صلاة الظهر
خالد سعد النجار
للصلاة شأن عظيم عند الله تعالى؛ ولذا فرضها وجعلها عموداً للدين، وكان فرضها في السماوات العلى من بين سائر أركان الإسلام.
- التصنيفات: فقه الصلاة -
{بسم الله الرحمن الرحيم }
للصلاة شأن عظيم عند الله تعالى؛ ولذا فرضها وجعلها عموداً للدين، وكان فرضها في السماوات العلى من بين سائر أركان الإسلام. وهي صلة بينه سبحانه وبين عباده، وراحة للمؤمنين، وقرة عين للموقنين الخاشعين. وهي سبب للرزق والفلاح، وباب للسعادة والنجاح، ومذهبة للهم والغم، لا يحافظ عليها عبد فيتعس أو يشقى.
قال تعالى: {{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}} [البقرة:45-46]
وقال: {{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}} [المؤمنون:1-2]
** صلاة الظهر تأتي وسط النهار بعد ساعات من العمل في الصباح؛ فتزيل التوتر الناتج عن كثرة العمل أو طبيعته؛ لأن الصلاة راحة المؤمن، فيرتاح الموظفون والعمال بصلاة الظهر جسديا بعد ساعات من العمل، كما يرتاحون ذهنيًّا بإفراغ شحنات التوتر والقلق التي اختزنوها أثناء عملهم، وهذا أمر يعرفه أهل صلاة الظهر؛ فصدورهم بعد الصلاة أكثر راحة وانشراحاً عما كانوا عليه قبلها، ويجدون في أنفسهم نشاطاً وإقبالاً على العمل من جديد.
كما أن الصلاة تغسل من الذنوب ما قد تتفلت من المرء مع كثير المخالطة والمعاملات.. قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يُكتب عليكم حتى تستيقظوا)» [صحيح: الطبراني في الصغير والأوسط] ومعنى تحترقون: تقعون في الهلاك بسبب الذنوب الكثيرة.
** صلاة الظهر من الصلوات الخمس المفروضة، وتسمى «الصلاة الأولى»؛ لأنها أول صلاة صلاها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد عودته من رحلة الإسراء والمعراج، والظاهر أنه عليه الصلاة والسلام صلى بالأنبياء عليهم السلام صلاة الفجر في بيت المقدس، ثم عاد إلى مكة، فكان أول صلاة صلاها هو والمسلمون صلاة الظهر.
وفي كونها تسمى «الصلاة الأولى» حديث أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لما سئل عن صلاة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ««كَانَ يُصَلِّي الهَجِيرَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الأُولَى حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ»» [رواه الشيخان]. أي تزول عن كبد السماء.
وقال الْحَسَنَ البصري -رحمه الله تعالى-: "كَانَتْ أَوَّلُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الظُّهْرَ".
** وقتها وسط النهار بعد الزوال، عقب تسجير جهنم، فمؤدي صلاة الظهر يستجير بالله تعالى من عذاب جهنم كل يوم بعد تسجيرها، فحري بمن حافظ على الظهر أن ينجو من عذاب النار؛ ففي حديث عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال له عن وقت صلاة الظهر: (ثُمَّ صَلِّ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ، فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ) [مسلم] يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ: أي يقوم مقابله في جهة الشمال ليس مائلا إلى المشرق ولا إلى المغرب وهذه حالة الاستواء.
فعلم بهذا الحديث أن التنفل بالصلاة قبيل الزوال منهي عنه، وهو ما يسمى بقائم الظهيرة الذي تسجر فيه جهنم؛ كما في حديث عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: "ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيلَ الشَّمْسُ، وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ" [مسلم] أي: إذا قربت من الغروب حتى تغرب.
** وإذا اشتد الحر استحب الإبراد بالظهر، وهو تأخيرها عن أول وقتها حتى تذهب شدة الحر؛ مراعاة لمن يمشون إلى الصلاة ومنازلهم بعيدة عن المسجد؛ وليكون أتم لخشوع المصلي؛ وهذه هي سنة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما أخبر عنها أَنَسٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فقال: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا اشْتَدَّ البَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلاَةِ، وَإِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلاَةِ" [البخاري]
وجاء الأمر بذلك في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاَةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) [متفق عليه]. أي غليانها أو انتشار لهبها.
وفي حديث أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ، فَأَرَادَ المُؤَذِّنُ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلظُّهْرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْرِدْ»، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ، فَقَالَ لَهُ: «أَبْرِدْ»، حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاَةِ) [رواه الشيخان] فعند شدة الحر يذهب الخشوع الذي هو روح الصلاة وأعظم المطلوب منها.
// والإبراد أن تؤخر الصلاة عن أول الوقت مقدار ما يظهر للحيطان ظل ولا يحتاج إلى المشي في الشمس، هذا ما ذكره بعض مصنفي الشافعية، وعند المالكية: يؤخر الظهر إلى أن يصير الفيء أكثر من ذراع.
وعموما اختلفوا في حد الإبراد فقيل إلى ثلث الوقت وقيل إلى نصفه وقيل غير ذلك. غير أنهم اتفقوا -كما قال الحافظ- على أنه لا يؤخرها إلى آخر الوقت.
// وإذا اشتد ولم يكن على الناس مشقة في الحضور كأن كانوا يمشون في كن أو نحوه فقد اختلف العلماء هل يشرع الإبراد حينئذ أو لا؟
والقول بالمشروعية أقرب عملا بالعموم.
قال الحافظ: "قال جمهور أهل العلم: يستحب تأخير الظهر في شدة الحر إلى أن يبرد الوقت وينكسر الوهج، وخصه بعضهم بالجماعة، فأما المنفرد فالتعجيل في حقه أفضل، وهذا قول أكثر المالكية والشافعي أيضا لكن خصه بالبلد الحار وقيد الجماعة بما إذا كانوا ينتابون مسجدا من بعد، فلو كانوا مجتمعين أو كانوا يمشون في كن فالأفضل في حقهم التعجيل، والمشهور عن أحمد التسوية من غير تخصيص ولا قيد وهو قول إسحاق والكوفيين وابن المنذر". انتهى.
فالأقرب أنه سنة لا رخصة لورود الأمر به ما مع اقترن به من العلة وهو أن (شدة الحر من فيح جهنم), وذلك مناسب للتأخير.
وقيل الإبراد سنة والتعجيل أفضل لعموم أدلة فضيلة أول الوقت، وأجيب بأنها عامة أو مطلقة مخصوصة بأحاديث الإبراد، ولا مبالاة - مع ذكرنا من صيغة الأمر ومناسبة العلة - بقول من قال: إن التعجيل أفضل لأنه أكثر مشقة فإن مراتب الثواب إنما يرجع فيها إلى النصوص، وقد يترجح بعض العبادة الخفيفة على ما هو أشق منها بحسب المصالح المتعلقة بها.
قال في سبل السلام: "والحديث دليل على وجوب الإبراد بالظهر عند شدة الحر لأنه الأصل في الأمر، وقيل إنه للاستحباب وإليه ذهب الجمهور، وظاهره عام للمنفرد والجماعة والبلد الحار وغيره".
// وعورض حديث الإبراد بحديث خباب الذي رواه مسلم: عَنْ خَبَّابٍ قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصَّلَاةَ فِي الرَّمْضَاءِ فَلَمْ يُشْكِنَا [أي لم يزل شكوانا]. قَالَ زُهَيْرٌ: قُلْتُ لِأَبِي إِسْحَاقَ: "أَفِي الظُّهْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَفِي تَعْجِيلِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ".
وأجيب عنه بأجوبة أحسنها أن الذي شكوه شدة الرمضاء في الأكف والجباه وهذه لا تذهب عن الأرض إلا آخر الوقت أو بعد آخره ولذا قال لهم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (صلوا الصلاة لوقتها) كما هو ثابت في رواية خباب هذه بلفظ فلم يشكنا وقال: (صلوا الصلاة لوقتها) رواها ابن المنذر، فإنه دال على أنهم طلبوا تأخيرا زائدا عن وقت الإبراد فلا يعارض حديث الأمر بالإبراد.
// وقت الجمعة عند جمهور العلماء يبدأ بدخول وقت الظهر وينتهي بانتهائه ولكن يستحب في الجمعة أن تصلى عند بداية وقت الظهر.
قال ابن قدامة في المغني: "والمستحب إقامة الجمعة بعد الزوال لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يفعل ذلك. قال سلمة بن الأكوع: "كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ" [متفق عليه] وعن أنس أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس. [البخاري].. إلى أن قال: ولا فرق في استحباب إقامتها عقيب الزوال بين شدة الحر وبين غيره فإن الجمعة يجتمع لها الناس فلو انتظروا الإبراد شق عليهم وكذلك كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يفعلها إذا زالت الشمس في الشتاء والصيف على ميقات واحد".
** «قاعدة» كل عبادة مؤقتة فالأفضل تعجيلها أوّل الوقت إلا سبعة: الإبراد بالظهر، والضحى أوّل وقتها طلوع الشمس ويسن تأخيرها لربع النهار، والعيد يسن تأخيرها للارتفاع، والفطرة أول وقتها غروب شمس ليلة العيد ويسنّ تأخيرها ليومه، ورمي جمرة العقبة، وطواف الإفاضة، والحلق يدخل وقته بنصف ليلة النحر ويسنّ تأخيره ليومه.
** والأولى أن يكون الأذان في أول وقت الصلاة ليعلم الناس بدخول الوقت فيصلي المتعجل والنساء في البيوت، وإذا تأخر الأذان إلى آخر الوقت قد يحدث ذلك تلبيسا على من يسمعه فيظن بقاء الوقت بعده بزمن، وقد يصلي بعد خروج الوقت ولهذا قلنا بأن الأولى الأذان في أول الوقت.
هذا وقد ورد في حديث الإبراد أن المؤذن أراد أن يؤذن (وفي رواية يقيم) فقال له رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أبرد) فأبرد. ولا يقال هنا إن الحديث يدل على خلاف ما تقدم. يوضح ذلك قول الحافظ ابن حجر عند شرحه للحديث: "ويجمع بينهما بين الروايتين بأن إقامته كانت لا تتخلف عن الأذان لمحافظته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الصلاة في أول الوقت فرواية فأراد بلال أن يقيم أي يؤذن ثم يقيم ورواية فأراد أن يؤذن أي ثم يقيم". انتهى
** لا حرج في تعدد المساجد في المدينة وإذا تعددت المساجد فلا حرج في تعجيل بعض المساجد الصلاة وتأخير البعض لها ما دام ذلك في حدود الوقت الاختياري، فصلاة الظهر صلاها جبريل بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في اليوم الأول حين زالت الشمس ثم جاءه من الغد فصلى به حين صار ظل كل شيء مثله ثم قال: (الوقت ما بين هذين الوقتين) والحديث موجود بطوله في المستدرك وسنن النسائي وأبو داود والترمذي وصححه الأرنؤوط والألباني.
وفي صحيح مسلم عن أبي موسى أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئا قال: فأقام الفجر حين انشق الفجر فالناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضا ثم أمره فأقام الظهر حين زالت الشمس... وفي اليوم الثاني قال: ثم أخر الظهر حتى كان قريبا من وقت العصر...ثم قال: (الوقت بين هذين).
وكان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يؤخر صلاة الظهر حين يشتد الحر وكان يأمر بذلك. وذكر ابن حجر في فتح الباري خلاف العلماء في غاية الإبراد فقيل: حتى يصير الظل ذراعا بعد الزوال وقيل: ربع القامة. فإذا تقرر أن في الأمر سعة فعلى المسلم أن يحسن الظن بأهل المساجد وأن يحرص على الصلاة معهم وعلى وحدة صفهم وألا يثير فيهم خلافا بسبب المسائل التي يحتملها الدليل.
** عن عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: (الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا) [البخاري ومسلم]
فالأصل المستحب المتفق عليه في صلاة الظهر هو تعجيلها وصلاتها أول وقتها، فعن أُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَشَدَّ تَعْجِيلًا لِلظُّهْرِ مِنْكُمْ" [الترمذي، وصححه الألباني] وروى أيضا فيه وقال حديث حسن، عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشَدَّ تَعْجِيلًا لِلظُّهْرِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَا مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَلَا مِنْ عُمَرَ ) قال الترمذي -رحمه الله-: "وهو الذي اختاره أهل العلم من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن بعدهم".
فالأصل بالمسلمين المتبعين سنة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الاقتداء به في هديه الغالب، وبهدي الخلفاء الراشدين من بعده، واجتناب كل ما يحدث الفتنة والمنازعة، واجتناب كل شذوذ أو مخالفة للهدي الظاهر للمسلمين.
فلا يكون الحماس لتطبيق السنة الظرفية «الإبراد» سببا في ضياع السنة الأصلية التي حافظ عليها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حياته، ورغم ما تتسم به الجزيرة العربية عامة، والمدينة المنورة خاصة من حَرٍّ ظاهرٍ في غالب أيام السنة، ولكنه مع ذلك عليه الصلاة والسلام لم يأمر بالإبراد إلا في «شدة الحر».
وقد اعتاد عليه الصلاة والسلام أداء الظهر أول الوقت كما سبق في حديث أم سلمة وحديث عائشة، وذلك يعني أن «شدة الحر» في العرف النبوي لا يكاد يقع إلا في نوادر الأيام التي ترتفع فيها الحرارة إلى القدر غير المحتمل تقريبا 45 درجة
جاء في «فتاوى اللجنة الدائمة»: "الأفضل الإبراد بالظهر عند شدة الحر فقط، وفيما عدا ذلك تبقى على الأصل، فخير لكم أن تهتدوا بهدي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتؤخروا الأذان في شدة الحر إلى الإبراد، وتعجلوا به أول الوقت في غير ذلك؛ حرصا على الفضيلة وكثرة الأجر، وتخفيفا على الناس، وعلى تقدير وقوع الأذان أول الوقت في شدة الحر: فعلى الجميع أن يبادروا إلى الجماعة، ويحرصوا على الصلاة مجتمعين، ولا يتفرقوا، فإن الجماعة واجبة، والفرقة محرمة، فلا يرتكب ذلك من أجل الحرص على فضيلة الإبراد {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46]".
ويقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "إذا لم يكن في شدة الحر: فإن الأفضل أن يصلى صلاة الظهر إذا دخل وقتها، ولو كانت قصراً في السفر؛ لأن تقديم صلاة الظهر في غير شدة الحر أفضل".
ويقول العلامة ابن جبرين -رحمه الله- في «شرح عمدة الأحكام»: "في هذه الأزمنة لا يوجد ذلك الحر والحمد لله؛ وذلك لوجود المكيفات والمراوح الكهربائية التي تخفف من شدة الحر، فلا يحس الناس بذلك الحر المزعج الذي يتصبب منه العرق، والذي تبتل منه الثياب، فلا يطمئن المصلي في صلاته؛ فلأجل ذلك لم يروا داعياً إلى الإبراد في شدة الحر. لكن لو كان هناك بلاد ليس فيها هذه المكيفات ونحوها، فإن الإبراد مستحب في حقهم، وما ذاك إلا أن الحكم يدور مع علته، فمتى وجدت العلة وجد الحكم، أما في سائر السنة التي ليس فيها حر: فإن وقت الصلاة إذا زالت الشمس، فإذا ابتدأت زيادة الظل في جهة الشرق فذلك وقت الظهر".
ويقول أيضا -رحمه الله-: "كانوا يصلون في المسجد، وقد تكون دورهم بعيدة، قد يكون بين بعضهم وبين المسجد نحو أكثر من كيلو، وكانوا يأتون على أرجلهم مع شدة الحر وشدة الرمضاء، والمسجد أيضاً ليس فيه مكيفات، وليس فيه مراوح كهربائية، بل فيه حر شديد وعرق؛ فهم عند أدائهم للصلاة قد يلاقون هذا الحر الشديد، فلا يقبلون على صلاتهم، ولا يطمئنون فيها، ويتمنون أن ينصرفوا؛ لما يجدون من التعب ومن المشقة، فلهذا الغرض أمرهم بأن يبردوا بالصلاة".
وقد نظر بعض الفقهاء من قبل في العلة، أو الحكمة، من تشريع الإبراد في الصلاة، فخصصوا هذه الرخصة بالظروف التي تتوافر فيها العلة، وتتحقق بها الحكمة، فقالوا:
"الأصح: اختصاص الإبراد ببلد حار، كالحجاز، وجماعة مسجد يقصدونه من بُعْد، ويمشون إليه في الشمس؛ فلا يسن الإبراد في غير شدة الحر، ولو بقطر حار، ولا في قطر معتدل أو بارد، وإن اتفق فيه شدة الحر، ولا لمن يصلي منفردا، أو جماعة ببيته، أو بمحل حضره جماعة لا يأتيهم غيرهم، أو يأتيهم غيرهم من قرب، أو بُعد لكن يجد ظلا يمشي فيه، إذ ليس في ذلك كبير مشقة .
نعم؛ الإمام الحاضر في المسجد الذي يقصده الجماعة من بعد يسن له الإبراد، اقتداء به -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وضابط البعد: ما يتأثر قاصده بالشمس". [مغني المحتاج]
فهذا ما يقوله العلماء المتقدمون والمتأخرون، وهذا ما ثبت من هدي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فأي هدي يتبعه أولئك المتنطعون الذين يجعلون الرخصة - المؤقتة والمقيدة بظرف - سنةً دائمة، دون مراعاة الأدلة الشرعية.
** اختلف العلماء في المفاضلة بين الصلاة في أول وقتها منفرداً، والصلاة في آخر وقتها جماعة:
فذهب بعضهم إلى تقديم فضيلة الوقت على فضيلة الجماعة.
وذهب بعضهم إلى أن تأخير الصلاة لتحصيل فضيلة الجماعة أفضل من الإتيان بها منفرداً في أول وقتها.
وذهب بعضهم إلى استحباب صلاتها مرتين، لتحصيل الفضيلتين.
قال الحطاب في «مواهب الجليل»: "الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَذًّا [أي: منفرداً] أَفْضَلُ مِنْهَا فِي آخِرِ الْوَقْتِ فِي جَمَاعَةٍ" ثم نقل ذلك عن الإمام مالك رحمه الله".
وقال النووي في «المجموع»: "الَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا أَمَرَهُ بِهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيُصَلِّي مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مُنْفَرِدًا لِتَحْصِيلِ فَضِيلَةِ أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَمَرَّةً فِي آخِرِهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ لِتَحْصِيلِ فَضِيلَتِهَا, فَإِنْ أَرَادَ الِاقْتِصَارَ عَلَى صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ -فَإِنْ تَيَقَّنَ حُصُولَ الْجَمَاعَةِ آخِرَ الْوَقْتِ- فَالتَّأْخِيرُ أَفْضَلُ لِتَحْصِيلِ شِعَارِهَا الظَّاهِرِ; وَلِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ فِي مَذْهَبِنَا وَفَرْضُ عَيْنٍ عَلَى وَجْهٍ لَنَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَطَائِفَةٍ، فَفِي تَحْصِيلِهَا خُرُوجٌ مِنْ الْخِلَافِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ يَأْثَمُ بِتَأْخِيرِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنْ فَحُشَ التَّأْخِيرُ فَالتَّقْدِيمُ أَفْضَلُ، وَإِنْ خَفَّ فَالِانْتِظَارُ أَفْضَلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ".
وقال البهوتي في «كشاف القناع»: "وَتُقَدَّمُ الْجَمَاعَةُ مُطْلَقًا عَلَى أَوَّلِ الْوَقْتِ; لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَأَوَّلُ الْوَقْتِ سُنَّةٌ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ وَاجِبٍ وَمَسْنُونٍ".
والذي يظهر من هذا –والله أعلم-: أن الالتزام بجماعة المسلمين أولى من الصلاة منفرداً لما هو معلوم من فضل الصلاة في جماعة، وحرصا على إقامة هذه الشعيرة، ولأن الصحيح من أقوال أهل العلم أن صلاة الجماعة واجبة. إلا إذا شق الانتظار إلى هذا الوقت، فلا حرج من الصلاة في أول الوقت منفرداً، إذا لم تجد أحدا تصلي معه في جماعة.
** قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "الأكمل أن تكون الصلاة على وقتها المطلوب شرعاً؛ ولهذا قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في جواب من سأله أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: (الصلاة على وقتها) ولم يقل (الصلاة في أول وقتها)؛ وذلك لأن الصلوات منها ما يُسن تقديمه، ومنها ما يُسن تأخيره، فصلاة العشاء مثلاً يُسن تأخيرها إلى ثلث الليل، ولهذا لو كانت امرأة في البيت وقالت أيهما أفضل لي؟ أن أصلي صلاة العشاء من حين أذان العشاء أو أؤخرها إلى ثلث الليل؟
قلنا: الأفضل أن تؤخرها إلى ثلث الليل؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تأخر ذات ليلة حتى قالوا: يا رسول الله رقد النساء والصبيان، فخرج وصلى بهم وقال: (إن هذا لوقتها، لولا أن أشق على أمتي) فالأفضل للمرأة إذا كانت في بيتها أن تؤخرها .
وكذلك لو فرض أن رجالاً محصورين، يعني رجالاً معينين في سفر فقالوا: نؤخر صلاة العشاء أم نقدم؟ فنقول الأفضل أن تؤخروا .
وكذلك لو أن جماعة خرجوا في نزهة وحان وقت العشاء فهل الأفضل أن يقدموا العشاء أو يؤخروها ؟
نقول: الأفضل أن يُؤخروها إلا إذا كان في ذلك مشقة .
وبقية الصلوات الأفضل فيها التقديم إلا لسبب، فالفجر تُقدم، والظهر تُقدم، والعصر تُقدم، والمغرب تُقدم، إلا إذا كان هناك سبب .
فمن الأسباب: إذا اشتد الحر فإن الأفضل تأخير صلاة الظهر إلى أن يبرد الوقت، يعني إلى قرب صلاة العصر؛ لأنه يبرد الوقت إذا قرب وقت العصر، فإذا اشتد الحر فإن الأفضل الإبراد.
ومن الأسباب أيضاً أن يكون في آخر الوقت جماعة لا تحصل في أول الوقت، فهنا التأخير أفضل، كرجل أدركه الوقت وهو في البر وهو يعلم أنه سيصل إلى البلد ويدرك الجماعة في آخر الوقت فهل الأفضل أن يصلي من حين أن يُدركه الوقت أو أن يؤخر حتى يدرك الجماعة؟
نقول: إن الأفضل أن تؤخر حتى تُدرك الجماعة، بل قد نقول بوجوب التأخير هنا تحصيلاً للجماعة".
** والسنة إطالة القراءة في صلاة الظهر؛ لحديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «لَقَدْ كَانَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ تُقَامُ فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْبَقِيعِ فَيَقْضِي حَاجَتَهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يَأْتِي وَرَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِمَّا يُطَوِّلُهَا» [مسلم]
وعن أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقْرَأُ بِأُمِّ الكِتَابِ وَسُورَةٍ مَعَهَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنْ صَلاَةِ الظُّهْرِ وَصَلاَةِ العَصْرِ، وَيُسْمِعُنَا الآيَةَ أَحْيَانًا، وَكَانَ يُطِيلُ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى» [متفق عليه].
وإن قرأ أحيانا سورة بعد الفاتحة في الركعتين الثالثة والرابعة من صلاة الظهر فقد أصاب السنة؛ لورود ذلك في حديث أبي سعيد الخدري -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مسلم في صحيحه.
سنة الظهر
** سنة الظهر قد وردت على عدة حالات على أيها أداها المسلم أصاب السنة -إن شاء الله- ولعل الأفضل أن يفعل هذه تارة وهذه تارة حتى يصيب السنة في الكل.
فورد في بعض الأحاديث أن سنة الظهر القبلية تسليمة واحدة (ركعتان) كما في حديث ابن عمر في الصحيحين .وورد في بعضها أنها تسليمتان (أربع ركعات) كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- في صحيح مسلم .والبعدية كذلك ركعتان أو أربع.
فالمرء مخيّر بين هذا وذلك، ولكن ذهب بعض أهل العلم إلى أنه إن صلاها في بيته فالأولى أن يصليها أربع ركعات في تسليمتين، وإن صلاها في المسجد فركعتان (تسليمة واحدة)، ومنهم من قال أن صلاة النافلة في البيت أفضل لعموم الأحاديث بذلك.
في حديث عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: «أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ لاَ يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ» [البخاري]
وفي حديث أُمِّ حَبِيبَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» [رواه الترمذي، وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وصححه الألباني].
وروى مسلم عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهَا قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّي لِلَّهِ كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ إِلَّا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ أَوْ إِلَّا بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ) قَالَتْ أَمُّ حَبِيبَةَ فَمَا بَرِحْتُ أُصَلِّيهِنَّ بَعْدُ.
وفي البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "حَفِظْتُ مِنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرَ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي بَيْتِهِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَكَانَتْ سَاعَةً لَا يُدْخَلُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَطَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ".
وروى الترمذي بسند صحيح عَنْ عَائِشَةَ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ ثَابَرَ عَلَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنَ السُّنَّةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ: أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ العِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الفَجْرِ)
وفي كلام بعض أهل العلم ما يفيد أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى أربع ركعات بعد الظهر.
قال الصنعاني في «التنوير شرح الجامع الصغير»: (كان يصلي قبل الظهر ركعتين) نافلة (وبعدها ركعتين) كذلك، وهي من النوافل الراتبة، فلا تعارض أحاديث أنه كان يصلي أربعًا قبل الظهر، وأربعًا بعدها، وأربعًا قبل العصر. اهـ
وفي «فيض القدير» للمناوي: "(كان يصلي قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين في بيته، وبعد العشاء ركعتين) لا يعارضه ما ورد في أخبار أخرى أنه كان يصلي أربعا قبل الظهر، وأربعا بعدها، وأربعا قبل العصر، وركعتين قبل المغرب، وركعتين قبل العشاء. لاحتمال أنه كان يصلي هذه العشرة، وتلك في بيته، وأخبر كل راوٍ بما اطلع عليه، وأنه كان يواظب على هذه دون تلك، وهذه العشرة هي الرواتب المؤكدة لمواظبة المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليهن، وبقيت رواتب أخرى، لكنها لا تتأكد كتلك". اهـ
** روى أبو داود من حديث أبي أيوب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ لَيْسَ فِيهِنَّ تَسْلِيمٌ تُفْتَحُ لَهُنَّ أَبْوَابُ السَّمَاءِ)، ولفظ ابن ماجة: (لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِتَسْلِيمٍ وَقَالَ إِنَّ أَبْوَابَ السَّمَاءِ تُفْتَحُ إِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ)، وهذا الحديث ضعيف .
قال النووي -رحمه الله- في «خلاصة الأحكام ومهمات السنن»: "ضعفه يحيى القطان، وأبو داود، والحفاظ، ومداره على عبيدة بن معتب، وهو ضعيف بالاتفاق، سيء الحفظ" وقال الشيخ الألباني -رحمه الله-: "حديث حسن دون قوله: "ليس فيهن تسليم".
وقد جاء عن علي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ" [الترمذي، وحسنه الشيخ الألباني]
واختلف أهل العلم -رحمهم الله- في معنى هذا الحديث فقال بعضهم المراد بقوله (يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِالتَّسْلِيمِ) بأن يسلم عن يمينه وعن شماله...وقال آخرون: المراد بـ "التسليم.." الجلوس للتشهد في الركعة الثانية .
قال المباكفوري -رحمه الله-: قال الترمذي: اختار إسحاق بن راهوية أن لا يفصل في الأربع قبل العصر، واحتج بهذا الحديث، وقال معنى قوله: "يفصل بينهن بالتسليم يعني التشهد".
وقال البغوي: "المراد بالتسليم التشهد دون السلام. أي وسمي تسليماً على من ذكر لاشتماله عليه. قال الطيبي: ويؤيده حديث عبد الله بن مسعود: "كنا إذا صلينا قلنا السلام على الله قبل عباده السلام على جبريل، وكان ذلك في التشهد".
وقيل: المراد به تسليم التحلل من الصلاة، حمله على هذا من اختار أن (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى).
قال العراقي: "حمل بعضهم هذا على أن المراد بالفصل بالتسليم التشهد؛ لأن فيه السلام على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلى عباد الله الصالحين، قاله إسحاق بن إبراهيم، فإنه كان يرى صلاة النهار أربعاً، قال: وفيما أَوَّله عليه بُعد".
قال الشيخ في شرح الترمذي: "ولا بُعد عندي فيما أوّله عليه، بل هو الظاهر القريب بل هو المتعين إذ النبيون والمرسلون لا يحضرون الصلاة حتى ينويهم المصلي بقوله: السلام عليكم فكيف يراد بالتسليم تسليم التحلل من الصلاة".
ولقائل أن يقول: يكفي للخطاب بقوله السلام عليكم شهود الأنبياء والمرسلين واستحضارهم في القلب وتصورهم في النفس وإن لم يكونوا حاضرين في الخارج، فلا مانع من أن يراد بالتسليم تسليم التحلل من الصلاة"
وفي «شرح سنن أبي داود» للشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-: "وقد فهم بعضهم من قوله: "يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المؤمنين". أنه يعني تسليم التحلل من الصلاة، ورده الشيخ علي القارئ في «شرح الشمائل» وسئل سماحة الشيخ ابن باز رحمة الله عليه: هل تجوز صلاة الأربع قبل الظهر ولو لم أنو إلا بعد الدخول في الصلاة، وأيهما أفضل التشهد بينهما كالظهر أم الوصل بدون تشهد فما تعليقكم على ذلك؟ فأجاب رحمه الله: "يصلي كل ركعتين على حدة، ثم يسلم منهما، والأصل في ذلك حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى). [رواه الخمسة بإسناد جيد]، فهذا الحديث يدل على أن المستحب في صلاة تطوع الليل والنهار أن تكون مثنى مثنى، إلا ما خصه الدليل، فإن صلاها أربعاً جميعاً فلا حرج؛ لإطلاق بعض الأحاديث الواردة في ذلك".
وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يتطوع بالنهار أربعا لا يفصل بينهن. قال ابن حجر في فتح الباري: "...... في السنن وصححه ابن خريمة وغيره من طريق علي الأزدي عن ابن عمر مرفوعا: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) وقد تعقب هذا الأخير بأن أكثر أئمة الحديث أعلوا هذه الزيادة وهي قوله: (والنهار) بأن الحفاظ من أصحاب ابن عمر لم يذكروها عنه.... وادعى يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع أن ابن عمر كان يتطوع بالنهار أربعا لا يفصل بينهن ولو كان حديث الأزدي صحيحا لما خالفه ابن عمر".
** يجوز صلاة أربع ركعات بسلام واحد -قبل صلاة الظهر، أو بعدها-، لكن من الأفضل -عند جمهور أهل العلم- أن تسلّم من كل ركعتين في هذه الحالة.
ومن صلى منهم ركعتين ركعتين فهو محسن وهو الأولى، ومن صلى أربعا موصولة فهو على خير كذلك.
فإن صلى أربعا بتسليم واحد فله أن يقتصر على تشهد واحد في الركعة الأخيرة وله أن يتشهد بعد كل ركعتين أو ثلاث أو أربع يقول فيها ما يقوله في التشهد الأول وليس له أن يتشهد في كل ركعة.
قال النووي في «المجموع»: "الصحيح الذي قطع به العراقيون وآخرون: أنه يجوز أن يتشهد في كل ركعتين وإن كثرت التشهدات ويتشهد في الآخرة وله أن يقتصر على تشهد في الآخرة وله أن يتشهد في كل أربع أو ثلاث أو ست وغير ذلك. ولا يجوز أن يتشهد في كل ركعة لأنه اختراع صورة في الصلاة لا عهد بها".
وقال النووي في «المنهاج»: "ولا حصر للنفل المطلق فإن أحرم بأكثر من ركعة فله التشهد في كل ركعتين وفي كل ركعة. قلت: الصحيح منعه في كل ركعة".
وأما السورة بعد الفاتحة: فقال الخطيب في «مغني المحتاج»: "وإذا صلى بتشهد واحد قرأ السورة في الركعات كلها، وإن صلى بتشهدين فأكثر قرأ في الركعات التي قبل التشهد الأول".
وأما ما يذكر من قاعدة أن «السنة لا تشبه الفريضة» فكلام لا دليل عليه فهذه سنة الفجر ركعتان بالإجماع وفريضتها كذلك ركعتان بالإجماع فصورة الصلاتين واحدة ولا يميز بينهما إلا النية وإنما ورد النهي عن تشبيه الوتر بالمغرب أخرجه ابن حبان والدارقطني والحاكم... فهذا نفل مخصوص نهي أن يشبه بفرض مخصوص وليس هذا قاعدة عامة، وقد اختار غير واحد من المحققين أن معنى النهي عن تشبيه الوتر بالمغرب هو أن يصلي الوتر ثلاثا موصولة بتشهدين ويجوز أن يصليها ثلاثا موصولة بتشهد واحد لانتفاء المشابهة بين الصلاتين في هذه الحال.
** جاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا بَعْدَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَقَالَ: (إِنَّهَا سَاعَةٌ تُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَأُحِبُّ أَنْ يَصْعَدَ لِي فِيهَا عَمَلٌ صَالِحٌ) [الترمذي، وقال: وَفِي البَابِ عَنْ عَلِيٍّ، وَأَبِي أَيُّوبَ: "حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ" وصححه ابن العربي في «عارضة الأحوذي»"، وأحمد شاكر في «شرح سنن الترمذي» والألباني في «صحيح الترمذي»]
أما حديث أبي أيوب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فقد أخرجه أحمد في «المسند»، وفيه قَالَ: "أَدْمَنَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هَذِهِ الرَّكَعَاتُ الَّتِي أَرَاكَ قَدْ أَدْمَنْتَهَا؟ قَالَ: (إِنَّ أَبْوَابَ السَّمَاءِ تُفْتَحُ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، فَلَا تُرْتَجُ حَتَّى يُصَلَّى الظُّهْرُ، فَأُحِبُّ أَنْ يَصْعَدَ لِي فِيهَا خَيْرٌ) قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ تَقْرَأُ فِيهِنَّ كُلِّهِنَّ؟ قَالَ: قَالَ: (نَعَمْ) قَالَ: قُلْتُ: فَفِيهَا سَلَامٌ فَاصِلٌ ؟ قَالَ: (لَا). [ قال الأرناؤوط: حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف لضعف عُبيدة، وصححه الألباني وأخرجه الحميدي، وابن ماجه، وابن خزيمة، والطحاوي في «شرح معاني الآثار»، والطبراني في «الكبير»، والبيهقي]
وقوله: "فلا ترتج" أي: فلا تغلق. من: أرْتَجْتُ الباب؛ إذا أغلقتَه، والإِرْتاج: الغَلْقُ.
وفي رواية عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ -رضي الله عنه-: أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تُدِيمُ هَذِهِ الصَّلَاةَ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَفْعَلُهُ فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: (إِنَّهَا سَاعَةٌ تُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَرْتَفِعَ لِي فِيهَا عَمَلٌ صَالِحٌ) [أخرجه أحمد في "المسند، وقال الأرناؤوط: صحيح لغيره، وصححه السيوطي في «الجامع الصغير»، والألباني في «صحيح الجامع»].
واختلف العلماء في هذه الأربع ركعات:
فذهب الشافعية إلى أنها أربع ركعات غير سنة الظهر القبلية، وسموها بــ «سنة الزوال» تصلى بعد زوال الشمس عن كبد السماء أي بعد دخول وقت الظهر سوى سنة الظهر القبلية.
قال السيوطي في «قوت المغتذي»: (كان يصلِّي أربعًا بعد أن تزول الشمس). قال العراقي: هي غير الأربع التي هي سنة الظهر قبلها، وتسمى هذه سنة الزوال".
وقال الهيتمي في «الفتاوى الفقهية الكبرى»: "وسنة الزوال أربع، وهي غير سنة الظهر التي هي أربع أيضًا".
واختار ذلك أيضا الحافظ ابن حجر في «نخب الأفكار» كما اختاره ابن القيم في «زاد المعاد»، حيث قال: "قد يقال: إن هذه الأربع لم تكن سنة الظهر، بل هي صلاة مستقلة كان يصليها بعد الزوال، كما ذكره الإمام أحمد عن عبد الله بن السائب... وأما سنة الظهر: فالركعتان اللتان قال عبد الله بن عمر يوضح ذلك: أن سائر الصلوات سنتها ركعتان ركعتان، والفجر مع كونها ركعتين، والناس في وقتها أفرغ ما يكونون، ومع هذا سنتها ركعتان. وعلى هذا، فتكون هذه الأربع التي قبل الظهر وردًا مستقلاً سببه انتصاف النهار وزوال الشمس.
وكان عبد الله بن مسعود يصلي بعد الزوال ثمان ركعات ويقول: إنهن يعدلن بمثلهن من قيام الليل وسر هذا -والله أعلم- أن انتصاف النهار مقابل لانتصاف الليل وأبواب السماء تفتح بعد زوال الشمس ويحصل النزول الإلهي بعد انتصاف الليل فهما وقتا قرب ورحمة هذا تفتح فيه أبواب السماء وهذا ينزل فيه الرب تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا".
وقال المباركفوري في «تحفة الأحوذي» عند كلامه على حديث عبد الله بن السائب: "قال العراقي: هي غير الأربع التي هي سنة الظهر قبلها وتسمى هذه «سنة الزوال»". انتهى
وقال في «نهاية المحتاج»: "وصلاة الزوال بعده، وهي ركعتان، أو أربع".
قال الشبراملسي في حاشيته عليه: "(قوله: وهي ركعتان أو أربع) وهي غير سنة الظهر، كما يعلم من إفرادها بالذكر بعد الرواتب، وتصير قضاء بطول الزمن عرفا. وعبارة المناوي على الجامع في شرحه الصغير، عند قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أربع قبل الظهر) إلخ، نصها: أربع قبل الظهر: أي أربع ركعات يصليهن الإنسان قبل صلاة الظهر، أو قبل دخول وقته، وهو أي وقته عند الزوال. قال العلقمي: هذه يسمونها سنة الزوال، وهي غير الأربع التي هي سنة الظهر. قال شيخنا: قال الحافظ العراقي: وممن نص على استحبابها الغزالي في الإحياء في كتاب الأوراد. (ليس فيهن تسليم): أي ليس بين كل ركعتين منها فصل بسلام .
)تُفتح): بالبناء للمفعول، (لهن أبواب السماء): كناية عن حسن القبول، وسرعة الوصول، ثم قال: قال الشيخ: حديث صحيح.
قوله: (وهي أربع بتسليمة) أي فلا تصح الزيادة على الأربع" انتهى
وذهب الحنفية والجمهور إلى أن المراد بها سنة الظهر القبلية.
قال المظهري الحنفي في «المفاتيح في شرح المصابيح»: "قوله: كان يصلِّي أربع ركعاتٍ بعدَ الزَّوَالِ لا يُسلِّمُ إلا في آخرهنَّ، فقال: (إنها ساعة تُفْتَحُ فيها أبوابُ السماء)، أراد بهذه الأربعِ سنةَ الظهرِ التي قبلَها".
وقال القاري في «مرقاة المفاتيح»: "وتلك الركعات الأربع: سنة الظهر التي قبله، كذا قاله بعض الشراح من علمائنا، وأراد به الرد على من زعم أنها غيرُها وسماها سنة الزوال".
والذي يظهر هو رجحان قول الحنفية والجمهور، وهو أن هذه الأربع هي سنة الظهر القبلية، وأنها تكون ركعتين ركعتين، وهذا ما تدل عليه الأحاديث الصحيحة الثابتة، التي دلت على أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يصلي قبل الظهر أربع ركعات، وأنها كانت مثنى مثنى، أما الأحاديث التي فيها أن الأربع ركعات بدون تسليم فاصل؛ ففي أسانيدها نظر .
قال الشيخ الدكتور سعيد بن وهف القحطاني –رحمه الله-: "سألت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله-: هل هذه راتبة صلاة الظهر أم غيرها؟ فبين -رحمه الله- أنها راتبة الظهر".
ولو كانت هذه الأربع ركعات غير سنة الظهر القبلية؛ لاشتهر العمل بها عند الصحابة ومن بعدهم من التابعين وأتباعهم والأئمة الأربعة، ولذكرها المحققون من العلماء في كتبهم .
هذا، ولا حرج على من صلى هذه الأربع كسُنة مستقلة، تقليدًا لمن قال بذلك من العلماء، فالمسألة من مسائل الخلاف المعتبر، الذي يسع فيه الأخذ بأحد القولين.
** روى الترمذي من حديث عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ بَعْدَ الزَّوَالِ تُحْسَبُ بِمِثْلِهِنَّ فِي صَلَاةِ السَّحَرِ)، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَلَيْسَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ يُسَبِّحُ اللَّهَ تِلْكَ السَّاعَةَ)، ثُمَّ قَرَأَ {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} [النحل:48] الْآيَةَ كُلَّهَا.
وعلي هذا صدوق يخطئ كما قال الحافظ، وقد رواه عن يحيى البكاء وهو ضعيف ومن ثم ضعف الحديث الألباني رحمه الله.
وأما معناه فقال في تحفة الأحوذي: "قوله (أربع) أي من الركعات (قبل الظهر بعد الزوال) صفة لأربع (تحسب بمثلهن من صلاة السحر) أي بمثل أربع ركعات كائنة من صلاة السحر، يعني توازي أربعا من الفجر من السنة والفريضة لموافقة المصلي بعد الزوال سائر الكائنات في الخضوع والدخور لبارئها.
قال القارىء: والأظهر حمل السحر على حقيقته وهو السدس الأخير من الليل ويوجه كون المشبه به أقوى بأن العبادة فيه أشق وأتعب". انتهى
وروى أبو داود عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ لَيْسَ فِيهِنَّ تَسْلِيمٌ تُفْتَحُ لَهُنَّ أَبْوَابُ السَّمَاءِ) وضعفه أبو داود وقال المنذري: في إسناده احتمال للتحسين. وحسنه الألباني.
وحمله بعض العلماء على أنه في سنة مستقلة هي سنة الزوال لا في سنة الظهر القبلية.
قال المناوي في شرحه: (أربع) من الركعات يصليهن الإنسان (قبل الظهر) أي قبل صلاته أو قبيل دخول وقته وهو عند الزوال (ليس فيهن تسليم) أي ليس بين كل ركعتين منها فصل بسلام (تفتح لهن أبواب السماء) كناية عن حسن القبول وسرعة الوصول وتسمى هذه «سنة الزوال» وهي غير سنة الظهر. انتهى.
** النوافل المرتبطة بالصلاة غير الرواتب القبلية والبعدية الاثنتي عشرة المذكورة في الحديث هي: أربع ركعات بعد الظهر، وأربع قبل العصر، وركعتان قبل المغرب، وركعتان قبل العشاء.
وأما صلاة أربع ركعات بعد المغرب؛ فقد ورد فيها في مسند الفردوس من حديث ابن عباس: من صلى أربع ركعات بعد المغرب قبل أن يُكلم أحدا وضعت له في عليين، وكان كمن أدرك ليلة القدر في المسجد الأقصى. وهو حديث ضعيف كما قال العلماء، كما في تخريج «الإحياء».
وأما أربع ركعات بعد العشاء؛ فجاء فيها ما رواه البخاري وغيره عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ..." الحديث.
وجاء فيها ما رواه الإمام أحمد في الزهد، وابن أبي شيبة في مصنفه وغيرهما عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، وعائشة وغيرهما موقوفا على الصحابة، وله حكم الرفع؛ لأن مثله لا يقال بالرأي: «أَرْبَعٌ بَعْدَ الْعِشَاءِ يَعْدِلْنَ بِمِثْلِهِنَّ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ». قال الألباني في السلسة الضعيفة: وإسناده صحيح. اهـ
وتوزيع السنن الراتبة على الفرائض ليس فيه أربع ركعات بعد المغرب، ولا أربع بعد العشاء؛ فقد جاء مفصلا في مصنف عبد الرزاق وغيره عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ ثَابَرَ عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنَ السُّنَّةِ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ).
ولذلك؛ فغير ما جاء في هذا الحديث من السنن؛ فهو من السنن غير المؤكدة.
** فعل النافلة في البيت أفضل، من حيث الإجمال؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حضّ على صلاة النفل في البيوت، وفي ذلك أحاديث كثيرة، منها: ما في الصحيحين -واللفظ لمسلم- قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ)
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: "فيه استحباب النوافل الراتبة في البيت، كما يستحب فيه غيرها، ولا خلاف في هذا عندنا، وبه قال الجمهور. وسواء عندنا وعندهم راتبة فرائض النهار والليل. قال جماعة من السلف: الاختيار فعلها في المسجد كلها. وقال مالك، والثوري: الأفضل فعل نوافل النهار الراتبة في المسجد، وراتبة الليل في البيت. ودليلنا هذه الأحاديث الصحيحة، وفيها التصريح بأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يصلي سنة الصبح والجمعة في بيته، وهما صلاتا نهار، مع قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة). وهذا عام صحيح صريح، لا معارض له، فليس لأحد العدول عنه. والله أعلم".
** إذا جمع المقيم بين الصلاتين لعذر كالمطر أو المرض أو غير ذلك من الأعذار فله أن يصلي السنة الراتبة، ولا يجب عليه ذلك لأنها سنة وليست واجبة، فإن جمع بين الظهر والعصر صلى راتبة الظهر القبلية، ثم يجمع بين الصلاتين، ثم يصلي راتبة الظهر البعدية بعد صلاة العصر .
وإن جمع بين المغرب والعشاء، صلى بعدهما راتبة المغرب ثم راتبة العشاء .
قال النووي -رحمه الله- في «روضة الطالبين»: "في جمع العشاء والمغرب يصلي الفريضتين ثم سنة المغرب ثم سنة العشاء ثم الوتر. وأما في الظهر: فالصواب الذي قاله المحققون أنه يصلي سنة الظهر التي قبلها ثم يصلي الظهر ثم العصر ثم سنة الظهر التي بعدها ثم سنة العصر".
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله- في «أسنى المطالب»: "وَإِنْ جَمَعَ تَقْدِيمًا بَلْ أو تَأْخِيرًا في الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ صلى سُنَّةَ الظُّهْرِ التي قَبْلَهَا ثُمَّ الْفَرِيضَتَيْنِ الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ ثُمَّ بَاقِيَ السُّنَنِ مُرَتَّبَةً أَيْ سُنَّةَ الظُّهْرِ التي بَعْدَهَا ثُمَّ سُنَّةَ الْعَصْرِ .
وفي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ يُصَلِّي الْفَرِيضَتَيْنِ ثُمَّ السُّنَنَ مُرَتَّبَةً سُنَّةَ الْمَغْرِبِ ثُمَّ سُنَّةَ الْعِشَاءِ ثُمَّ الْوِتْرَ".
وقال ابن قدامة -رحمه الله- في «المغني»: "وَإِذَا جَمَعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى, فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ سُنَّةَ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا, وَيُوتِرُ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الثَّانِيَةِ; لِأَنَّ سُنَّتَهَا تَابِعَةٌ لَهَا, فَيَتْبَعُهَا فِي فِعْلِهَا وَوَقْتِهَا, وَالْوِتْرُ وَقْتُهُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ, وَقَدْ صَلَّى الْعِشَاءَ فَدَخَلَ وَقْتُهُ".
وقال المرداوي في «الإنصاف»: "يُصَلِّي سُنَّةَ الظُّهْرِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، قَالَهُ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ".انتهى
وسئل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: هل تؤدى السنن الراتبة القبلية والبعدية في حالة الجمع بين الصلاتين كالظهر والعصر والمغرب والعشاء، وإذا كانت تؤدى فكيفية تأدية هذه الراتبة هل تكون بعد الصلوات أو قبلها؟
فأجاب: "إنسان مريض أو جمع الناس من أجل المطر فأخر الظهر إلى العصر يصلي الراتبة أولاً أربع ركعات، ثم إذا فرغ من صلاة العصر صلى الراتبة البعدية التي للظهر .يجمع بين المغرب والعشاء ثم إذا فرغ صلى راتبة المغرب أولاً ثم راتبة العشاء".
والحاصل أن من أراد الجمع بين مشتركتي الوقت لا يصلي بينهما سنة راتبة لما يترتب عليه من بطلان، ويجوز لمن جمع بين الظهر والعصر أن يصلي سنة الظهر بعد الفراغ من الجمع.
** آكد الرواتب ركعتان الفجر؛ لقول عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَكُنْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مُعَاهَدَةً مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ [مسلم]
وعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) [مسلم]، ولهذا كان النبي يحافظ عليهما وعلى الوتر في الحضر والسفر.
وأما ما عدا ركعتي الفجر والوتر من الرواتب؛ فلم ينقل عن النبي أنه صلى راتبة في السفر غير سنة الفجر والوتر.
وقال ابن عمر -رضي الله عنهما- لما سئل عن سنة الظهر في السفر؛ قال: "لو كنت مسبحا؛ لأتممت".
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "وكان من هديه في سفره الاقتصار على الفرض، ولم يحفظ عنه أنه صلى سنة الصلاة قبلها ولا بعدها؛ إلا ما كان من الوتر وسنة الفجر".
مع التنبيه إلى أن الإنسان المواظب على النوافل في الحضر إذا سافر كتب له أجر صلاة النوافل فضلا من الله ونعمة، كما قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا) [البخاري]
قضاء السنة
** إذا أراد أن يقضي سنة الظهر القبلية بعد أن أدى فريضة الظهر، يصلي السنة القبلية أولا ثم السنة البعدية، أو العكس، فالأظهر أن الأمر واسع، سواء صلى القبلية أم البعدية، إذ المهم هو الإتيان بها، تقدمت أو تأخرت.
فمن فاتته سنة الظهر القبلية -بعذر أو بغير عذر- يستحب له أن يصليها بعد الفرض، لما رواه الترمذي عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- «أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا لَمْ يُصَلِّ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ صَلَّاهُنَّ بَعْدَهَا» [حسنه الألباني] فدل هذا على مشروعية المحافظة على السنن التي قبل الفرائض وأن وقتها ممتد إلى آخر وقت الفريضة ولا يخرج وقتها بأداء الفريضة. وإلى هذا ذهب الحنفية وقال العراقي: "وهو الصحيح عند الشافعية".
أما حديث عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا فَاتَتْهُ الْأَرْبَعُ قَبْلَ الظُّهْرِ صَلَّاهَا بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ». فرواه ابن ماجه، وضعفه الألباني، بل قال: منكر.
** وكان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا عمل عملاً أثبته؛ حتى إنه لما فاتته سنة الظهر حين جاءه الوفد، قضاها بعد العصر، ولاسيما إذا جمع الظهر مع العصر. ولما نام -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن صلاة الفجر ولم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس صلى سنة الفجر أولاً، ثم صلى بعدها الفجر.
فإذا فاتك شيء من هذه السنن الرواتب؛ فإنه يسن لك قضاؤها، وكذا إذا فاتك الوتر من الليل؛ فإنه يسن لك قضاؤه في النهار؛ لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قضى ركعتي الفجر مع الفجر حين نام عنهما، وقضى الركعتين اللتين بعد الظهر بعد العصر، حين شغل عنهما.. ويقاس الباقي من الرواتب في مشروعية قضائه إذا فات على ما فيه النص، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ نَامَ عَنِ الوِتْرِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَ وَإِذَا اسْتَيْقَظَ) [الترمذي: صحيح]
ويقضى الوتر مع شفعه؛ لما في الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها-: "وَكَانَ إِذَا شَغَلَهُ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ أَوْ مَرَضٌ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً". [أحمد بسند صحيح]
فالحاصل أنه يستحب قضاء السنن الراتبة إذا فاتت على الصحيح من أقوال أهل العلم، وهو مذهب الشافعية والمشهور عند الحنابلة، خلافا للحنفية والمالكية، لحديث أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يصلي ركعتين بعد العصر، فسئل عنها فقال: (يَا بِنْتَ أَبِى أُمَيَّةَ، سَأَلْتِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَإِنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَهُمَا هَاتَانِ) [البخاري ومسلم]
يقول الإمام النووي -رحمه الله- في «المجموع»: "الصحيح عندنا استحباب قضاء النوافل الراتبة، وبه قال محمد، والمزني، وأحمد في رواية عنه، وقال أبو حنيفة ومالك وأبو يوسف في أشهر الرواية عنهما لا يقضي، ودليلنا هذه الأحاديث الصحيحة".
ويقول المرداوي الحنبلي -رحمه الله- في «الإنصاف»: "قوله: (ومن فاته شيء من هذه السنن سن له قضاؤها): هذا المذهب والمشهور عند الأصحاب. ونصره المجد في شرحه، واختاره الشيخ تقي الدين –يعني ابن تيمية–".
** من فاتته سنة الظهر البعدية حتى دخل وقت العصر فله أن يقضيها سواء فاتته لعذر أو لغير عذر وبه قال ابن عمر وعطاء وطاوس والقاسم بن محمد والشافعي في الجديد وأحمد.
قال ابن قدامة: "وأما قضاء السنة الراتبة بعد العصر فالصحيح جوازه لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعله فإنه قضى الركعتين اللتين بعد الظهر وترجم البخاري بابا بقوله: «باب ما يصلي بعد العصر من الفوائت ونحوها». وقال ابن حجر في الفتح: قال الزين بن المنير: ظاهر الترجمة إخراج النافلة المحضة التي لا سبب لها. وقال أيضا: إن السر في قوله "ونحوها" ليدخل فيه رواتب النوافل وغيرها. وأما حديث أم سلمة الذي رواه أحمد وفيه فقلت يا رسول الله أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: (لا) فهذه الزيادة ضعفها البيهقي وابن حجر، والثابت ما رواه البخاري ومسلم عن أم سلمة وفيه (وَإِنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَهُمَا هَاتَانِ).
وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنها لا تقضى إذا فات وقتها - وفوات قتها بخروج وقت فريضتها- والمشهور عن مالك القول بقضاء راتبة الفجر- خاصة- بعد طلوع الشمس.
والقائلون بمشروعية قضاء الرواتب لا يفرقون بين من تركها عمدا أو نسيانا فيشرع قضاء السنن لكل من تركها ولكن تعمد تركها حتى يفوت وقتها مما لا ينبغي وهو يفوت على صاحبه الأجر الكامل فليس فعل السنة أداء كفعلها قضاء.
ومن فاتته رغيبة الفجر فإنه يقضيها إن شاء بعد صلاة الفجر وإن شاء بعد طلوع الشمس وهو أولى.
قال ابن قدامة رحمه الله: "فأما قضاء سنة الفجر بعدها فجائز إلا أن أحمد اختار أن يقضيهما من الضحى، وقال: إن صلاهما بعد الفجر أجزأ، وأما أنا فأختار ذلك. وقال عطاء وابن جريج والشافعي: يقضيهما بعدها لما روي عن قيس بن فهد قال: رآني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنا أصلي ركعتي الفجر بعد صلاة الفجر فقال: (ما هاتان الركعتان يا قيس؟) قلت: يا رسول الله لم أكن صليت ركعتي الفجر فهما هاتان. رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي. وسكوت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدل على الجواز ولأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قضى سنة الظهر بعد العصر وهذه في معناها ولأنها صلاة ذات سبب فأشبهت ركعتي الطواف.
وقال أصحاب الرأي: لا يجوز لعموم النهي ولما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعدما تطلع الشمس) رواه الترمذي. وهذا يحتمل النهي وإذا كان الأمر هكذا كان تأخيرها إلى وقت الضحى أحسن لنخرج من الخلاف ولا نخالف عموم الحديث وإن فعلها فهو جائز لأن هذا الخبر لا يقصر عن الدلالة على الجواز.
** ومن أهل العلم من فرق بين من تركها لعذر ومن تركها لغير عذر. فمن العلماء من يرى أن من تعمد تفويت السنة حتى خرج وقتها فإنه لا يقضيها لأنه هو الذي تسبب في حرمان نفسه من الفضل.
قال ابن رجب رحمه الله: "العامد بخلاف ذلك وهذا متوجه فإن العامد قد رغب عن هذه السنة وفوتها في وقتها عمدا فلا سبيل له بعد ذلك إلى استدراكها بخلاف النائم والناسي". انتهى.
واختار الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- مشروعية قضاء النوافل، لكنه قيد ذلك بما إذا تركها لعذر، دون من تعمد ترك النافلة، حتى خرج وقتها.
** من اعتاد صوم نافلة كالاثنين والخميس، فإنه إذا فاتته: استحب له قضاؤها، كما يدل عليه ظاهر السنة على المشهور من مذهب الشافعية والحنابلة.
وفي صحيح البخاري، ومسلم عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانٍ، وَإِذَا صَلَّى الغَدَاةَ دَخَلَ مَكَانَهُ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ، قَالَ: فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ أَنْ تَعْتَكِفَ، فَأَذِنَ لَهَا، فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً، فَسَمِعَتْ بِهَا حَفْصَةُ، فَضَرَبَتْ قُبَّةً، وَسَمِعَتْ زَيْنَبُ بِهَا، فَضَرَبَتْ قُبَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الغَدَاةِ أَبْصَرَ أَرْبَعَ قِبَابٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟، فَأُخْبِرَ خَبَرَهُنَّ، فَقَالَ: مَا حَمَلَهُنَّ عَلَى هَذَا؟ آلْبِرُّ؟ انْزِعُوهَا فَلاَ أَرَاهَا، فَنُزِعَتْ، فَلَمْ يَعْتَكِفْ فِي رمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِي آخِرِ العَشْرِ مِنْ شَوَّالٍ".
وفي صحيح مسلم، لما نام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه عن صلاة الصبح، حتى طلعت الشمس، وفيه: "ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ، فَصَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ".
قال الإمام النووي -رحمه الله-: "وفيه قضاء السنة الراتبة لأن الظاهر أن هاتين الركعتين اللتين قبل الغداة هما سنة الصبح".
وقال ابنُ القيِّم -رحمه الله- في فوائد هذه القصة: "فيها: أنَّ مَن نام عن صلاة أو نسِيها، فوقتها حين يستيقظ أو يذكرها، وفيها: أنَّ السنن الرواتب تُقضى، كما تُقضى الفرائض، وقد قضى رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- سُنَّة الفجر معها، وقضى سُنَّة الظهر وحدَها، وكان هديه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قضاءَ السنن الرَّواتب مع الفرائض).
والقول بمشروعية قضاء النوافل إذا فاتت، هو المشهور من مذهب الشافعية والحنابلة.
قال الرملي في «نهاية المحتاج» أما من فاته، وله عادة بصيامه، كالاثنين فلا يسن له قضاؤه، لفقد العلة المذكورة على ما أفتى به الوالد -رحمه الله تعالى- لكنه معارض بما مر من إفتائه بقضاء ست من القعدة، عن ست من شوال، معللا له بأنه يستحب قضاء الصوم الراتب. وهذا هو الأوجه".
وقال شيخ الإسلام ابنُ تيميَّة في «مجموع الفتاوى»: "إذا فاتت السُّنة الراتبة، مثل سُنَّة الظهر؛ فهل تُقضى بعد العصر؟ على قولين - هما رِوايتان عن أحمد - أحدهما: لا تُقضى، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، والثاني: تُقضى، وهو قول الشافعيِّ، وهو أقوى".
وقال أيضًا: "وتُقضى السنن الراتبة، ويُفعل ما له سببٌ في أوقات النهي، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار جماعة من أصحابنا وغيرهم".
وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: من أفطر في صوم التطوع بدون عذر، هل عليه القضاء؟" .
فأجاب: الجواب: ليس عليه قضاء، لكن يستحب له القضاء، إذا نوى يصوم الاثنين والخميس ثم أفطر بدون عذر فلا حرج عليه. لكن إذا قضى يكون أفضل، قد يكون جاءه ضيف يوم الاثنين أو اشتد عليه الحر وأفطر لا حرج الحمد لله: «المتطوع أمير نفسه» ليس بواجب، لكن الأفضل له إذا تيسر له القضاء يكون أفضل".
** لا يصح تداخل سنة ما قبل العصر مع قضاء راتبة الظهر لأن من شرط العبادتين المتداخلتين التي يصح للمسلم أن ينويهما معا، ويحصل له ثوابهما بفعل واحد: «أن تكون العبادتان، أو إحداهما، غيرَ مقصودة لذاتها»، كتحية المسجد، وكصوم ثلاثة أيام من كل شهر وغسل الجمعة.. ونحو ذلك. فيصح أن يصلي السنة القبلية للفجر أو الظهر بنيتها، مع نية تحية المسجد، ويصوم يوم عرفة، وينوي به يوما من الأيام الثلاثة من كل شهر، ويغتسل للجنابة وينوي به رفع الحدث وغسل الجمعة، ونحو ذلك.
وتبعية النافلة لصلاة قبلها أو بعدها، يجعلها مقصودة بذاتها، فلا يصح تداخل سنة ما قبل العصر مع قضاء راتبة الظهر؛ لأن راتبة الظهر مقصودة بالتبعية لفريضة الظهر، وسنة العصر مقصودة بالتبعية لصلاة العصر.
ومما قاله ابن حجر الهيتمي -رحمه الله- أثناء كلامه عن التداخل بين العقيقة والأضحية، وامتناع ذلك: "وبالقول بالتداخل: يبطل المقصود من كل منهما، فلم يمكن القول به؛ نظير ما قالوه في سنة غسل الجمعة وغسل العيد، وسنة الظهر وسنة العصر. وأما تحية المسجد ونحوها: فهي ليست مقصودة لذاتها، بل لعدم هتك حرمة المسجد؛ وذلك حاصل بصلاة غيرها. وكذا صوم نحو الاثنين، لأن القصد منه إحياء هذا اليوم بعبادة الصوم المخصوصة، وذلك حاصل بأي صوم وقع فيه. وأما الأضحية والعقيقة: فليستا كذلك”.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
