الإسلام دين الإنصاف لكبار السن وأهل الفضل
محمد سيد حسين عبد الواحد
العناصرالأساسية:
العنصر الأول: الإسلام وإنصاف الإنسان.
العنصرالثاني: إجلال الكبير من إجلال الله تعالى.
العنصر الثالث : المنهج الشرعي لتوقير الكبير.
العنصر الرابع: الجزاء من جنس العمل.
- التصنيفات: مجتمع وإصلاح -
أخرج الإمام أحمد رحمه الله من حديث عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُسْرٍ ، يَقُولُ : «جَاءَ أَعْرَابِيَّانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ ؟ قَالَ : " مَنْ طَالَ عُمْرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ ". وَقَالَ الْآخَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَمُرْنِي بِأَمْرٍ أَتَثَبَّتُ بِهِ. فَقَالَ : " لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ "» .
أيها الإخوة الكرام: إن عظمة الإسلام تتجلى في مواطن كثيرة لا أكاد أحصيها..
لكني فيما أرى.. أرى أن من مواطن العظمة في الإسلام أنه دين إنصاف، دين عدل، دين رحمة، ففي ظل الإسلام يُعط فيه كل ذي حق حقه..
المرأة التي أُهينت في الجاهلية وهُضم حقها، ووُرّثتْ حالها كحال الأموال والأنعام أعزكم الله، ما تنفست الصعدات إلا في ظل الإسلام، ما ردّ لها إلا الإسلامُ حريتها وكرامتها ومكانتها ..
قال الله جل في علاه : {{ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف}}
والجار الذي كان يُغار عليه، ويسلب ماله ويسبى زوجه وولده أكد الإسلام على حق العظيم ولو كان من غير المسلمين..
قال النبي عليه الصلاة والسلام «( وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا ) »
والطفل المولود البريء الذي كان يقتل أو يدفن حياً خشية العار تارة، أو خشية الفقر تارة أخرى، رد الإسلام إليه حقه في أن يبقى حياً..
قال الله تعالى:
{{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} }
والشيخ الكبير الهرم الذي طالت حياته تحت وطأة الاستعباد تارة والاستضعاف تارة أخرى، رد الإسلام إليه حرمته وكرامته وتوقيره وإجلاله، بل جعل الإسلام احترام الشيخ الكبير الهرم الضعيف الذي اشتعلت رأسه شيبا على الإسلام، جعل رسول الله إجلاله وإكرامه من إجلال العبد لله رب العالمين..
قَالَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «" إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ "»
في زمان انقلبت فيه الموازين، وضاعت فيه القيم، وفسدت فيه الذمم، وماتت فيه الضمائر، واسودت فيه القلوب، وساءت فيه الأخلاق، واختلط فيه الحق بالباطل، وقل فيه في الحياء، وعلت فيه أصوات السفهاء، وغاب فيه الاحترام، وحضرت فيه الوقاحة والبذاءة إلا ما رحم الله..
نحن بحاجة ماسة لأن يذكر بعضنا بعضا، وينبه بعضنا بعضا، نحن بحاجة لأن ندعو أنفسنا وندعو غيرنا أن نعود إلى قيمنا وأخلاقنا كمسلمين..
قال الحبيب النبي عليه الصلاة والسلام “ليس منا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صغيرنا ويوَقِّرْ كبيرنا ويأمُرْ بالمعروفِ وينْهَ عنِ المنكَرِ”
قال جرير بن عبد الله لما بُعث النبي ُّصلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أتيتُه فقال : يا جريرُ لأيِّ شيءٍ جئتَ ؟
قلتُ : جئتُ لأسلمَ على يديكَ. قال فألقى لي رسول الله كساءً ثم أقبل على أصحابهِ. وقال : إذا أتاكم كريمُ قومٍ فأكرموه، قَالَ جرير : ومَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي.
قال ولَقَدْ شَكَوْتُ إِلَى رسول الله أَنِّي لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ : " اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا ".
توقير الكبير: تصديق وإيمان وإقرار بمنزلة هذا الرجل وهذه المرأة اللذين شابا على الإسلام عند الله عز وجل..
أول من يكرم كبار السن هو رب السموات والأرض سبحانه وتعالى قال -ﷺ-: «"ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كتب الله له بها حسنة، وحَطَّ عنه بها خطيئة" »
ثم إن الحكيم العليم سبحانه وتعالى يستحي أن يعذب عبدا مسلما شابت رأسه على الإسلام، فليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يعَمّر في الإسلام؛ لتحميده وتسبيحه وتكبيره وتهليله "
توقير الكبير : أن تتأدب معه، وأن تغضض صوتك بين يديه.
{{إما يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} }
توقير الكبير : أن تسعى في حاجته فتقضيها له، مساعدة له، وتخفيفا عنه، وإجلالا له..
ورد مسند الإمام أحمد أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه جاء بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله ﷺ يوم الفتح، أتى به يحمله حتى وضعه بين يدي رسول الله حتى يسلم بين يديه، فقال رسول الله ﷺ لأبي بكر الذي جاء بأبيه وقد كبرت سنُّه، ووهن عظمه، قال « يا أبا بكر لو أقْرَرْتَ الشيخَ في بيتِه لأتَيناه » أي لو تركته في مكانه نحن نأتيه، ثم دعاه ﷺ إلى الإسلام فأسلم..
توقير الكبير : أن تخدمه بنفسك، أن تعمل على راحته، لله وابتغاء مرضاة الله عز وجل..
في أيام الخلافة الراشدة : خرج عمر بن الخطاب في سواد الليل وحيداً يتسلل ويتستر بظلمة الليل حتى لا يراه أحد، فدخل بيتاً فرآه ( طلحة بن عبيد الله) لم يعلم عمر أن هذا الرجل رآه، ، فلما رأى طلحة عمر يتستر بظلمة الليل ويحرص على ألا يراه أحد، ظن (طلحة) أن في الأمر شيئاً، فأوجس طلحة في نفسه..
لماذا دخل عمر هذا البيت؟!
ولماذا وحده؟!
ولماذا في الليل؟!
ولماذا يتسلل؟!
ولماذا لا يريد أن يراه أحد؟!
ارتاب طلحة بن عبيد الله في الأمر، والأمر عند طلحة يدعو للريبة.
فلما كان الصباح، ذهب طلحة فدخل ذلك البيت، فلم يجد إلا عجوزاً عمياء مقعدة، فسألها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟! وكانت المرأة لا تعرف أن الرجل الذي يأتيها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، قالت العجوز العمياء المقعدة: إنه رجل صالح يتعاهدني منذ كذا وكذا بما يصلحني ويخرج الأذى عن بيتي.
فقال طلحة بن عبيد الله لنفسه ثكلتك أمك يا طلحة أعثرات عمر تتبع؟!
توقير الكبير : يكون بأن تبدأه بالسلام فيسلم الصغير يسلم على الكبير..
توقير الكبير يكون بأن يتأخر الصغير فيصلي مأموما والكبير يُقدم للإمامة إن كان يحسنها..
توقير الكبير يكون بأن تقوم له فتستقبله وتجله وتكرمه وتوقره وتنزله منزلته..
قدم عكرمة بن أبي جهل على رسول الله مسلما بعد الفتح فقام له رسول الله وهش وبش له..
وقال عدي بن حاتم: ما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلا قام لي..
ولما حمل سعد بن معاذ إلى بني قريظة، ما أن رآه رسول الله إلا قال لمعشر الأنصار قوموا إلى سيدكم..
رعاية كبار السن والقيام على مصالحهم وقضاء حوائجهم والتلطف معهم من دلائل المروءة ومن أرفع الأخلاق..
رعاية العجائز وكبار السن والتخفيف عنهم وقضاء حوائجهم لم يكن فقط عند معاملة المسلمين بعضهممع بعض، وإنما امتدت تلك المعاملة الحسنة الكريمة لتشمل غير المسلمين..
ورد في كتاب ( الخراج ) لأبي يوسف القاضي:
" أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه مر بباب قوم وعلي الباب سائل يسأل..
شيخ كبير هرم ضرير البصر يدق الباب على الناس يسأل الصدقة..
فقال له عمر : من أنت؟
قال: أنا فلان بن فلان، يهودي من يهود المدينة ..
قال عمر : فما ألجأك إلى ما أرى من سؤال الناس؟
قال اليهودي: أسأل حاجتي أن ضعفت وكبرت سني..
فأخذ عمر - بيد ذلك اليهودي ، فذهب به إلى بيته، فأعطاه بعض ما عنده، ثم أرسل إلى خازن بيت مال المسلمين فقال: انظر هذا اليهودي وأمثاله من أهل الكتاب، والله ما أنصفناه إذا أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم !! إن الله تعالى يقول : {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينَ...} وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضَع عمر عنه الجزية وعن أمثاله ومَن هُم في سِنه في جميع البلاد..
هذا ما نود أن يعرفه الناس عن عمر ( رمز العدل) (فاروق الأمة) كما لقبه به النبي عليه الصلاة والسلام..
ثم تعالوا فاسمعوا أن خالد بن الوليد عندما صالح أهل الحيرة جاء في صلحه معهم أنه قال: "وجعلت لهم ( أيّما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيًا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه) ألا فاطرحوا عنه الجزية ، واجعلوا له عطاء من بيت مال المسلمين"
أيها الإخوة الكرام: هذه أخلاق المسلمين التي نعلمها، ونود أن نعمل بها، هذه سلوكيات المسلمين التي نعرفها، ونود أن نتعامل بها، ونود أن نحولها إلى واقع في حياتنا مع آبائنا وأمهاتنا وأعمامنا وعماتنا وأخوالنا وخالاتنا وأجدادنا..
{{إما يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} }
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدينا لأحسن الأخلاق والأعمال إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير..
الخطبة الثانية
بقي لنا في ختام الحديث أن نقول إن الإنسان المؤدب المهذب صاحب الأخلاق العالية وصاحب النفس الهادئ الذي يرحم الصغير ويحترم الكبير وينزل الناس منازل الإكرام والتوقير سيكون يوما القيامة بإذن الله تعالى في الجنة بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال أنس بن مالك رضي الله عنه : خَدَمْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِيَ حِجَجٍ، فَقَالَ لِي: يَا أَنَسُ، «وَقِّرِ الْكَبِيرَ، وَارْحَمِ الصَّغِيرَ تُرَافِقْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
من المباديء التي لا نختلف عليها أن الله تعالى حكم عدل وأنه سبحانه وتعالى الديان، أمامه الخصوم يجتمعون فيقضي بينهم ويعط كل ذي حق حقه، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ثم يقول لها كونا ترابا، يومها يأتي مصداق قول ربي : {{وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا}}
عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «لَمَّا رَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ الله ﷺ مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ قَالَ " أَلَا تُحَدِّثُونِي بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ؟ قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ: بَلَى يَا رَسُولَ الله بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ، تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ، فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا، ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا، فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا، فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ، إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِيَّ، وَجَمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَتَكَلَّمَتِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا. قَالَ: يَقُولُ رَسُولُ الله ﷺ " صَدَقَتْ صَدَقَتْ، كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ " »
ما من إنسان يعامل الناس معاملة إلا أتى عليه يوم وعومل تلك المعاملة إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً..
قمة العدل : {{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }} لا يضيع شيء من الخير ولا من الشر..
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل الحياة زيادة لنا في كل خير وأن يجعل الموت راحة لنا من كل شر إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير.
------------------------------------------------------------------------------
جمع وترتيب : الشيخ / محمد سيد حسين عبد الواحد.
إمام وخطيب ومدرس أول .
إدارة أوقاف القناطر الخيرية.
مديرية أوقاف القليوبية . مصر
