الكحول ما له وما عليه

خالد سعد النجار

كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا لَمْ يَتُبْ لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ

  • التصنيفات: فتاوى وأحكام -

{بسم الله الرحمن الرحيم}

 

** روى مسلم عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا لَمْ يَتُبْ لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ» .

وروى مسلم عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلَةَ السَّبَإِيِّ، مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ، عَمَّا يُعْصَرُ مِنَ الْعِنَبِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إِنَّ رَجُلًا أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَاوِيَةَ خَمْرٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَهَا؟» قَالَ: لَا، فَسَارَّ إِنْسَانًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «بِمَ سَارَرْتَهُ؟»، فَقَالَ: أَمَرْتُهُ بِبَيْعِهَا، فَقَالَ: «إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا»، قَالَ: فَفَتَحَ الْمَزَادَةَ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهَا» .

وقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: « (مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ)» [أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، وصححه الألباني]

وروى مسلم عن وائل بن حجر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- « أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا، فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ» .

وهذا يدل دلالة واضحة على تحريم التداوي بالخمر، وأنها ليست بدواء، وإنما هي داء.

قال النووي: "هَذَا دَلِيل لِتَحْرِيمِ اِتِّخَاذ الْخَمْر، وَتَخْلِيلهَا. وَفِيهِ التَّصْرِيح بِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ، فَيَحْرُم التَّدَاوِي بِهَا; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ, فَكَأَنَّهُ يَتَنَاوَلهَا بِلَا سَبَب, وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد أَصْحَابنَا" انتهى.

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ [البخاري تعليقا]

** الكحول الإيثيلي هو من أخطر الكحوليات من حيث التأثير المسكر والسام فهو المكون المشترك في كافة أنواع الخمور والمشروبات الكحولية وهو المسئول عن الأثر المسكر الناجم عن تعاطي هذه المشروبات.

وعند تعاطي المشروبات الكحولية فإن حوالي 20% من الكحول يتم امتصاصه مباشرة من خلال جدار المعدة وخاصة إذا كانت خالية من الطعام حيث يؤثر نوع وكمية الطعام الموجود بالمعدة على سرعة امتصاص الكحول منها ويمر 80% من الكحول إلى الأمعاء الدقيقة حيث يتم امتصاصه إلى مجرى الدم أيضا.

يمر الكحول الممتص من المعدة والأمعاء الدقيقة خلال الشريان الكبدي إلى الكبد حيث يقوم إنزيم متخصص يعرف باسم نازع هيدروجين الكحول بتكسير الكحول الممتص بمعدل ثابت محولة إياه إلى أسيتالداهيد فحمض الأسيتيك الخليك ثم إلى ثاني أكسيد الكربون والماء وما يزيد عن هذا المعدل الثابت يخرج من الكبد عن طريق الوريد الكبدي إلى الناحية الوريدية للقلب ومنه إلى الرئتين حيث يمكن الكشف عن وجوده في هواء الزفير ثم إلى الجانب الشرياني للقلب حيث يتوزع إلى كافة أنسجة وأعضاء الجسم بما فيها الدماغ.

أما من الناحية الطبية الشرعية فإن تأثير الكحول على الدماغ هو المهم من الوجهة العملية حيث إن التغيرات الحادثة في وظائف هذا العضو تؤثر بشكل مباشر على قدرة الأشخاص على أداء مهام محددة تحتاج قدرا من الحكم بطريقة طبيعية على الأمور والأشياء وأيضا على التوافق الحركي للعضلات.

** الكحول من المواد المسكرة، وكل مسكر خمر، والخمر حرام، ويتعلق بالكحول هنا أمران:

الأول: هل هو نجس أم لا؟ والثاني: هل يؤثر في خلطه بغيره من الأدوية والأغذية؟

أما الأمر الأول: فقد ذهب جمهور العلماء إلى نجاسة الخمر نجاسة حسيَّة، والصحيح: أنها ليست كذلك، وأن نجاستها نجاسة معنوية.

وأما الأمر الثاني: فالكحول إذا خُلط بغيره من الأدوية والأغذية فإما أن يكون تأثيره واضحاً وإما أن لا يكون، فإن كان تأثيره واضحاً: حرم الخلط، وحرم استعمال تلك الأغذية والأدوية أكلاً أو شرباً.

وإن لم يكن للكحول تأثيرٌ في تلك الأغذية والأدوية جاز استعمالها أكلاً وشرباً، وهناك فرق بين تناول الكحول مباشرة وبين خلطه بغيره، فإن تناولَه المرءُ وحده لم يجز حتى لو قلَّت كميته، وإن خُلط بغيره: فعلى ما سبق تفصيله.

والراجح أن الكحول الموجود في العطور مسكر، وأنه من جنس ما هو موجود في الخمر، وأن الخمر نجسة على قول فريق من أهل العلم، وكذلك كل مسكر مائع، وهو قول الجمهور، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90]

** في تفصيل هذه المسألة يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-: "الكحول مادة مسكرة كما هو معروف فتكون خمراً؛ لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (كل مسكر حرام)، وفي رواية: (كل مسكر خمر)، وعلى هذا فإذا خالطت هذه الكحول شيئاً ولم تضمحل بما خالطته: صار هذا الشيء حراماً؛ لأن هذا الخليط أثَّر فيه، أما إذا انغمرت هذه الكحول بما خالطته ولم يظهر لها أثر: فإنه لا يحرم بذلك؛ لأن أهل العلم رحمهم الله أجمعوا على أن الماء إذا خالطته نجاسة لم تغيره فإنه يكون طهوراً.

والنسبة بين الكحول وبين ما خالطه قد تكون كبيرة وقد تكون صغيرة، بمعنى أن هذه الكحول قد تكون قوية فيكون اليسير منها مؤثراً في المخالط، وقد تكون ضعيفة فيكون الكثير منها غير مؤثر، والمدار كله على التأثير.

ثم هاهنا مسألتان: الأولى: هل الخمر نجس نجاسة حسيَّة؟ أي: أنه يجب التنزه منه وغسل الثياب إذا أصابها وغسل البدن إذا أصابه وغسل الأواني إذا أصابها أو لا؟

جمهور العلماء على أن الخمر نجس نجاسة حسيَّة، وأنه يجب غسل ما أصابه من بدن أو ثياب أو أوانٍ أو فرش أو غيرها، كما يجب غسل البول والعذرة، واستدلوا لذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90]، والرجس هو النجس بدليل قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} أي: نجس.

واستدلوا أيضاً بحديث أبي ثعلبة الخشني حيث سأل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الأكل بآنية الكفار فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لا تأكلوا فيها، إلا أن لا تجدوا غيرها، فاغسلوها وكلوا فيها).

وقد ورد في تعليل النهي عن الأكل فيها أنهم كانوا يضعون فيها الخمر ولحم الخنزير وما أشبه ذلك.

ولكن القول الثاني في المسألة أن الخمر ليس نجساً نجاسة حسيَّة، واستدل لهذا القول بأن الأصل في الأشياء الطهارة، وأنه لا يلزم من تحريم الشيء أن يكون نجساً، فالسم حرام بلا شك ومع ذلك ليس بنجس.

وقالوا: إن القاعدة الشرعية: "أن كل نجس حرام، وليس كل حرام نجساً"، وعلى هذا: فيبقى الخمر حراماً وليس بنجس حتى تقوم الأدلة على نجاسته.

واستدلوا أيضاً بأن الخمر حين حرمت أراقها المسلمون في الأسواق ولم يغسلوا الأواني منها، وإراقتها في الأسواق دليل على عدم نجاستها؛ لأنه لا يحل لإنسان أن يريق النجس في أسواق المسلمين؛ لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اتقوا اللاعنين، قالوا: يا رسول الله، وما اللاعنان؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم)

ولأنهم لم يغسلوا الأواني منها، ولو كانت نجسة لوجب غسل الأواني منها، واستدل لهذا القول أيضاً بما ثبت في صحيح مسلم (أن رجل أهدى إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- راوية خمر فأخبره النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنها حرمت، فتكلم أحد الصحابة مع صاحب الراوية سرّاً [أي: أسرَّ إليه حديثاً] فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: بما ساررته، قال: قلت: بعها، فنهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن بيعها، وقال: (إن الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه) - هذا الحديث أو معناه - ثم فتح الرجل فم الراوية وأراق الخمر بحضرة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولم يأمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بغسل الراوية ولو كان الخمر نجساً لأخبره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بنجاسة الراوية وأمره بغسلها.

وأما ما استدل به القائلون بالنجاسة الحسية في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} فإن الله تعالى قيد هذا الرجس بأنه رجس عملي قال: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} وليس رجساً عينيّاً بدليل أن الميسر والأنصاب والأزلام ليست نجاستها نجاسة حسيَّة، والخبر عن نجاستها ونجاسة الخمر خبر واحد لعامل واحد: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} ومثل هذا لا يجوز أن تفرق الدلالة فيه على وجهين مختلفين إلا بدليل يعين ذلك.

وأما حديث أبي ثعلبة الخشني فليس الأمر بغسلها من أجل نجاستها، لاحتمال أن يكون الأمر بغسلها من أجل الابتعاد التام والانفصال التام عن استعمال أواني الكفار الذي يجر إلى مماستهم والقرب منهم وليس للنجاسة؛ لأن المعروف أن النجاسة لا تثبت بالاحتمال.

على كل حال: هذا هو الأمر الأول مما يتعين البحث فيه في جواب هذا السؤال عن الكحول وإذا تبين أن الخمر ليست نجسة نجاسة حسيَّة صارت هذه الكحول ليست نجسة نجاسة حسية فتبقى على طهارتها.

أما الأمر الثاني: فإذا تعيَّن أن في هذه الأطياب كحولاً ومؤثراً لكونه كثيراً، فهل يجوز استعماله في غير الشرب؟ جواب ذلك أن يقال:

إن قول الله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} عام في جميع وجوه الاستعمال أي: أننا نجتنبه أكلاً وشرباً ودهناً وغير ذلك، هذا هو الأحوط بلا شك، لكنه لا يتعين في غير الشرب؛ لأن الله تعالى علل الأمر بالاجتناب بقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}، وهذا لا يتأتى في غير الشرب، وعلى هذا: فالورع اجتناب التطيب بهذه الأطياب والجزم بالتحريم لا يمكن ..." انتهى [فتاوى نور على الدرب]

** الكحول المنتج بطريقة صناعية، قد قرر جماعة من المعاصرين أنها ليست بنجسة أصلًا -وإن أسكرت-، وأنها لا تأخذ حكم الخمر من كل وجه.

وبالتالي: فلا بأس مطلقًا في استعمال المواد المشتملة على الكحول من عطور أو غيرها، ولا حرج في الأخذ بهذا القول والعمل به، ففيه تيسير وتخفيف، مع عموم البلوى بالكحول.

** الروائح التي يقال إن فيها كولونيا أو أن فيها كحولاً لابد أن نفصل فيها فنقول: إذا كانت النسبة من الكحول قليلة فإنها لا تضر، وليستعملها الإنسان بدون أن يكون في نفسه قلق، مثل أن تكون النسبة خمسة في المائة أو أقل من ذلك، فهذا لا يؤثر. وأما إذا كانت النسبة كبيرة بحيث تؤثر فإن الأولى أن لا يستعملها الإنسان إلا لحاجة، مثل تعقيم الجروح ما أشبه ذلك.

أما لغير حاجة فالأولى ألا يستعملها، ولا نقول أنه حرام، وذلك لأن هذه النسبة الكبيرة أعلى ما نقول فيها إنها مسكر، والمسكر لا شك أن شربه حرام بالنص والإجماع، لكن هل الاستعمال في غير الشرب حلال؟ هذا محل نظر، والاحتياط ألا يستعمل، وإنما قلنا: إنه محل نظر، لأن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فإذا نظرنا إلى عموم قوله: {فاجتنبوه} أخذنا بالعموم وقلنا: إن الخمر يجتنب على كل حال، سواء كان شرباً أو دهناً أو غير ذلك، وإذا نظرنا إلى العلة: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} قلنا إن المحظور إنما هو شربه، لأن مجرد الأدهان به لا يؤدي إلى هذا.

** قال بعض أهل العلم: إن نجاسة الخمر معنوية لا حسية، فهي طاهرة وإن كانت محرمة، كالسم الذي هو نبات، وكالحشيش المسكر. وهو قول ربيعة الرأي شيخ الإمام مالك، والمزني من أصحاب الشافعي، وداود الظاهري، ورجحه الشوكاني والصنعاني. وهو قول معتبر، وله حظ من النظر.

ولذلك فإن النووي –وهو ممن يقول بقول الجمهور بالنجاسة– قد قال في «شرح المهذب» بعد ذكر احتجاج الجمهور بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] قال: لا يظهر من الآية دلالة ظاهرة؛ لأن الرجس عند أهل اللغة القذر، ولا يلزم من ذلك النجاسة.

وكذا الأمر بالاجتناب لا يلزم منه النجاسة. وقول المصنف "ولأنه يحرم تناوله من غير ضرر فكان نجسا كالدم" لا دلالة فيه لوجهين، أحدهما: أنه منتقض بالمني والمخاط وغيرهما. والثاني: أن العلة في منع تناولهما مختلفة، فلا يصح القياس؛ لأن المنع من الدم لكونه مستخبثا، والمنع من الخمر لكونها سببا للعداوة والبغضاء، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة، كما صرحت به الآية الكريمة. اهـ.

ومع القول بالنجاسة العينية للخمر، يبقى السؤال عن الكحول المنتج بطرق صناعية بعيدا عن الخمر، هل هو نجس أم لا؟ وهذا أيضا من مواطن الخلاف. فمن أهل العلم من يفرق بين الكحول والخمر في الحكم، باعتبار:- أن الكحول الخالص إنما هو مادة سمية لا تقصد بالشرب، ولا تسكر إلا بعد خلطها بالماء أو غيره.

ولأن الكحول كمركب كيمائي موجود في كثير من الأطعمة المباحة بالإجماع، كالنباتات والثمار، والعجائن المخمرة.

ولأن الكحول سائل طيار سريع التبخر، وبخاره طاهر حتى ولو قلنا بنجاسة أصله، كبخار أي نجاسة عند الجمهور.

وأقوى من اطلعنا على كلامه في هذا الشأن هو: العلامة محمد رشيد رضا، فله كلام مطول في عدة مواضع من مجلة المنار. ومما قاله عن الكحول: هو سائل قابل للاحتراق، سريع التبخُّر أو الطيران، يُستخرَج غالبًا من الخشب وجذور القصب وأليافه، وهو يوجد في جميع أنواع النباتات، ولاسيما الفاكهة، ويكثر جدًّا في قشر البرتقال والليمون، وفي كل ما يختمر من الأشياء كالعجين، ولا يُستخرج من الخمور لغلائها ورخصه، وهو أقوى المطهرات؛ فإنه يزيل النجاسات والأقذار التي تعسر إزالتها بالماء، وإنما يُستخرج لاستعماله في التطهير الطبي، وتحضير كثير من الأدوية، وحفظ بعض الأشياء من الفساد، وفي الأعطار والأصباغ والوقود والاستصباح وغير ذلك ... فهو ليس بشراب، ولا يمكن شربه؛ لأنه سُمٌّ قاتل. نعم، إن هذا الكحول أو الغول هو المادة المؤثرة في الخمور التي لولاها لم تكن مسكرة، وأنه إذا وُضع في شراب غير مسكر بنسبة مخصوصة يصير مسكرًا، ولكن هذا لا يقتضي أن يسمى هو خمرًا لغةً، ولا شرعًا، ولا عُرفًا، كما أن المادة المؤثرة في قهوة البن - التي يسميها الكيماويون (كافيين)، والمادة المؤثرة في الشاي التي يسمونها (شايين) والمادة المؤثرة في التبغ (الدخان) التي يسمونها (نيكوتين) - إذا وُضعت في شراب آخر، أو في طعام، يصير له مثل تأثير القهوة والشاي والتبغ، ولا يسمى بأسمائها، وكل ما يترتب على ذلك من الحكم الشرعي أن الشراب - الذي يُوضَع فيه من الكحول ما يجعله مسكرًا - يحرم شربه لإسكاره، ويدخل عندنا في عموم الخمر، وإن وُضع له اسم آخر، خلافًا للحنفية، ومَنْ على رأيهم من اللغويين وغيرهم - فلا يعدونه منها لغةً ولا حُكمًا من كل وجه. اهـ.

وقال أيضا: لو كانت النجاسة تابعة لمقدار الكحول لوجب أن تكون نجاسة المسكرات المقطرة المسماة بالروحية أغلظ من نجاسة خمر العنب، ثم ألا ترى أن الشافعية ذكروا قولاً بطهارة الخمر المحترمة، وهم أشد الفقهاء تدقيقًا وتشديدًا في مسائل النجاسة! ثم إن جعْل مادة الكحول هي النجسة بنفسها، والعلة لنجاسة ما توجد أو تكثر فيه - يقتضي الحكم بنجاسة العجين المختمر، ونقيع التمر والزبيب، ولا سيما إذا أتى عليه يومان أو ثلاثة، وكان ذلك في بلاد حارة كالحجاز، وهو كالعجين المختمر طاهر بالإجماع، وكذا كل ما يوجد فيه من فاكهة ونبات، ولوجب تطهير اليد والسِّكِّين إذا قُشر بها الليمون والبرتقال ... وخلاصة القول أن الكحول مادة طاهرة مطهرة، وركن من أركان الصيدلة والعلاج الطبي والصناعات الكثيرة، وتدخل فيما لا يُحصى من الأدوية ... اهـ.

وقال أيضا: قال بعض متفقهة هذا العصر بنجاسة كل ما دخلت فيه مادة الغول (الكحول أو السبرتو) من أعطار، وطيوب، وأدهان، وأدوية، وهي كثيرة جدًّا عمت بها البلوى في الصيدليات، والطب، والصناعات، وشبهتهم أن هذه المادة هي المؤثرة في الخمور المحرمة، وفاتهم أنها هي المؤثرة في كل المختمرات المحللة بالإجماع كخميرة العجين أيضًا، على أن هذه المادة أقوى من الماء في التطهير. اهـ.

وقد اعتمد الشيخ ابن عثيمين على بحث العلامة محمد رشيد رضا في الكحول، ونقل بعض كلامه، ثم قال: هذا كلام جيد متين. اهـ.

وسئل الشيخ ابن عثيمين في موضع آخر عن استعمال الكحول في تعقيم الجروح وخلطها ببعض الأدوية؟ فأجاب بقوله: استعمال الكحول في تعقيم الجروح، لا بأس به للحاجة لذلك، وقد قيل إن الكحول تذهب العقل بدون إسكار، فإن صح ذلك فليست خمرا، وإن لم يصح، وكانت تسكر فهي خمر، وشربها حرام بالنص والإجماع. وأما استعمالها في غير الشرب، فمحل نظر ... اهـ.

وقال الدكتور محمد علي البار في كتابه «الخمر بين الطب والفقه»

إذا قلنا بنجاسة الخمر، فهل يعني ذلك أن الكحول نجس؟ - ثم تناول تعريف الخمر وحقيقته، وأن علة تحريمه هي الإسكار، سواء أكان جامدا، أو سائلا، أو غازيا (أبخرة وأدخنة)، وذكر نماذج لذلك ثم قال:

ورغم دخول جميع هذه المواد المذهبة للعقل المسببة للإدمان في الحرمة، إلا أن الفقهاء لم يتفقوا في حكم نجاستها، ولا في حد متعاطيها ... أما المسكرات من المائعات أي السوائل، فقد أدخلها الشافعية والحنابلة والمالكية في حكم الخمر في كل شيء بما فيه النجاسة. وأما الأحناف فلم يحرموا من هذه المواد إلا ما أسكر، وأما القليل الذي لا يسكر فلم يدخلوه في الحرمة، وبالتالي لم يدخلوه في حكم النجاسة، ونص الإمام أبو حنيفة على طهارة النبيذ.

وقد ذهب الأئمة أحمد ومالك وأبو حنيفة إلى طهارة بخار النجاسة. أما الشافعية فقالوا بنجاسة ذلك البخار. وبما أن الكحول سائل سرعان ما يتطاير، ويتحول إلى غاز، فإن هذا الغاز أو البخار يعتبر طاهرا، ولو كان أصله نجسا عند أحمد ومالك وأبي حنيفة.

وإذا علمنا أن الكحول يتكون في كثير من المأكولات، وجميع ما نخمره مثل الخمير والخبز والكعك والبسكويت. بل إن الكحول يتكون داخل أمعائنا بفعل البكتريا، فإننا نتيقن بذلك أن الكحول غير نجس، وأن علة تحريم الكحول هي الإسكار فحسب.

وكذلك إذا علمنا أن الكحول المستخدم في الكولونيا وغيرها لا يستخرج من الخمر أبدا، وإنما يصنع بطرق كيماوية، منها تحويل غاز الإيثان إلى الكحول الإيثيلي، أو الإيثانول كما يسمى علميا.

وعلى ذلك فليس مصدر الكحول الخمر، ومن يقول بنجاسة عين الخمر، فإن الكحول المستخدم في هذه العطور والروائح ليس مستخرجا من الخمر، بل هو مصنوع بطريقة مغايرة ومن مواد ليست نجسة. ويبدو على هذا أن استعمال الكحول في الكولونيا والبارفان وغيرها استعمال مادة طاهرة، ولكن هذا لا ينفي مطلقا حرمة شربها. اهـ.

وعلى ذلك؛ فأقل ما يقال في نجاسة الكحول المستعمل في التعقيم ونحوه من الأغراض النافعة التي لا علاقة لها بذهاب العقل: إنه محل خلاف، والقول بطهارته قول وجيه معتبر، قال به كثير من أهل العلم. وهذا في الأحوال المعتادة.

وأما في الأحوال الاستثنائية التي تستدعي التخفيف والتيسير في الحكم، إذا لم يتوفر غير الكحول لهذه الأغراض، فلا يتسنى القول بمنعه.

ولذلك جاء في قرار «مجمع الفقه الإسلامي» بشأن الأدوية المشتملة على الكحول والمخدرات ما نصه:

"يجوز استعمال الأدوية المشتملة على الكحول بنسب مستهلكة تقتضيها الصناعة الدوائية التي لا بديل عنها، بشرط أن يصفها طبيب عدل، كما يجوز استعمال الكحول مطهرًا خارجيًّا للجروح، وقاتلاً للجراثيم، وفي الكريمات والدهون الخارجية".

وتتأكد الحاجة للتخفيف في الحكم والأخذ بقول من يرى طهارة الكحول بأن استعمال الكحول في التعقيم لا يقتصر على الاستعمال الشخصي الذي يمكن للمرء أن يتجنبه باختياره، بل إن ذلك قد يصير لازما لمن يصلي في المسجد في كثير من البلدان، حيث تعقم المساجد نفسها، ولا يدخل الداخل إلى المسجد إلا من خلال بوابة للتعقيم. وعندئذ فلا يمكن للمصلي في المسجد أن يتجنب ذلك.

** عند من يقولون بنجاسة الخمر قال القاضي عياض في «إكمال المعلم»: كافة ‌السلف ‌والخلف ‌على ‌نجاسة ‌الخمر -والدليل على نجاستها مع إجماع الكافة عليها قديمًا وحديثًا إلا من شذ- تحريم بيعها. اهـ.

وأما ما يتعلق بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90]

فإن طهارة عين مال الميسر والأنصاب والأزلام الحسية -بدلالة الإجماع- لا تقتضي طهارة الخمر. فالمقرر في الأصول: أن خروج بعض ما تناوله العام بمخصص من المخصصات لا يسقط الاحتجاج بالعام في الباقي.

وقال الأمين الشنقيطي في «أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن»: وجماهير العلماء على أن ‌الخمر نجسة العين؛ لما ذكرنا. وخالف في ذلك ربيعة والليث، والمزني صاحب الشافعي، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين؛ كما نقله عنهم القرطبي في تفسيره، واستدلوا لطهارة عينها بأن المذكورات معها في الآية من مال ميسر، ومال قمار، وأنصاب، وأزلام ليست نجسة العين، وإن كانت محرمة الاستعمال

وأجيب من جهة الجمهور بأن قوله: {رِجْسٌ} يقتضي ‌نجاسة العين في الكل، فما أخرجه إجماع، أو نص خرج بذلك، وما لم يخرجه نص، ولا إجماع لزم الحكم بنجاسته؛ لأن خروج بعض ما تناوله العام بمخصص من المخصصات لا يسقط الاحتجاج به في الباقي، كما هو مقرر في الأصول، وإليه الإشارة بقول صاحب «مراقي الصعود»: وهو حجة لدى الأكثر إن … مخصص له معيناً يبن. اهـ.

وأما إراقة الصحابة للخمر فلا حجة فيه على طهارة الخمر.

وقد فصّل القرطبي في «المفهم» هذا، فقال: الجواب: أن الصحابة -رضي الله عنهم- فعلت ذلك لضرورة الحال؛ لأنهم لم تكن لهم سروب، ولا آبار يريقونها فيها؛ إذ الغالب من حالهم: أنهم لم تكن لهم كُنُف في بيوتهم. وقالت عائشة رضي الله عنها: إنهم كانوا يتقذرون من اتخاذ الكنف في البيوت. ‌

ونقلها ‌إلى ‌خارج ‌المدينة ‌فيه ‌كُلفة، ومشقة، ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور، فالتحق صبها في الطرق بالنجاسات التي لا تنفك الطرق عنها، كأرواث الدواب، وأبوالها.

وأيضا: فإنها يمكن التحرز منها فإن طرق المدينة كانت واسعة، ولم تكن الخمر من الكثرة، بحيث تصير نهرا يعم الطريق كلها، بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرز عنها.

هذا مع ما يحصل في ذلك من فائدة شهرة إراقتها في طرق المدينة؛ ليشيع العمل على مقتضى تحريمها من إتلافها، وأنه لا ينتفع بها. ويتتابع الناس، ويتوافقوا على ذلك. اهـ.

وبالتالي فإن الأشياء التي تحتوي على مواد كحولية تعتبر نجسة لأن من المعروف أن الكحول مسكر والمسكر نجس قليله وكثيره على الراجح

وبناء عليه فلا يجوز استعمال العطور التي تحتوي على كحول، ولا تجوز ولا تصح صلاة من استعمل ما فيه كحول، وهو ما أكده العلامة محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان، حيث قال - رحمه الله -: وعلى هذا، فالمسكر الذي عمت البلوى اليوم بالتطيب به المعروف في اللسان الدارج بالكولانيا نجس لا تجوز الصلاة به، ويؤيده أن قوله تعالى في المسكر {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90]. يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء من المسكر. انتهى

فهذه العطور المحتوية على الكحول، إن كان هذا الكحول هو المعروف طبياً (بالإيثانول) فلا شكَ في أنه خمر، ولا خلافَ بين الأئمة الأربعة في أن الخمر نجسة، وإنما قال بطهارتها طائفةٌ قليلةٌ من أهل العلم كربيعةَ شيخ مالك والمُزني صاحب الشافعي، والقولُ بنجاستها هو الصواب فإن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90]

ووصفُ الخمر بأنها رجس دليلٌ على نجاستها، فإن قيل: إنها قرنت بالميسرِ والأنصاب والأزلام وهي طاهرة فدل على أن الرجس في الآية هو الرجس المعنوي،

قلنا: خرجت هذه الثلاثة بالإجماع فبقيت الخمرُ على الأصل، فإن قيل: فلم يأمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بغسل الأواني من أثر الخمر ولا بغسل الأرض من أثرها وقد أمر بإراقتها في سكك المدينة حين حرمت، قلنا: لا يلزمُ أن يرد الأمر بغسلها في كل حديث، وقد ثبت عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما في سنن أبي داود عن أبي ثعلبة الخشني -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الأمر بغسل الأواني من أثر الخمر، فقد سأله أبو ثعلبة: إنّا نكونُ بأرضِ قومٍ أهل كتاب وهم يأكلون في آنيتهم الخنزيرَ ويشربون فيها الخمر، أفنأكلُ في آنيتهم، فقال: لا إلا ألا تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها. وأصله في البخاري.

فدلَ بوضوح على أن المستقر عند الصحابة نجاسةُ الخمر وإلا لما سألوا عن أثرها المشكوك فيه، ودل أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بغسلها على نجاستها، فهذا الحديث مع وصف الخمر في الآية بأنها رجس كافٍ جداً في الدلالة علي صحة مذهب جماهير العلماء القائلين بنجاسة الخمر، وقد نهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن أن تُتَّخذ الخمر خلاً. رواه مسلم.

فنهى عن تعمدِ تحويلها إلى عينٍ أخرى ليمكن الانتفاع بها وليست حينئذٍ خمرا، فكيفَ يجوزُ الانتفاع بها وهي لم تزل خمراً حساً ومعنى.

وقد انتصرَ العلامة الشنقيطي في أضواء البيان في الكلامِ على آية المائدة للقولِ بنجاسة الخمر فأجاد وأفاد رحمه الله، فدل جميعُ ما سقناه على نجاسة الخمر وعدمِ جواز الانتفاع بها لا في العطور ولا غيرها.

وليس معني هذا أننا نقدحُ في أحدٍ من أهل العلم أو ننتقصُ منه، ولكن الدليل هو العَلَم الذي يجبُ أن يشمر إليه كل مسلم، والمجتهد المخالف معذور، فقد أخبر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن المصيب من المجتهدين يؤجرُ أجرين، والمخطئ يؤجرُ أجراً واحدا، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين.

مع التنبيه على أن المواد الكحولية أو المسكرة إذا استحالت استحالة كاملة إلى ما لا يسكر فالراجح عدم نجاستها وعليه فما خالطها بعد الاستحالة فإنه طاهر.

** الأصل في العطور الحل والأصل كذلك عدم اشتمالها على الكحول فإذا شككت في اشتمالها على شيء من ذلك فاعمل بالأصل وهو الإباحة ولا يلزمك سؤال المهدي أو البائع عن اشتمالها على الكحول لكن إذا ظننت ظنا غالبا أنها مشتملة على الكحول فعند ذلك يلزمك اجتنابها [عند من يقول بنجاسة الخمر] لأن الظن الغالب يقوم مقام اليقين.

قال المقري في قواعده: المعتبر في الأسباب والبراءة وكل ما ترتبت عليه الأحكام: العلم ولما تعذر أو تعسر في أكثر ذلك أقيم الظن مقامه لقربه منه. انتهى

** الاستحالةَ معناها -كما هو معروفٌ عند الفقهاء- أن تتحول العين إلى عينٍ أخرى مخالفةٍ لها في الحد والحقيقة، مثل أن تتحول الميتة إلى تراب، والراجح أن النجاسات تطهر بالاستحالة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال ابن القيم في «إعلام الموقعين»: ومن الممتنع بقاء الخبيث وقد زال اسمه ووصفه، والحكم تابع للاسم والوصف دائر معه وجودا وعدما، فالنصوص المتناولة لتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر لا يتناول الزروع والثمار والرماد والملح والتراب والخل لا لفظاً ولا معنى ولا نصاً ولا قياساً. اهـ

ولقد اختلف العلماء في الأعيان النجسة إذا استحالت حتى صارت أعياناً أخرى طيبة، فذهب الشافعية والحنابلة في المشهور عنهم إلى عدم طهارتها وأن استحالتها لا تغير من حكم نجاستها شيئاً، إلا الخمر إذا تخللت بنفسها، فإنها تطهر عندهم بالاستحالة، لأن سبب نجاستها وصف الإسكار، وقد زال، بخلاف غيرها من الأعيان النجسة فإن نجاسته لعينه.

كما استدلوا أيضا على نجاسة الأعيان وإن استحالت بنهيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن أكل الجلالة وألبانها. رواه الإمام أحمد وأبو داود غيرهم.

وذهب الأحناف والمالكية في المشهور من مذهبهم إلى طهارتها -نعني طهارة الأعيان النجسة بالاستحالة- وقالوا: إن الشرع رتب وصف النجاسة على حقيقة، والحقيقة تنتفي بانتفاء بعض أجزاء مفهومها، فكيف إذا انتفت أجزاؤها بالكلية. فلو وقع كلب أو خنزير مثلا في مملحة حتى صارا ملحا، فلا شك أن هذا الملح الذي استحال إليه غير العظم واللحم الذين رتب عليهما الحكم، وهذا مذهب أهل الظاهر والذي صوبه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، بل قال شيخ الإسلام: "إن هذه الأعيان لم تتناولها نصوص التحريم لا لفظاً ولا معنى، فليست محرمة، ولا في معنى المحرم، فلا وجه لتحريمها، بل الذي يتناولها نصوص الحل، فالنص والقياس يقتضي تحليلها".

لذا فإنا نقول: إن كل ما استحال من أعيان النجاسات وانتقل إلى حقيقة مغايرة للأصل النجس انتقالا تاماً، فإنه يصبح حلالا جائز الاستعمال على ما ذهب إليه الأكثر، وصوبه شيخ الإسلام.

أما إذا استعملت في تصنيعه مادة محرمة من حيوان لم يذك أصلا، أو من حيوان نجس كالخنزير، فإنه لا يجوز استعماله لأنه بامتزاج تلك المادة النجسة به صار نجساً إلا في حالين:

الأولى: أن تكون العين النجسة قد تغيرت عينها بالاستحالة قبل إضافتها إلى المادة المراد تصنيعها، لأننا نقول: إن المادة المضافة هي عين أخرى غير نجسة.

الثانية: أن تضاف العين النجسة إلى المادة المراد تصنيعها، ثم تستحيل هذه المادة المزيج شيئاً آخر. لأننا نقول أيضا: إن هذه المادة المزيج من النجس والطاهر استحالت عيناً أخرى فحكمها حكم ما استحالت إليه.

** الفقهاء ذكروا أن العين إذا استحالت بالعلاج، أو الانغمار في عين أخرى، بحيث لا يبقى لها أثر؛ فإن حكمها يزول.. جاء في قواعد ابن رجب: "إن العين المنغمرة في غيرها، إذا لم يظهر أثرها؛ فهي كالمعدومة حكمًا". انتهى.

وقال شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» حول تأثير الاستحالة في الأعيان التي انقلبت إلى صلاح:

"والقول الثاني: وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد قولي المالكية، وغيرهم: إنها لا تبقى نجسة، وهذا هو الصواب؛ فإن هذه الأعيان لم يتناولها نصّ التحريم، لا لفظًا ولا معنى؛ وليست في معنى النصوص؛ بل هي أعيان طيبة، فيتناولها نصّ التحليل، وهي أولى بذلك من الخمر المنقلبة بنفسها. وما ذكروه من الفرق بأن الخمر نجست بالاستحالة؛ فتطهر بالاستحالة، باطل، فإن جميع النجاسات إنما نجست بالاستحالة -كالدم-؛ فإنه مستحيل عن الغذاء الطاهر، وكذلك البول، والعذرة؛ حتى الحيوان النجس مستحيل عن الماء، والتراب، ونحوهما من الطاهرات، ولا ينبغي أن يعبر عن ذلك بأن النجاسة طهرت بالاستحالة. فإن نفس النجس لم يطهر، لكن استحال، وهذا الطاهر ليس هو ذلك النجس، وإن كان مستحيلًا منه، والمادة واحدة، كما أن الماء ليس هو الزرع، والهواء، والحب، وتراب المقبرة ليس هو الميت، والإنسان ليس هو المني". انتهى.

وما يضاف من مادة الكحول إلى الدواء، أو الطعام، أو غيره؛ بغرض حفظه، ونحو ذلك؛ يعدّ شيئًا يسيرًا جدًّا، يستهلك في غيره؛ فلا يبقى له حكم.

ومعنى الاستهلاك: أن تختلط العين بغيرها بحيث تفقد صفاتها، وخصائصها المقصودة؛ فتكون كالهالكة، وإن لم تذهب تمامًا، ‌جاء في توصيات «الندوة الفقهية الطبية التاسعة» حول الاستهلاك:

"يكون ذلك بامتزاج مادة محرمة، أو نجسة بمادة أخرى طاهرة حلال غالبة؛ مما يذهب عنها صفة النجاسة والحرمة شرعًا، إذا زالت صفات ذلك المخالط المغلوب من الطعم، واللون، والرائحة، حيث يصير المغلوب مستهلكًا بالغالب، ويكون الحكم للغالب، ومثال ذلك: المركبات الإضافية التي يستعمل من محلولها في ‌الكحول كمية قليلة جدًّا في الغذاء، والدواء، كالملونات، والحافظات، والمستحلبات مضادات الزنخ". [من مجلة مجمع الفقه الإسلامي].

وعليه؛ فلا حرج -إن شاء الله تعالى- في الانتفاع بتلك الأشياء التي أضيف إليها شيء يسير من الكحول، فانغمر فيها، وزالت حقيقته بالانغمار، أو بالاستحالة، والمعالجة، خاصة إذا لم يوجد له بديل مباح خالٍ من تلك الإضافات.

** النوع المسكر من الكحول هو المعروف بالكحول الإيثيلي، وأما السام فهو المعروف بالكحول الميثيلي، جاء في نشرة للهيئة العامة للغذاء والدواء ما نصه:

تتكون العطور غالبا من الماء ومن مجموعة من الزيوت العطرية.. وحتى يتم ذوبان هذه المواد بشكل فعال يتم استخدام المذيبات والتي يعد من أشهرها استخداما الكحول الإيثلي (الإيثانول) ومن الشائع استخدام الميثانول بديلا للإيثانول وذلك لرخص ثمنه مقارنة بالإيثانول وتعتبر إضافة الميثانول غشا في مكونات العطور إذا زادت عن نسبة 5 % من نسبة الإيثانول أو الكحول الايزوبروبيلي المستخدم وذلك نظرا لخطورته العالية. اهـ.

وجاء في «الموسوعة الجنائية» لسعود العتيبي: يعرِّف الطب الكحول بأنه سائل طيار ليس له لون، وله طعم لاذع، وذو رائحة معروفة... ويستخدم بكثرة كمذيب للمواد العطرية والكولونيا والروائح، والكحول له نوعان هما:

أ- الكحول الإثيلي: وهو المعروف باسم (السبرتو) ويستعمل في تحضير الأدوية، وفي المسكرات.

ب- الكحول الميثيلي: وهو مادة سامة تستخدم في تركيب السموم، والمبيدات. اهـ.

وقال الدكتور محمد علي البار في بحث «التداوي بالمحرمات» المنشور في (مجلة مجمع الفقه الإسلامي): تستخدم الغول (الكحول) كمطهر خارجي .. وتستخدم أيضاً بكثافة في العطور وما يسمى البارفان والكولونيا.. وتصل نسبة الكحول في الكولونيا إلى 90 %.. وبما أن هذه الكولونيا قد تشرب، وخاصة في الأماكن التي يمنع فيها تعاطي الخمور فإن الشركات المصنعة تضيف إليها مادة أخرى شديدة السمية من أنواع الغول (الكحول) وهي الكحول المثيلي اهـ.

وهذا النوع الثاني لا نستطيع الجزم بكونه مسكرا أو غير مسكر، فقد اطلعنا على كلام بعض المتخصصين في هذا المجال فوجدناه متعارضا، فصرح بعضهم بكونه مسكرا، قال الدكتور الطبيب إسماعيل صبحي حافظ في بحثه «نظرات الطب الحديث في المسكِراتِ والمُخدَّراتِ»: "كل شراب يحوي الكحول الإثيلي أو الكحول المثيلي له صفة الإسكار، وإن تفاوتت النسبة حيث إن بعضها يحوي 60% وبعضها الآخر يحوي 4% فكلها مواد مسكرة". اهـ

وصرح بعضهم أيضا بكونه غير مسكر. كما نص آخرون على أن علة عدم إسكاره أن شاربه يموت قبل أن يتناول القدر المسكر منه لأنه شديد السمية.

ومن حيث الجملة فإنه ليس كل ما يسمى كحولا عند الكيميائيين يكون مسكرا لمجرد دخوله تحت مجموعة الكحوليات، وقد سئل الشيخ عبد الرزاق عفيفي عن الروائح المحفوظة بالكحول، فقال: لا بأس به ما لم تكن مسكرة، والمسكر فيها أنواع مخصصة، وليس كل كحول مسكرا، فقشر البرتقال فيه كحول لكنه غير مسكر اهـ.

** القول بأن ما لا يسكر ليس بنجس قول صحيح؛ لأنه ليس خمرًا, والأصل في الأشياء الطهارة. وإذا وُجِدَ من أنواع الكحول ما لا يُسكر: فإنه لا يحكم بنجاسته, وقد ذكرت «الموسوعة العربية العالمية» بعض أنواع الكحول التي تُصنف ضمن السموم، وليست المسكرات، فهذا يجري فيه خلاف الفقهاء في حكم السم: هل هو طاهر أم أنه نجس.

** إذا اشتمل المنتج على كحول الإيثانول، ففيه تفصيل:

// فإن كان بكمية كبيرة غير مستهلكة بحيث صار هذا الدواء مسكرا، فهو خمر يحرم تناوله، ولا استحالت مادتها إلى مادة أخرى، وكانت تؤخذ عبر الفم، فيحرم تناول هذا المنتج؛ لأن كحول الإيثانول مسكر، وتناول المسكر حرام، ولم يجعل الله في الخمر دواء، بل هي داء.

// وإن كان بكمية يسيرة مستهلكة لإذابة بعض المواد، وكان المنتج غير ضار، فلا حرج في استعماله.

// وإن كانت نسبة الخمر قليلة بحيث لا يسكر جاز تناوله.

جاء في «فتاوى الجنة الدائمة»: "لا يجوز خلط الدواء بالكحول المسكرة، أما ما كان قد خلط بهذه الكحول فعلاً، فإن كان شرب الكثير منه يسكر حرم صرفه وشربه، قل أو كثر، وإن كان شرب كثيره لا يسكر جاز صرفه وشربه". انتهى .

وقال الشيخ ابن عثيمين :"وأما ما يكون من مواد الكحول في بعض الأدوية، فإن ظهر أثر ذلك الكحول بهذا الدواء بحيث يسكر الإنسان منه حرام، وأما إذا لم يظهر الأثر وإنما جعلت فيه مادة الكحول من أجل حفظه، فإن ذلك لا بأس به، لأنه ليس لمادة الكحول أثر فيه".

** الذي يظهر أن النسبة القليلة (5%) من الكحول المسكر في الأدوية لا يحرمها على مستعملها، ولا يحكم بنجاستها لأجلها، وذلك لأمور :

أولا: أن المسكر إذا خلط بنسبة قليلة مع الماء، أو الدواء، فإنه يستهلك ولا يبقى له أثر، فلا يصير الشراب المشتمل على نسبة كحول (5%) مثلا مسكرا، والإسكار هو علة التحريم في الخمر، فإذا انتفت عن ذلك المخلوط: لم يأخذ حكم التحريم الوارد في الخمر؛ لا من حيث حرمة تناوله، ولا من حيث نجاسته .

يقول الخطيب الشربيني -رحمه الله-: "محل الخلاف في التداوي بها – يعني بالخمر - بصرفها، أما الترياق المعجون بها ونحوه مما تستهلك فيه، فيجوز التداوي به عند فقد ما يقوم مقامه، مما يحصل به التداوي من الطاهرات، كالتداوي بنجس، كلحم حية، وبول, ولو كان التداوي بذلك لتعجيل شفاء، بشرط إخبار طبيب مسلم عدل بذلك، أو معرفته للتداوي به" [مغني المحتاج]

ولذلك صدر بجواز استعمال الأدوية المشتملة على نسبة قليلة من الكحول المسكر قرارات من مجامع الفقه الإسلامي، وفتاوى من لجان وهيئات الإفتاء في العالم الإسلامي، مع استحباب وتفضيل تجنب إدخال الكحول في شيء من الأدوية، حرصا على اجتناب الشبهات .

جاء في قرار «مجمع الفقه الإسلامي» التابع لرابطة العالم الإسلامي في مكة ما يأتي: "الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد :

فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته السادسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، وبعد النظر في الأبحاث المقدمة عن الأدوية المشتملة على الكحول والمخدرات، والمداولات التي جرت حولها، وبناء على ما اشتملت عليه الشريعة من رفع الحرج، ودفع المشقة، ودفع الضرر بقدره، وأن الضرورات تبيح المحظورات، وارتكاب أخف الضررين لدرء أعلاهما، قرر ما يلي :

1/ لا يجوز استعمال الخمرة الصرفة دواءً بحال من الأحوال؛ لقول رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إنَّ اللهَ لم يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّم عَلَيْكُمْ) رواه البخاري في الصحيح.

ولقوله: (إنَّ اللهَ أنزَل الدَّاءَ، وجعَل لِكُلِّ داءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا، ولا تَتَدَاوَوْا بحَرَامٍ) رواه أبو داود في السنن، وابن السُّني، وأبو نعيم.

وقال لطارق بن سويد - لما سأله عن الخمر يُجعَلُ في الدواء -: (إنَّ ذلك لَيْسَ بِشِفَاءٍ، ولَكِنَّه دَاءٌ) رواه ابن ماجه في سننه، وأبو نعيم .

2/ يجوز استعمال الأدوية المشتملة على الكحول بنسب مستهلكة تقتضيها الصناعة الدوائية التي لا بديل عنها، بشرط أن يصفها طبيب عدل، كما يجوز استعمال الكحول مطهرًا خارجيًّا للجروح، وقاتلاً للجراثيم، وفي الكريمات والدهون الخارجية .

3/ يوصي المجمع الفقهي الإسلامي شركات تصنيع الأدوية والصيادلة في الدول الإسلامية، ومستوردي الأدوية، بأن يعملوا جهدهم في استبعاد الكحول من الأدوية، واستخدام غيرها من البدائل .

4/ كما يوصي المجمع الفقهي الإسلامي الأطباء بالابتعاد عن وصف الأدوية المشتملة على الكحول ما أمكن. والله ولي التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد" انتهى.

** جاء في قرار «مجمع الفقه الإسلامي» التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ما يأتي:

"للمريض المسلم تناول الأدوية المشتملة على نسبة من الكحول إذا لم يتيسر دواء خال منها، ووصف ذلك الدواء طبيب ثقة أمين في مهنته".

** قال فريق من أهل العلم: إذا كان الدواء المشتمل على الكحول يستعمل دهاناً للرأس، ولا يشرب، واحتاج الإنسان إليه، فلا حرج في استعماله، ولو كان الكحول فيه كثيرا أو ذا رائحة قوية، إلا إذا ثبت أن هذا النوع من الكحول مسكر، وكان شرب الكثير من هذا الدواء – على فرض شربه – مما يسكر، فحينئذ لا يجوز بيعه ولا شراؤه ولا التداوي به؛ لأنه خمر.

وقد سئل علماء «اللجنة الدائمة للإفتاء»: ما حكم الاستمتاع بالكحول أو الخمر عموما، أي: استخدامه في دهان الأثاث وفي العلاج والوقود والتنظيف والتعطير والتطهير واتخاذه خلا؟

فأجابوا: "ما أسكر شرب كثيره فهو خمر، وقليله وكثيره سواء، سواء سمي كحولا أم سمي باسم آخر، والواجب إراقته وتحريم الإبقاء عليه لاستخدامه والانتفاع به في تنظيف أو تطهير أو وقود أو تعطير أو تحويله خلا أم غير ذلك من أنواع الانتفاع.

أما ما لم يسكر شرب كثيره، فليس بخمر، ويجوز استعماله في تعطير وعلاج وتطهير جروح ونحو ذلك" انتهى

وسئلوا أيضا: تباع في الأسواق بعض الأدوية أو الحلوى تحتوي على نسبة ضئيلة من الكحول، فهل يجوز أكلها؟ علما أن الإنسان لو أكل من هذه الحلوى وتضلع لا يصل إلى حد السكر أبدا ؟

فأجابوا: "إذا كان وجود الكحول في الحلوى أو الأدوية بنسبة ضئيلة جدا بحيث لا يسكر أكل أو شرب الكثير منها؛ فإنه يجوز تناولها وبيعها؛ لأنها لا يكون لها أي مؤثر في الطعم أو اللون أو الرائحة؛ لاستحالتها [تحولها] إلى طاهر مباح، لكن لا يجوز للمسلم أن يصنع شيئا من ذلك، ولا يضعه في طعام المسلمين، ولا أن يساعد عليه" انتهى

** إذا أضيفت الكحول إلى معجون الأسنان أو غيره وهي ما زالت مسكرة، فقد تنجس هذا المعجون, وإذا كانت الكحول قد استحالت عن أصلها، كأن عولجت وصارت غير مسكرة، فقد طهرت، وإذا أضيفت بعد ذلك للمعجون أو غيره فإنه لا يتنجس، هذا على مذهب أهل العلم القائلين بطهارة العين النجسة إذا استحالت عن أصلها.

وقد رجح هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال كما في «المستدرك على مجموع الفتاوى»: "والصواب هو القول الأول، وأنه متى علم أن النجاسة قد استحالت فالماء طاهر، سواء كان قليلا، أو كثيرا، وكذلك في المائعات كلها، وذلك أن الله تعالى أباح الطيبات وحرم الخبائث، والخبيث متميز عن الطيب بصفاته، فإذا كانت صفات الماء وغيره صفات الطيب دون الخبيث، وجب دخوله في الحلال دون الحرام". انتهى.

وبناء عليه: إن كانت الكحول قد استحالت أثناء التصنيع إلى مادة أخرى غير مسكرة فحينئذ يجوز استعمالها بناء على رجحان القول بطهارة النجاسة بالاستحالة -وهذا هو الغالب على الكحول المضاف إلى الأطعمة أن يستحيل إلى مادة أخرى-.
وكذلك إن كانت نسبة الكحول قليلة جدا ولا يظهر أثرها المباشر في لون المستحضر ولا طعمه ولا ريحه فحينئذ لا حرج في تناوله واستعماله.

مع تقرير أن هناك قولا معتبرا لجمع من المعاصرين بأن الكحول المصنع ليست خمرا أصلا وإن أسكرت وهذا القول فيه توسعة وتسهيل ولا تثريب في العمل به وتقليد المفتين به حتى نقطع الحيرة والوسوسة من أصلها.

** الخل قد يصنع من غير الخمر بإضافة مواد محمضة

جاء في «الإنصاف» للمرداوي: الخل المباح: أن يصب على العنب أو العصير خل قبل غليانه حتى لا يغلي نص عليه في رواية الجماعة " انتهى

وفي «مطالب أولي النهى» والخل المباح: أن يصب على العنب أو العصير خل قبل غليانه، وقبل أن تمضي عليه ثلاثة أيام بلياليهن حتى لا يغلي، نقله الجماعة عن أحمد " انتهى.

** أنواع الخل المصنوعة من مواد طاهرة -كخل التفاح، أو القصب، أو غيرهما- لا إشكال في حلها.

وإنما الإشكال هو في خل الخمر، أو النبيذ (Wine Vinegar) إذا لم تتخلل بنفسها.

روى أبو داود عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا خَمْرًا قَالَ أَهْرِقْهَا قَالَ أَفَلَا أَجْعَلُهَا خَلًّا؟ قَالَ: (لَا) [صححه الألباني في صحيح أبي داود]

 والحديث من أدلة من يرى حرمة تخليل الخمر، وعدم طهارتها بذلك، وحرمة تناولها.

بينما يرى طائفة من العلماء جواز تخليل الخمر وطهارتها إذا خُللت، ويرى بعض العلماء -كابن حزم في المحلى- حرمة التخليل، مع طهارة الخل.

جاء في «الموسوعة الفقهية الكويتية»: اتفق الفقهاء على أن الخمر إذا تخللت بغير علاج، بأن تغيرت من المرارة إلى الحموضة وزالت أوصافها، فإن ذلك الخل حلال طاهر؛ لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (نعم الأدم أو الإدام الخل). ولأن علة النجاسة والتحريم الإسكار، وقد زالت، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.

وكذلك إذا تخللت بنقلها من شمس إلى ظل، وعكسه، عند جمهور الفقهاء: (الحنفية والمالكية، وهو الأصح عند الشافعية) وبه قال الحنابلة إذا كان النقل لغير قصد التخليل.

واختلفوا في جواز تخليل الخمر بإلقاء شيء فيها، كالخل والبصل والملح ونحوه، أو أوقد عندها نار بقصد التخليل.

فقال الشافعية والحنابلة، وهو رواية ابن القاسم عن مالك: إنه لا يحل تخليل الخمر بالعلاج، ولا تطهر بذلك؛ لحديث مسلم عن أنس قال: سئل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الخمر تتخذ خَلًّا، قال: (لا). ولأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بإهراقها؛ ولأن الخمر نجسة أمر الله تعالى باجتنابها، وما يلقى في الخمر يتنجس بأول الملاقاة، وما يكون نجسا لا يفيد الطهارة.

وصرح الحنفية، وهو الراجح عند المالكية بجواز تخليل الخمر، فتصير بعد التخليل طاهرة حلالا عندهم، لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (نعم الإدام الخل). فيتناول جميع أنواعها.

ولأن بالتخليل إزالة الوصف المفسد، وإثبات الصلاح، والإصلاح مباح كما في دبغ الجلد، فإن الدباغ يطهره، لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أيما إهاب دبغ فقد طهر). اهـ.

وقال العلامة خليل في المختصر -وهو مالكي المذهب- عاطفا على الأشياء الطاهرة: وخمر تحجر أو خلل. قال شراحه: ولو بإلقاء شيء فيه كالملح والخل والماء فيطهر ويطهر ما ألقي فيه.

قال النووي رحمه الله: " (فرع) في مذاهب العلماء في تخلل الخمر وتخليلها: أما إذا انقلبت بنفسها خلا: فتطهر، عند جمهور العلماء ونقل القاضي عبد الوهاب المالكي فيه الإجماع وحكى غيره عن سحنون المالكي أنها لا تطهر.

وأما إذا خللت بوضع شيء فيها: فمذهبنا أنها لا تطهر، وبه قال أحمد والأكثرون.

وقال أبو حنيفة والأوزاعي والليث: تطهر .

وعن مالك ثلاث روايات: أصحها عنه: أن التخليل حرام، فلو خللها طهرت، والثانية حرام ولا تطهر، والثالثة: حلال وتطهر" [المجموع]

وقال الشيح محمد المختار الشنقيطي في شرح زاد المستقنع: " وجمهرة أهل العلم: أن الخل إذا تحول بنفسه صار حلالاً طاهراً؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال كما في الحديث الصحيح: (نعم الإدام الخل)، والخل لا يمكن أن يصير خلاً إلا بعد أن يكون خمراً، وهذا المراد به: إذا تخلل بنفسه، والدليل على أنه يحل إذا تخلل بنفسه حديث أبي طلحة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حينما سأل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن خمر الأيتام، فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمره أن يريق الخمر، فلو كان يجوز تخليل الخمر لما أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بإراقتها، فدل على أنه لا يجوز لمالك الخمر أن يخللها بنفسه، ولكن إن تخللت بنفسها فإنه يجوز وتكون طاهرةً حينئذٍ" انتهى.

وفي «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» لابن رشد: وأجمعوا على أن الخمر إذا تخللت من ذاتها جاز أكلها، واختلفوا إذا قصد تخليلها على ثلاثة أقوال: التحريم، والكراهية، والإباحة. وسبب اختلافهم معارضة القياس للأثر، واختلافهم في مفهوم الأثر.

وذلك أن أبا داود خرج من حديث أنس بن مالك «أن أبا طلحة سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن أيتام ورثوا خمرا، فقال: "أهرقها!" قال: أفلا أجعلها خلا؟ قال: لا.

فمن فهم من المنع سد ذريعة، حمل ذلك على الكراهة، ومن فهم النهي لغير علة، قال بالتحريم.

ويخرج على هذا أن لا تحريم أيضًا على مذهب من يرى أن النهي لا يعود بفساد المنهي.

والقياس المعارض لحمل الخل على التحريم: أنه قد علم من ضرورة الشرع أن الأحكام المختلفة إنما هي للذوات المختلفة، وأن الخمر غير ذات الخل، والخل بإجماع حلال، فإذا انتقلت ذات الخمر إلى ذات الخل وجب أن يكون حلالا كيفما انتقل. اهـ.

لكن قد قرر بعض العلماء جواز شراء خل الخمر، ما دام المشتري لا يعلم أن البائع قصد تخليلها.

قال ابن تيمية -وهو ممن يرى حرمة تخليل الخمر-: وما ذكرناه عن عمر بن الخطاب هو الذي يعتمد عليه في هذه المسألة، أنه متى علم أن صاحبها قد قصد تخليلها لم تشتر منه. وإذا لم يعلم ذلك جاز اشتراؤها منه؛ لأن العادة أن صاحب الخمر لا يرضى أن يخللها. اهـ. [مجموع الفتاوى].

فالظاهر بناءً على هذا: جواز شراء خل الخمر، والمواد المشتملة عليه في الأسواق؛ لأن المشتري لا يعلم أن الجهة المنتجة قد قصدت تخليلها.

وأما مجرد وجود نسبة يسيرة من الكحول لا توجب الإسكار -في خل الخمر أو غيره-؛ فلا يقتضي التحريم، فالكحول موجودة في كثير من النباتات، والمواد المباحة بالإجماع -كخميرة العجين-، فاعتقاد حرمة كل ما يتضمن نسبة من الكحول اعتقاد خاطئ غير صحيح.

** ويحرم خلط الخمر بالطعام ولو ذهبت كحوليتها بالتسخين ولا تطهر الخمر بذلك، وذلك لأن المسلم مأمور باجتناب الخمر وإراقتها فاقتناؤها محرم وخلطها بالطعام أشد حرمة والفعل المحرم لا يكون سببا للحل والإباحة والطهارة

قال شيخ الإسلام ابن تيمية لأن حبس الخمر حرام سواء حبست لقصد التخليل أو لا والطهارة نعمة فلا تثبت بالفعل المحرم.

وروى الحاكم والبيهقي من حديث أنس أيضاً قال: كان في حجر أبي طلحة يتامى، فاشترى لهم خمراً، فلما أنزل الله تحريم الخمر أتى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فذكر ذلك له، فقال: أأجعله خلاً؟ قال: فأهرقه.

وهذا مذهب الجمهور من الشافعية والحنابلة ورواية للمالكية.

أما حديث: (خير خلكم خل خمركم). فرواه البيهقي في المعرفة عن جابر مرفوعاً، وقال رواه المغيرة بن زياد وليس بالقوي وعلى احتمال صحته فأهل الحجاز يسمون خل العنب خل الخمر. انتهى.

قال ابن القيم بعد ذكر هذه الأحاديث: وفي الباب عن أبي الزبير عن جابر وصح ذلك عن عمر بن الخطاب ولا يعلم لهم في الصحابة مخالف فردت - أي الأحاديث المذكورة سابقا - بحديث مجمل لا يثبت وهو ما رواه الفرج بن فضالة عن أم سلمة أنها كانت لها شاة تحلبها ففقدها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: ما فعلت بشاتك؟ فقلت: ماتت. قال: أفلا انتفعتم بإهابها؟ قلت: إنها ميتة. قال: (فإن دباغها يحل كما يحل الخمر). قال الحاكم: تفرد به الفرج بن فضالة عن يحيى والفرج ممن لا يحتج بحديثه ولم يصح تحليل خل الخمر من وجه وقد فسر رواية الفرج فقال: يعني أن الخمر إذا تغيرت فصارت خلا حلت فعلى هذا التفسير الذي فسره راوي الحديث يرتفع الخلاف وقد قال الدارقطني: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث عن فرج بن فضالة ويقول: حدث عن يحيى بن سعيد الأنصاري أحاديث مقلوبة منكرة وقال البخاري: الفرج بن فضالة منكر الحديث.

وردت بحديث واه من رواية مغيرة بن زياد عن أبي الزبير عن جابر يرفعه: (خير خلكم خل خمركم). ومغيرة هذا يقال له أبو هشام المكفوف صاحب مناكير عندهم ويقال: إنه حدث عن عطاء بن أبي رباح وأبي الزبير بجملة من المناكير وقد حدث عن عبادة بن نسي بحديث غريب موضوع فكيف يعارض بمثل هذه الرواية الأحاديث الصحيحة المحفوظة عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في النهي عن تخليل الخمر؟

ولم يزل أهل مدينة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ينكرون ذلك قال الحاكم: سمعت أبا الحسن علي بن عيسى الحيري يقول: سمعت محمد بن إسحاق يقول: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: قدمت المدينة أيام مالك فتقدمت إلى قاض فقلت: عندك خل خمر؟ فقال: سبحان الله! في حرم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قال: ثم قدمت بعد موت مالك فذكرت ذلك لهم فلم ينكر علي.

وأما ما روي عن علي من اصطباغه بخل الخمر وعن عائشة أنه لا بأس به فهو خل الخمر الذي تخللت بنفسها لا باتخاذها. [انتهى ملخصا من إعلام الموقعين لابن القيم]

وقد رجح ابن تيمية قول الجمهور، وعضد ذلك بعدة وجوه، حيث قال - رحمه الله -: فإن قيل: هذا منسوخ؛ لأنه كان في أول الإسلام، فأمروا بذلك كما أمروا بكسر الآنية، وشق الظروف ليمتنعوا عنها, قيل: هذا غلط من وجوه:

أحدها: أن أمر الله ورسوله لا ينسخ إلا بأمر الله ورسوله، ولم يرد بعد هذا نص ينسخه.

الثاني: أن الخلفاء الراشدين بعد موته عملوا بهذا، كما ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قال: "لا تأكلوا خلّ خمر إلا خمرًا بدأ الله بفسادها، ولا جناح على مسلم أن يشتري من خلّ أهل الذمة"

فهذا عمر ينهى عن خل الخمر التي قصد إفسادها، ويأذن فيما بدأ الله بإفسادها، ويرخص في اشتراء خل الخمر من أهل الكتاب؛ لأنهم لا يفسدون خمرهم، وإنما يتخلل بغير اختيارهم، وفي قول عمر حجة على جميع الأقوال.

الوجه الثالث: أن يقال: الصحابة كانوا أطوع الناس لله ورسوله؛ ولهذا لما حرم عليهم الخمر أراقوها، فإذا كانوا مع هذا قد نهوا عن تخليلها, وأمروا بإراقتها فمن بعدهم من القرون أولى منهم بذلك، فإنهم أقل طاعة لله ورسوله منهم, يبين ذلك أن عمر بن الخطاب غلظ على الناس العقوبة في شرب الخمر؛ حتى كان ينفي فيها؛ لأن أهل زمانه كانوا أقل اجتنابًا لها من الصحابة على عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فكيف يكون زمان ليس فيه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-؟ لا ريب أن أهله أقل اجتنابًا للمحارم، فكيف تسد الذريعة عن أولئك المتقين، وتفتح لغيرهم، وهم أقل تقوى منهم. اهـ.

وجاء في «فتاوى اللجنة الدائمة»: الخل إذا كان أصله خمرًا وتخلل هذا الخمر بفعل آدمي لا يجوز استعماله، والأصل في ذلك ما رواه مسلم .. أن أبا طلحة سأل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن أيتام ورثوا خمرًا، قال: «أهرقها, قال: أفلا أجعلها خلًا؟ قال: لا » قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: في هذا بيان واضح أن معالجة الخمر حتى تصير خلًا غير جائز، ولو كان إلى ذلك سبيل لكان مال اليتيم أولى الأموال به؛ لما يجب من حفظه وتثميره والحيطة عليه، وقد كان نهي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن إضاعة المال، وفي إراقته إضاعته، فعلم بذلك أن معالجته لا تطهره, ولا ترده إلى المالية بحال، وهو قول عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وإليه ذهب الشافعي, وأحمد بن حنبل.

ثانيا: إذا تخللت الخمر بنفسها جاز استعمالها، والأصل في ذلك ما أخرجه مسلم أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (نعم الإدام الخل) وعموم هذا الحديث مخصص بالحديث السابق في الأمر الأول، قال الإمام مالك -رحمه الله-: لا أحب لمسلم ورث خمرًا أن يحبسها يخللها، ولكن إن فسدت خمرًا حتى تصير خلًا لم أر بأكله بأسًا. انتهى.

ثالثا: إذا كان الخل ليس أصله الخمر فلا إشكال في حله؛ لأن كل عصير حمض يسمى خلًا.

وهذا فيما إذا تخللت تخللا تاما. أما إذا بقيت نسبة ولو يسيرة فتبقى على نجاستها وتحريمها.

** اختار الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أنه: إن خلل الخمر من يعتقد حلها كأهل الذمة، أو خللها من يرى جواز تخليلها من المسلمين فحينئذ تصير خلا يباح استعماله.

قال -رحمه الله-:" المشهور من المذهب: أنها إِذا خُلِّلَتْ لا تطهُر، ولو زالت شدَّتُها المسكرة ... لأن زوال الإِسكار كان بفعل شيء محرَّم، فلم يترتَّب عليه أثره. وقال بعض العلماء: إِنها تطهُر، وتحلُّ بذلك، مع كون الفعل حراماً، وعلّلوا: أنَّ عِلَّة النَّجاسة الإسكار، والإِسكار قد زال، فتكون حلالاً.

وقال آخرون: إِنْ خلَّلها مَنْ يعتقدُ حِلَّ الخمر كأهل الكتاب؛ اليهود والنَّصارى، حَلَّت، وصارت طاهرة، وإِن خلَّلها مَنْ لا تَحِلُّ له فهي حرام نجسة, وهو أقرب الأقوال، وعلى هذا يكون الخلُّ الآتي من اليهود والنَّصارى حلالاً طاهراً، لأنهم فعلوا ذلك على وجه يعتقدون حِلَّه". [الشرح الممتع]

وقال أيضاً: "لكن لو خلَّله من يعتقد حِلَّ التخليل، من مسلم أو كافر، فهل يحل؟ الصحيح أنه يحل ؛ لأن هذا انقلب خلاًّ على وجه مباح، فصار مباحاً، وعلى هذا فالخل الوارد من بلاد الكفار يكون حلالاً للمسلمين؛ وإن كان مخللاً بفعل آدمي، لأنه مخلل بفعل آدمي يعتقد تحليله". [الشرح الممتع]

وعلى هذا فالخل الذي يصنعه النصارى في أوربا وغيرها من معالجة الخمر، يحل تناوله.

** الأصل جواز الانتفاع بخل التفاح، كغيره من أنواع الخل الأخرى ما لم يكن مخلوطاً بمحرم كالكحول، وأما إذا اشتمل الخل على الكحول أو غيره من المسكرات قبل أن يستحيل إلى مادة أخرى ويزول عنه وصف الإسكار فإنه يصير حراماً سواء سكر منه الشخص أو لا، فالكحول هي المادة المسكرة في الخمر.

روى مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَأَلَ أَهْلَهُ الْأُدُمَ، فَقَالُوا: مَا عِنْدَنَا إِلَّا خَلٌّ، فَدَعَا بِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ بِهِ، وَيَقُولُ: (نِعْمَ الْأُدُمُ الْخَلُّ، نِعْمَ الْأُدُمُ الْخَلُّ)

** الخل إذا كان فيه نسبة من الكحول، فإنه يحكم بنجاسته باعتبار أصله ما لم يثبت أنه قد تخلل بنفسه، لأن من القواعد الفقهية المقررة أن اليقين لا يزول بالشك، وإذا ثبتت نجاسته حرم استعماله في الأكل ودواء باطن الجسد اتفاقاً ومنعه جمع من أهل العلم في ظاهر الجسد فقد روى عبد الرزاق في المصنف بسنده عن جابر بن زيد: أنه سئل عن دردى الخمر هل يصلح أن يتدلك به في الحمام أو يتداوى بشيء منه في جراحة أو سواها قال: هو رجس وأمر الله تعالى باجتنابه.

وقال ابن شعبان: لا يعالج بالمسكر وإن غسل بالماء ولا يداوي به دبر الدواب.

وقد ذكر الزيلعي في «تبيين الحقائق» أن أبا حنيفة -رحمه الله- قال: أكره دردى الخمر أن تمتشط به المرأة. وذكر أيضاً أن عائشة -رضي الله عنها- كانت تنهى النساء عن ذلك أشد النهي.

وأما الخل الذي يصنع بالبيت فإن لم يثبت لكم أنه تخمر حتى صار مسكراً فإنه لا حرج عليكم فيه لأن الأصل في الأطعمة الحل ما لم يعلم يقيناً أو ظناً غالباً أن فيها ضرراً أو خالطها مسكر أو نجس فالطعام لا يحرم بالشك، كما قال أهل العلم.

** من العلماء من قال: وجود نسبة ولو قليلة من الكحول يحرم استخدام المركب -إلا أن يكون الكحول قد استحال- والقاعدة أن اليقين لا يزال بالشك فلو ثبت وجود الكحول حرم الاستعمال حتى يثبت استحالته، ولو وجد الخل وشككنا هل تحول إلى كحول أم لا؟ فالأصل أنه خل حتى نتحقق العكس فالخل الموجود في أسواق المسلمين ولم يعلم تحوله إلى الكحول باق على طهوريته حتى يثبت العكس.

ومحل الكلام السابق إذا كان الكحول مسكرا فليست كل الكحولات مسكرة بل منها المسكر وغيره.

** دين الله يسر، وأحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة، والشرع مبناه على التخفيف والتيسير .

هذا ما نصت عليه الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، قال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة:6] وقال عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28] وقال سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]

 وقد أجمل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا المعنى فقال:

(أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة). [أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وحسنه الألباني].

(إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه). [البخاري].

(يسروا ولا تعسروا، وبشروا، ولا تنفروا). [البخاري].

(إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ، إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ). [أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني]

وقد جعل أهل العلم من القواعد الكلية في الفقه الإسلامي قاعدة: «المشقة تجلب التيسير» وفرعوا منها أن: «الأمر إذا ضاق اتسع» وهذا يشمل أمر التداوي، ولذلك نص المحققون من أهل العلم على أن «مصلحة التداوي، مقدمة على مصلحة اجتناب النجاسة إذا عدم غيرها».

كما قال العز بن عبد السلام في «قواعد الأحكام»: جاز التداوي بالنجاسات إذا لم يجد طاهرا يقوم مقامها؛ لأن مصلحة العافية والسلامة، أكمل من مصلحة اجتناب النجاسة، ولا يجوز التداوي بالخمر على الأصح، إلا إذا علم أن الشفاء يحصل بها، ولم يجد دواء غيرها.

وقد نشر في مجلة «مجمع الفقه الإسلامي»: توصيات الندوة الفقهية الطبية التاسعة، عن الرؤية الإسلامية لبعض المشاكل الطبية، والتي تناولت عدة موضوعات، ومنها موضوع: الاستحالة والمواد الإضافية في الغذاء والدواء.

وقد ناقشت الجوانب الطبية والفقهية المتعلقة بهذا الموضوع، وخلصت إلى أن المواد الإضافية في الغذاء والدواء التي لها أصل نجس أو محرم، تنقلب إلى مواد مباحة شرعًا بإحدى طريقتين:

1- الاستحالة: ويقصد بها في الاصطلاح الفقهي: "تغير حقيقة المادة النجسة أو المحرم تناولها، وانقلاب عينها إلى مادة مباينة لها في الاسم والخصائص والصفات". ويعبر عنها في المصطلح العلمي الشائع، بأنها: كل تفاعل كيميائي، يحول المادة إلى مركب آخر.

2- الاستهلاك: ويكون ذلك بامتزاج مادة محرمة أو نجسة، بمادة أخرى طاهرة حلال غالبة، مما يذهب عنها صفة النجاسة والحرمة شرعًا، إذا زالت صفات ذلك المخالط المغلوب من الطعم واللون والرائحة، حيث يصير المغلوب مستهلكًا بالغالب، ويكون الحكم للغالب، ومثال ذلك:

1- المركبات الإضافية التي يستعمل من محلولها في الكحول كمية قليلة جدًا في الغذاء والدواء، كالملونات والحافظات والمستحلبات مضادات الزنخ.

2- الليستين والكوليسترول المستخرجان من أصول نجسة بدون استحالة، يجوز استخدامهما في الغذاء والدواء بمقادير قليلة جدًا، مستهلكة في المخالط الغالب، الحلال الطاهر.

3- الأنزيمات الخنزيرية المنشأ، كالببسين، وسائر الخمائر الهاضمة ونحوها، المستخدمة بكميات زهيدة مستهلكة في الغذاء والدواء الغالب. أهـ

وبهذا يتبين أنه مع افتراض شبهة، سواء في مادة الجيلاتين أو غيرها من المشتقات ذات الأصل الحيواني، فإن ذلك لا يعني بالضرورة حرمة استعمال الدواء المحتوي عليها، سواء من ناحية استهلاكها في الدواء إذا لم تستحل، أو من ناحية الرخصة في استعمالها مع نجاستها إذا تعسر تحصيل غيرها.

** توجد أنواع من السكريات يطلق عليها السكر الكحولي وهذه الأنواع من السكر ليست مستخرجة من المشروبات الكحولية وليست كحولا وإنما هي مجموعة من مجموعات السكر يطلق عليها اسم سكر الكحول الذي هو موجود في بعض الفواكه بشكل طبيعي.

وهذه السكريات لها استخدامات في كثير من الأطعمة والمشروبات كبديل للسكر بسبب قلة السعرات الحرارية لأن فيها سعرات حرارية أقل من السكر العادي لذلك توصف لمرضى السكر والذين يرغبون في عمل حمية غذائية وتستخدم كذلك في شراب السعال وغير ذلك من استخداماتها.

وعليه فإنه لا حرج -إن شاء الله- في استهلاكها واستخدامها وإضافة اسمها إلى الكحول لا يغير شيئا من حقيقتها.

** ذكرت «الموسوعة العربية العالمية» بعض أنواع الكحول التي تصنف ضمن السموم وليس المسكرات فهذا يجري فيه خلاف الفقهاء في حكم السم: هل هو طاهر أم أنه نجس.

والمذهب عند الحنابلة أنه نجس قال صاحب «الإنصاف»: فالصحيح من المذهب وعليه الأصحاب قاطبة: أن السموم نجسة محرمة.. اهـ.

وجاء في «الموسوعة الفقهية»: طهارة السم أو نجاسته اختلفوا في نجاسة السم:

1- أطلق الحنابلة القول بأن السم نجس، ولم يفرقوا بين الجامد وغيره، ولا بين ما كان من النباتات الطاهرة التي لم تحرم إلا لأضرارها وما كان من الحيات والعقارب وسائر الهوام ذوات السموم.

2- وفرق الشافعية بين ما كان من الأشجار والنباتات مما لم يحرم إلا من جهة كونه مضرا بالصحة وبين ما خالطته نجاسة أو كان من نجس كأن يخالطه لحوم الحيات وغيرها من لحوم الهوام ذوات السموم أو كان لعابا لما ذكر كسم الحية والعقرب وسائر الهوام.

3- وقال المالكية: إن لعاب الحيات والعقارب وغيرها من ذوات السموم طاهر كلعاب كل حي إذا لم يستعمل النجاسة.

4- ويفهم من عبارات الحنفية أن لعاب الحيات والعقارب نجس عندهم لنجاسة لحمها ولعابها من جسمها ككل ما لا يؤكل لحمه. اهـ

** استخدم الكحول في تطهير الأيدي أو تعقيمهما أو تنظيفهما مما يعلق بهما من المواد الكيميائية ونحوها، ولا تعني إزالةَ نجاسة علقت بهما، فنرجو أن لا يكون هناك حرج في استعمال الكحول في ذلك، حتى على القول بأن الكحول نجسة عينا، لأن ملامسة النجاسة في ظاهر البدن للحاجة جائزة عند جمع من الفقهاء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وَأَمَّا التَّدَاوِي: بِأَكْلِ شَحْمِ الْخِنْزِيرِ، فَلَا يَجُوزُ، وَأَمَّا التَّدَاوِي بِالتَّلَطُّخِ بِهِ، ثُمَّ يَغْسِلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى جَوَازِ مُبَاشَرَةِ النَّجَاسَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ، كَمَا يَجُوزُ اسْتِنْجَاءُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَإِزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِيَدِهِ، وَمَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ جَازَ التَّدَاوِي بِهِ، كَمَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِلُبْسِ الْحَرِيرِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ." انتهى.

** التداوي بالنجاسات -كالكحول- في ظاهر البدن محل خلاف بين العلماء، فمنهم من كرهه، ومنهم من رخص فيه، وممن رخص في التداوي بالنجاسات في ظاهر البدن للحاجة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-

فإذا علمت هذا؛ فإن أمكن اجتناب هذا النجس، والمداواة بغيره، فهو أحسن خروجًا من الخلاف، وإلا ففي الأمر سعة -إن شاء الله-، فيسع الأخذ بقول من يرى إباحة ذلك، وينبغي للطبيب إخبار المريض، ونصحه بأن يغسل أثر ذلك النجس عند إرادة الصلاة.

وإن كان المريض يرى رجحان طهارة الكحول، أو يقلد من يفتي بذلك، فلا حرج عليه في ترك غسله.

** لا شك أن الطهارة من النجاسة في بدن المصلي وثوبه شرط لصحة الصلاة في قول أكثر أهل العلم، منهم: ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وقتادة، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي.

ومن الأدلة على ذلك: قوله تعالى: {وثيابك فطهر} [المدثر:4] وحديث أسماء رضي الله عنها -قالت: سئل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن دم الحيض يكون في الثوب؟ فقال: "اقرصيه وصلي فيه" وفي رواية: " فإن رأت فيه دماً فلتقرصه بشيء من ماء، ولتنضح ما لم تر، وتصلي فيه" [أبو داود].

ولا شك أن النجاسة المؤثرة هي التي لا يعفى عنها، أما إن كانت مما يعفى عنه، فلا حرج على المرء أن يصلي بها مثل: أثر الاستنجاء (اليسير) وأثر الدم.. الخ.

أما بخصوص من صلى وعلى ثوبه نجاسة -لا يعفى عنها- فإن صلى وهو عالم بها، فلا تصح صلاته، لأنه خالف أمر الله ورسوله، فوجب عليه إعادة الصلاة.

وإن صلى وهو متلبس بالنجاسة على الثوب، لكن جهلها حتى فرغ من الصلاة، ففي هذه المسألة ثلاثة أقوال:

أحدها: لا تفسد صلاته. وهو قول: ابن عمر، وعطاء، وسعيد ابن المسيب، وسالم، ومجاهد، والشعبي، والزهري، وإسحاق، وابن المنذر، والشافعي في قول، وأحمد في رواية، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.

والثاني: يعيد الصلاة وهو قول: أبي قلابة، والشافعي في الأصح، والإمام أحمد في رواية وعليها المذهب، لأنها طهارة مشترطة للصلاة، فلم تسقط بجهلها، كطهارة الحدث.

والقول الثالث: قول ربيعة ومالك: أنه يعيد ما كان في الوقت ولا يعيد بعده.

أما إذا كان يعلم بوجود النجاسة، وفي نيته إزالتها، ولكنه نسي وصلى، ثم تذكر بعد ذلك ففي وجوب الإعادة عليه خلاف بين العلماء.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فلو صلى وببدنه أو ثيابه نجاسة، ولم يعلم بها إلا بعد الصلاة، لم تجب عليه الإعادة في أصح قولي العلماء، وهو مذهب مالك وغيره، وأحمد في أقوى الروايتين، وسواء كان علمها ثم نسيها، أو جهلها ابتداء، لما تقدم من أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلى في نعليه، ثم خلعهما في أثناء الصلاة، لما أخبره جبريل أن بهما أذى، ومضى في صلاته، ولم يستأنفها، مع كون ذلك موجوداً في أول الصلاة، لكن لم يعلم به، فتكلفه للخلع في أثنائها، مع أنه لولا الحاجة لكان عبثاً أو مكروهاً..يدل على أنه مأمور به من اجتناب النجاسة مع العلم، ومضيه يدل على العفو عنها في حال عدم العلم بها... [مجموع الفتاوي]

وعلى هذا فالراجح - والله أعلم - أنه لا تجب الإعادة في المسألتين

** إذا خالط الكحول مائعا من المائعات تنجس هذا المائع بملاقاته فإذا تطاير الكحول يبقى هذا المائع متنجسا وإذا لمست بيدك المبتلة شيئا مشتملا على الكحول ففي انتقال النجاسة إلى يدك - والحال هذه - خلاف والأحوط أن تغسل يديك - والحال هذه - خروجا من الخلاف.

** تطهير اليد المتنجسة أو غيرها، يكون بغسلها بالماء لا بمسحها بمنديل مبتل، فإذا مسحت يدك بهذا المنديل فإنها لا تطهر بذلك حتى تغسل بالماء، ويتنجس هذا المنديل بملاقاة النجاسة ثم إذا وضع المنديل في مكان ولم نتيقن من ملاقاة الموضع المتنجس منه لهذا المكان لم يحكم بتنجسه، لأن الأصل بقاء الطهارة وهو لا يزول بمجرد الشك، وأما إن تيقنا من ملامسة الموضع المتنجس من المنديل لهذا المكان ففي انتقال النجاسة منه إلى أقدام الماشين عليه وأرجلهم مبتلة خلاف بين العلماء.

جاء في «الفتاوى الهندية» من كتب الحنفية: إذَا لَفَّ الثَّوْبَ النَّجِسَ في الثَّوْبِ الطَّاهِرِ وَالنَّجِسُ رَطْبٌ فَظَهَرَتْ نَدَاوَتُهُ في الثَّوْبِ الطَّاهِرِ لَكِنْ لم يَصِرْ رَطْبًا بِحَيْثُ لو عُصِرَ يَسِيلُ منه شَيْءٌ وَلَا يَتَقَاطَرُ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ نَجِسًا، وَكَذَا لو بَسَطَ الثَّوْبَ الطَّاهِرَ على الثَّوْبِ النَّجِسِ، أو على أَرْضٍ نَجِسَةٍ مُبْتَلَّةٍ وَأَثَّرَتْ تِلْكَ النَّجَاسَةُ في الثَّوْبِ لَكِنْ لم يَصِرْ رَطْبًا بِحَالِ لو عُصِرَ يَسِيلُ منه شَيْءٌ وَلَكِنْ يُعْرَفُ مَوْضِعُ النَّدْوَةِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ نَجِسًا. انتهى.

مذهب المالكية والحنفية أن الرطب لا يتنجس بملاقاة الجاف النجس، ووافقهم الحنابلة إذا كانت الرطب غير مبلل.

وأما الشافعية فيرون نجاسته مطلقا. قال النووي في «المنهاج»: ( و ) يحل للآدمي ( لبس الثوب النجس ) ..( في غير الصلاة ونحوها ) ..إن كان جافا وبدنه كذلك.. وأما مع رطوبة فلا; لأن المذهب تحريم تنجيس البدن من غير ضرورة. انتهى.

وقال في «تحفة الحبيب» شارحا: قوله في المتن (ولبس الثوب النجس أي المتنجس إلخ ) ويستثنى من ذلك ما لو كان الوقت صائفا بحيث يعرق فيتنجس بدنه ويحتاج إلى غسله للصلاة. انتهى.

وعلى هذا التقدير، فنرجو أن يكون في القول بعدم انتقال النجاسة والحال هذه سعة، وإن كان الأولى غسل ذلك الموضع المتيقن إصابته بالنجاسة.

** للعلماء في المائع -غير الماء- إذا أصابته نجاسة مذاهب معروفة:

أولها: -وهو قول الجمهور- أن المائع ينجس بملاقاة النجاسة قليلا كان، أو كثيرا، وإليه ذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة في معتمد المذهب.

والقول الثاني: هو أن المائع كالماء -فلا ينجس كثيره إلا بالتغير- وأما قليله فينجس بملاقاة النجاسة، وهو مذهب الحنفية، ورواية عن الإمام أحمد.

جاء في «الموسوعة الفقهية» ما مختصره: ذهب الْمَالِكِيَّةُـ وَالشَّافِعِيَّةُـ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَوْلَى الرِّوَايَاتِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ مَا سِوَى الْمَاءِ الْمُطْلَقِ مِنَ الْمَائِعَاتِ كَالْخَل، وَمَاءِ الْوَرْدِ، وَاللَّبَنِ، وَالزَّيْتِ، وَالْعَسَل، وَالسَّمْنِ، وَالْمَرَقِ، وَالْعَصِيرِ، وَغَيْرِهَا، تَتَنَجَّسُ بِمُلاَقَاةِ النَّجَاسَةِ، سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْمَائِعُ قَلِيلاً لاَ يَبْلُغُ الْقُلَّتَيْنِ، أَوْ كَثِيرًا يَبْلُغُ الْقُلَّتَيْنِ، وَسَوَاءٌ أَعَسُرَ الاِحْتِرَازُ مِنْهَا، أَمْ لَمْ يَعْسُرْ؛ لأِنَّهُ لَيْسَ لِهَذِهِ الْمَائِعَاتِ خَاصِّيَّةُ دَفْعِ الْخَبَثِ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمَاءِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَمَا سُئِل عَنِ الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ: إِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلاَ تَقْرَبُوهُ- وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَرِيقُوهُ....

وذهب الحنفية -وهو رواية عن أحمد- إلى أن المائع كالماء لا ينجس إلا بما ينجس به الماء... قَال حَرْبٌ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ قُلْتُ: كَلْبٌ وَلَغَ فِي سَمْنٍ أَوْ زَيْتٍ؟ قَال: إِذَا كَانَ فِي آنِيَةٍ كَبِيرَةٍ مِثْل جُبٍّ، أَوْ نَحْوِهِ، رَجَوْتُ أَنْ لاَ يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ، وَيُؤْكَل؛ لأِنَّهُ كَثِيرٌ، فَلَمْ يَنْجُسْ بِالنَّجَاسَةِ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ كَالْمَاءِ، وَإِنْ كَانَ فِي آنِيَّةٍ صَغِيرَةٍ، فَلاَ يُعْجِبُنِي ذَلِكَ. [الموسوعة]

وفي المسألة قول ثالث إليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وهو أن المائعات كلها كالماء، والماء عنده لا ينجس إلا بالتغير كقول المالكية ورواية عن أحمد، فطرد -رحمه الله- هذا القول في سائر المائعات، وذهب إلى أن شيئا منها لا ينجس إلا بالتغير، وحكى هذا القول رواية عن أحمد، قال رحمه الله: وَفِي الْجُمْلَةِ لِلْعُلَمَاءِ فِي الْمَائِعَاتِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا كَالْمَاءِ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنَجُّسِ مِن الْمَاءِ، لِأَنَّهَا طَعَامٌ، وَإِدَامٌ، فَإِتْلَافُهَا فِيهِ فَسَادٌ، وَلِأَنَّهَا أَشَدُّ إحَالَةً لِلنَّجَاسَةِ مِن الْمَاءِ، أَوْ مُبَايِنَةٌ لَهَا مِن الْمَاءِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَاءَ أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنَجُّسِ مِنْهَا، لِأَنَّهُ طَهُورٌ.. ثم أطال النفس -رحمه الله- في تقرير مذهبه

ومذهب ابن حزم هو أن المائعات لا تنجس إلا بالتغير، إلا السمن إذا وقعت فيه فأرة، كما هي عادته -رحمه الله- في الارتكاز على الظواهر.

وقول الجمهور أن المائع ينجس بملاقاة النجاسة

** الثوب الذي أصابته نجاسة ثم جفت, لا تجزئ الصلاة فيه قبل تطهيره, ولا يصير طاهرا بمجرد الجفاف.

** طهارة الثياب التي أصابها مزيل العرق المحتوي على الكحول والثياب التي غسلت معها: فالأمر فيها هين ولا يحتاج إلى إعادة غسل! لأن الكحول أصلا سائل طيار لا يدوم ثم إن بقي له أثر في الثوب فإنه يطهر إذا غسل بالماء ولو كان يسيرا ما لم يتغير به لون الماء أو طعمه أو ريحه وهذا هو مذهب المالكية واختاره جماعة من المحققين.

قال ابن القيم في «إغاثة اللهفان»: الذي دلت عليه سنة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وآثار أصحابه: أن الماء لا ينجس إلا بالتغير وإن كان يسيرا وهذا قول أهل المدينة وجمهور السلف وأكثر أهل الحديث وبه أفتى عطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد والأوزاعي وسفيان الثوري ومالك بن أنس وعبد الرحمن بن مهدي واختاره ابن المنذر وبه قال أهل الظاهر ونص عليه أحمد في إحدى روايتيه واختاره جماعة من أصحابنا منهم ابن عقيل في مفرداته وشيخنا أبو العباس ـ يعني ابن تيمية ـ وشيخه ابن أبي عمر. اهـ.

وقال في «إعلام الموقعين»: القياس يقتضي أن الماء إذا لاقى نجاسة لا ينجس كما أنه إذا لاقاها حال الإزالة لا ينجس فهذا القياس أصح من ذلك القياس لأن النجاسة تزول بالماء حسا وشرعا وذلك معلوم بالضرورة من الدين بالنص والإجماع.

وأما تنجيس الماء بالملاقاة فمورد نزاع فكيف يجعل مورد النزاع حجة على مواقع الإجماع؟ والقياس يقتضي رد موارد النزاع إلى مواقع الإجماع، وأيضا فالذي تقتضيه العقول أن الماء إذا لم تغيره النجاسة لا ينجس فإنه باق على أصل خلقته وهو طيب فيدخل في قوله: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف:157]

وهذا هو القياس في المائعات جميعها إذا وقع فيها نجاسة فاستحالت بحيث لم يظهر لها لون ولا طعم ولا ريح. اهـ.

** الكحول المنتج بطريقة صناعية قد قرر جماعة من المعاصرين أنها ليست بنجس أصلا وأنها لا تأخذ حكم الخمر من كل وجه

وبالتالي: فلا بأس مطلقا في استعمال المواد المشتملة على الكحول ولا حرج في الأخذ بهذا القول والعمل به ففيه تيسير وتخفيف مع عموم البلوى بالكحول.

وحتى على القول بأن الكحول المسكرة نجسة فلا حرج في استعمال ما اشتمل على الكحول من منظفات أو غيرها إذا كانت نسبة الكحول يسيرة ولا يظهر لها أثر أو إذا استحالت إلى مادة أخرى.

** إذا أراد أن يشتري سلعة قد يكون فيها الكحول فإذا أمكنه قراءة محتويات السلعة فذاك ويجتنب ما فيه الكحول, وإن لم يمكن ذلك بأن كان لا يعرف اللغة المكتوبة على السلعة والمشتملة على محتوياتها فيمكنه سؤال البائع فإن أخبره وإلا فالأصل في الأشياء الطهارة وخلوها من النجاسة, وإذا كان نوع السلعة مما يغلب فيه اشتماله على الكحول فاجتنابه أولى من باب ترك الشبهات, جاء في فتاوى اللجنة الدائمة عن التداوي بما فيه كحول والشك في ذلك:

ثالثا: لا يجوز خلط الأدوية بالكحول المسكرة لكن لو خلطت بالكحول جاز استعمالها إن كانت نسبة الكحول قليلة لم يظهر أثرها في لون الدواء ولا طعمه ولا ريحه وإلا حرم استعمال ما خلط بها.

رابعا: الأصل في الأشياء الطهارة والحل فلا يعدل عنه إلا بتعيين أو غلبة ظن بما يوجب العدول عنه فإذا شك في خلاصة الكبد التي تعطى إبرا مثلا هل هي مستخلصة من كبد خنزير أو غيره أو شك في كونها مستخلصة من كبد حيوان مذبوح ذبحا شرعيا أو ذبحا غير شرعي فلا أثر لذلك الشك ولا يوجب العدول عن الأصل الذي هو الطهارة والحل وعلى هذا يجوز استعمال هذه الإبر ونحوها في التداوي بها إذا لم يثبت أن فيها ما يخرجها عن أصل الطهارة ومن الحل. اهـــ.

** عند من يقول: أن الكحول المسكرة خمرا نجسة عند  أكثر أهل العلم وعليه فإن البيرة التي تحتوي على كحول تعتبر متنجسة فلا يجوز أداء الصلاة قبل إزالتها أما في غير حال الصلاة: فلا يحرم استخدامها في ظاهر الجسم لأنها في حكم المتنجس والمتنجس يجوز للإنسان الانتفاع به في غير الأكل والشرب.

ومن ثم فلا يمنع شراء البيرة لإزالة سمرة البشرة. وهذا التفصيل محله إذا كانت الكحول لم تستحل قبل إضافتها إليها. أما إن كانت قد استحالت أثناء التصنيع استحالة تامة إلى ما لا يسكر فإنها تطهر بذلك على الراجح.

** الخميرة المستعملة لإصلاح الخبز حلال لأنها لا تسكر ولا تحتوي على كحول وإذا افترض أن بعضها أذيب وترك حتى تخمر وأصبح مسكرا فإنه يصير محرما لأن ما أسكر قليله فكثيره حرام.

** الفانيليا السائلة يتم وضع الكحول بصورته المسكرة (2% - 3% كحول على الأكثر) على نبات الفانيليا وهى نوع من البقول حتى يتم استخراج سائل الفانيليا المستخدم في تنكيه الغذاء، ومقدار الفانيليا المستخدم في أي وصفة طهي ضئيل جدا يستحيل معه حدوث السكر. فأضعف المسكرات البيرة تحتوى على 6% كحول.

فإذا كان استعمال الكحول في إعداد هذه الحلوى أمرا مشكوكا فيه وليس متيقنا فيجوز تناول هذه الحلوى ولا إشكال في هذا لأن الأصل عدم دخول الكحول المحكوم بنجاسته فيها.

وأما إذا حصل اليقين الجازم باستعمال الكحول في إعدادها فما كان يسكر من هذه الحلوى لو أكل بكميات كثيرة فلا شك في تحريمه وأنه يسمى خمرا لأن ما أسكر كثيره فقليله حرام.

وأما ما كان لا يسكر تناول القدر الكثير منه فقد رجح بعض أهل العلم أنه لا حرج في تناوله وإن اشتمل على شيء يسير من الكحول ما دام هذا الكحول مستهلكا بحيث لا يؤثر في الإسكار وممن رجح ذلك العلامة ابن عثيمين رحمه الله يقول الشيخ -رحمه الله-: وقوله: «كل شراب» هذا على سبيل الأغلبية أن يكون الخمر مشروبا وإلا فقد يكون مأكولا فيعجن ويؤكل وقد يكون معجونا من جهة أخرى بحيث يبل به العجين ويؤكل ـ أي: يعجن العجين بماء خمر ـ فيأكله الإنسان لقيمات فيحصل السكر ولهذا الأحسن أن نقول: «كل ما أسكر كثيره» كما جاء في الحديث سواء كان شرابا أو معجونا أو مطحونا فكل ما أسكر فإنه حرام. وإذا أسكر كثيره فظاهر أنه حرام وأما القليل فحرام بدليل الحديث ولأنه ذريعة إلى شرب الكثير المسكر فلهذا منع الشرع منه. ويجب أن نعرف الفرق بين أن نقول: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» وبين أن نقول: «ما كان مسكرا وخلط بغيره فهو حرام» لأن ما أسكر كثيره بمعنى هذا الشراب بعينه إن أكثرت منه سكرت وإن أقللت لم تسكر فيكون القليل حراما لأنه ذريعة.

وأما خلط الخمر بغيره على وجه لا يظهر فيه أثره فإن هذا لا يؤثر فهو كما لو وقعت نجاسة بماء فلم تغيره. ففي هذه الحال لا يكون الماء نجسا فإذا عجن عجينا بخمر فإنه يكون حراما وهذا بشرط أن يسكر ومعلوم أنك إذا عجنت العجين بخمر فإنه سوف يؤثر عليه بلا شك أما إذا لم يؤثر أي: يكون خلطا قليلا يتضاءل ويذهب أثره فلا عبرة به. انتهى.

** إذا كانت الكحول قد غسلت من وعاء بالغسل المعتاد وعسر زوال الرائحة فإنه يكون قد طهر ولا يضر بقاء الرائحة على الراجح، وبالتالي فتجزئ الطهارة من ماء الإناء المذكور.

جاء في «المجموع» للنووي: وإن بقيت الرائحة وحدها وهي عسرة الإزالة كرائحة الخمر وبول المبرسم وبعض أنواع العذرة فقولان وقيل وجهان أصحهما يطهر. انتهى.

وفي «الحاوي الكبير» للماوردي: فأما الإناء إذا بقيت فيه رائحة الخمر فلم تزل بالغسل فهو أخف حكما من الأرض فمن أصحابنا من قال: يطهر قولا واحدا لأن بقاء الرائحة فيه لطول المكث وكثرة المجاورة. انتهى.

** إذا اعتبرنا أن العطور التي تحتوي على كحول نجسة فلا يجوز التعطر بها في اليد والرأس ثم غسل المكان بالماء مباشرة بحيث تبقى الرائحة لأن بقاء الرائحة دليل على بقاء النجاسة ما لم تعسر إزالتها.

قال الحطاب في «مواهب الجليل»: قال في «الجواهر»: لو بقي الطعم بعد زوال الجرم في رأي العين فالمحل نجس. لأن بقاءه دليل على بقائه. وكذلك لو بقي اللون أو الريح وقلعه متيسر بالماء وإن تعسر قلعه عفي عنه وكان المحل طاهرا. اهـ

** الموسوس يشرع له الأخذ بالرخص وأخف الأقوال وأيسرها لئلا يزداد به الوسواس.

جاء في «تحفة المحتاج في شرح المنهاج» للهيتمي: الأولى لمن بلي بوسواس الأخذ بالأخف والرخص لئلا يزداد فيخرج عن الشرع. اهـ.

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]