول الله في صورة صحابي جميل الصورة يقال له ( دحية بن خليفة الكلبي) وأتاه في صورة أعرابي،  وأتاه في صورة إنسان لا يعرف.. 
وكان جبريل عليه السلام إذا أتي رسول الله في صورة بشر رآه الصحابة حتى أن منهم من سلم عليه ورد جبريل عليهم السلام 

أتى جبريل رسول الله سفراً وحضراً، ليلا ونهاراً، سراً وجهاراً على مدار ثلاث وعشرين سنة،  في خصوصية لم تكن لنبي ولا لرسول إلا لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم.. 

«ورد في الصحيح أن رجلاً مِنَ الْأَنْصَارِ - قَالَ : خَرَجْتُ مِنْ أَهْلِي أُرِيدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا أَنَا بِهِ قَائِمٌ، وَرَجُلٌ مَعَهُ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ، فَظَنَنْتُ أَنَّ لَهُمَا حَاجَةً،  فقلت : وَاللَّهِ لَقَدْ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَعَلْتُ أَرْثِي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ قَامَ بِكَ الرَّجُلُ حَتَّى جَعَلْتُ أَرْثِي لَكَ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ..  قَالَ فسألني رسول الله فقال : وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ ؟  قُلْتُ : نَعَمْ يا رسول الله رأيته..  فقَالَ عليه الصلاة والسلام : " أَتَدْرِي مَنْ هُوَ ؟ ". قُلْتُ : لَا، قَالَ : " ذَاكَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَا زَالَ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ ". ثُمَّ قَالَ : " أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَلَّمْتَ عَلَيْهِ ؛ رَدَّ عَلَيْكَ السَّلَامَ "»

كلم جبريل رسول الله عن الجار وحق الجار وما له عند جاره من حق، ولم يزل جبريل يؤكد على حق الجار،  حتى وقع في نفس رسول الله أن جبريل في آخر حديثه سيقول يا رسول الله اجعل للجار نصيباً من ميراث جاره..

 قال عليه الصلاة والسلام" « مَا زَالَ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ » "

للجار على جاره حق الإحسان، ولو لم يكن بينك وبينه قرابة،  للجار على جاره حق الإكرام ولو لم يكن مسلماً.. 

 أخرج الترمذي وأبو داود - بسند صحيح - عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما -: "أنه ذبحت له شاة في أهله، فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟"، قلنا: لا، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه) 

رحم الله زمانا عرفوا هذه الوصية وعملوا بها.. 
إلى وقت قريب كان خير الجار يَعمُّ على جاره، طعامي قليله وكثيره لجاري فيه نصيب،  وطعام جاري قليلة وكثيره لي فيه نصيب.. 
قلت وهذا من العمل بالسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : 
«" يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ "» .
أي ولو عظمًا صغيرًا.. 

أيام البركة،  أيام الإخلاص، أيام الطيبين والطيبات، أصحاب القلوب النقية والنوايا البيضاء، يوم كان الناس يألف بعضهم بعضاً، ويفي بعضهم لبعض.. 

كانوا يقتدون ويأتون بالسنة عملياً عيانًا بيانًا،  فمن السنن (المهجورة) أن يواسي الجار جاره بشيء من طعامه وشرابه.. 

قال عروة لخالته عائشة رضي الله عنها ما كان طعامكم أيام رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ 
قالت:  يا ابْنَ أُخْتِي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارٌ. فَقُلْتُ : مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ ؟ قَالَتِ : الْأَسْوَدَانِ : التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِيرَانٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، كَانَ لَهُمْ مَنَائِحُ ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبْيَاتِهِمْ فَيَسْقِينَاهُ.

آية من آيات الإيمان أن تكون الصلة بينك وبين جارك صالحة ، أن تجمع بينك وبين جارك الكلمة الطيبة،  والمعاملة الحسنة، ويكفيك أن تعلم أن من أسباب دخول الجنة إحسانك إلى جيرانك.. 

«جاء رجل فقال: يا رسول الله دُلَّني على عمل إذا عمِلت به، دخلت الجنة، فقال: ((كن محسنًا))، فقال: يا رسول الله، كيف أعلم أني محسن؟ قال: (سل جيرانك، فإن قالوا: إنك محسن، فأنت محسن، أو قالوا: إنك مسيء، فأنت مسيء)» . 

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يؤلف بين قلوبنا وأن ينزع الغل والحسد من صدورنا إنه نعم المولى ونعم النصير.. 

الخطبة الثانية
ورد في الصحيح من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ".

أيها الإخوة الكرام: بقي لنا في ختام الحديث أن نقول: 
إن حق الجار ليس فقط في أن تكرمه،  وليس فقط في أن تواسيه،  وليس فقط في أن تساعده وتسانده،  وإنما الحق الأوفي للجار هو أن تكف عنه أذاك.. 

أن لا يسمع منك كلمة تعاب،  أن لا تضيق عليه،  ألا تهجره،  أن لا تخاصمه،  أن لا تقاطعه، أن تبقي حبال الود بينك وبينه،  فذلك من عظيم حقه عليك.. 

الحق الأوفى للجار على جاره أن تمسك عنه لسانك ويديك ،  أن تغض عن محارمه عينيك،  ألا تتجسس عليه،  أن لا تتبع عوراته، أن لا تتطفل عليه.. 

«قِيلَ لِلنَّبِيِّ ﷺ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلَانَةً تَقُومُ اللَّيْلَ، وَتَصُومُ النَّهَارَ، وَتَفْعَلُ، وَتَصَّدَّقُ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ "لَا خَيْرَ فِيهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ »، قَالُوا: وَفُلَانَةٌ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ، وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ (قطع من الإقط)، وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ "هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ"» [ رواه البخاري ]

الحق الأوفى للجار على جاره أن لا تؤذي نفسيته، ذلك أن أثقل ما على النفس ( الجار السيئ) 
قال لقمان الحكيم لابنه: "يَا بُنَيَّ، قَدْ حَمَلْتُ الْحِجَارَةَ وَالْحَدِيدَ وَالْحِمْلَ الثَّقِيلَ، فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا قَطُّ أَثْقَلَ مِنْ جَارِ السَّوْءِ"

وفي الختام أود أن أقول: 
إن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من حق الله تعالى (الصلاة).. 
وأول ما يحاسب عليه العبد من حقوق العباد ( الدماء) ثم يأتي بعد السؤال عن الدماء السؤال عن حق الجار قال النبي ﷺ "أَوَّلُ خَصْمَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَارَانِ"
المظلوم يشتكي،  والمظلوم يدافع عن نفسه،  والله تعالى يفصل بينهما.. 
فأعد للسؤال جواباً،  وأعد للجواب صواباً.. 

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح أحوالنا وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير. 
------------------------------------------------------------------------------
جمع وترتيب : الشيخ / محمد سيد حسين عبد الواحد.
إمام وخطيب ومدرس أول .
إدارة أوقاف القناطر الخيرية.
مديرية أوقاف القليوبية . مصر