بين تكريم الإسلام وعبث الإلحاد: من الذي يُهين الإنسان؟

إن الإسلام لم يُهن الإنسان قط، بل رفعه إلى مقام الخلافة والمعنى والخلود. أما الإلحاد فمهما تجمّل بشعار الحرية، لم يقدّم للإنسان إلا العدم والصدفة واللا معنى.

  • التصنيفات: الإلحاد -

منذ أن وُجد الإنسان وهو يسأل نفسه من أنا؟ ولماذا جئت؟ وإلى أين المصير؟ سؤال وجودي عميق، هو معيار الكرامة أو المهانة، فمن أجاب عنه برفع الإنسان إلى مقام الخلافة والغاية فقد شرّفه. ومن هبط به إلى العدم والصدفة، فقد أهانه وإن ادّعى العكس.

اليوم يرفع الملاحدة شعار “تحرير الإنسان من قيود الدين”، ويزعمون أن الإسلام يقيد العقل، ويخيف بالوعيد، ويُسقط من كرامة الإنسان لأنه يجعله عبدًا لله. لكن إن دققنا النظر، سنجد أن الكرامة الحقيقية لا تُستمد من “التحرر من الله”، بل من “الانتماء إلى الله”.

 

الإسلام.. حين يبدأ التكريم من أول خلية:

ليس الإسلام فلسفة عبثية ولا نظرية باردة، بل هو خطاب يبدأ بالنداء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].

ويخبره أنه لم يُلقَ في الكون صدفة، ولم يخلق بلا غاية: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، قال ابن كثير في تفسيرها: «أي لم نخلقكم عبثًا باطلًا، بل خلقناكم للعبادة والجزاء».

بل هو مخلوق في “أحسن تقويم”، مُشرّف بخلافة، مُكرّم بتسخير الكون، قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} [الجاثية: 13].

لم يكن الإنسان طيفًا عابرًا، بل كائنًا وقف له الملأ الأعلى إجلالًا، انظر كيف يصوّر القرآن لحظة الخلق: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ، فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30]، فأي مقام أرفع من مقام شيّعك فيه الملأ الأعلى سُجّدًا؟!

وهكذا لبس الإنسان تاج الكرامة منذ البداية بعقل يفقه، وقلب يعي، وروح تسمو، وإرادة تختار.
 

الإلحاد.. حين يكسو العدم ثوب “الحرية”:

على الضفة الأخرى، يقف الإلحاد بخطابه البارد، يقول للإنسان: أنت وليد الصدفة، لا روح لك، ولا رسالة، ولا بعث بعد الفناء. كومة ذرات اجتمعت يومًا ثم تتبعثر غدًا.

فالفيزيائي ستيفن هوكينغ قال في مقابلة له: «الجنس البشري مجرد حثالة كيميائية على كوكب متوسط الحجم، يدور حول نجم عادي جدًا…»، أما ريتشارد دوكينز فيصوّر الإنسان كآلة وُجدت لخدمة الجينات، فيقول في كتابه “the selfish genes”: «نحن آلات للبقاء على قيد الحياة – مركبات آلية مبرمجة بشكل أعمى للحفاظ على الجزيئات الأنانية المعروفة باسم الجينات».

ثم يأتي ألبير كامو ليعلن عبث الحياة ويدعو صراحةً إلى طرح السؤال الأكثر جديّة: لماذا لا ننتحر؟ إذ قال في “أسطورة سيزيف”: «ليست هناك سوى مشكلة فلسفية واحدة جادة حقًا، وهي الانتحار».

وأما جان بول سارتر فقد أقرّ أن الإنسان  في نظر فلسفته محكوم بالحرية في عالم بلا غاية، فقال: «لقد تُركنا وحيدين بلا عذر، وهذا ما أعنيه حين أقول إن الإنسان مُدان بأن يكون حرًّا».

أيّ تكريم هذا وهم يزعمون تحريره، نزعوا عنه تاجه، وتركوه عاريًا من المعنى، تائهًا في العدم، يتخبّط بين “الحرية المطلقة” و”اللا معنى المطلق”؟!
 

العبودية لله.. تحرر لا مهانة:

يتساءل بعضهم كيف يكون الإنسان مكرّمًا وهو “عبد لله”؟ لكن هل ثمة عزة أعظم من أن تكون عبدًا للخالق لا للمخلوق؟ فالإنسان في الإلحاد عبدٌ لهواه، كما قال تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً} [الفرقان: 43]

تأسره شهوته فتقوده حيث تشاء، يلهث خلف اللذة ولو على حساب كرامته أو إنسانيته، فإذا أُطفئت رغبةٌ اشتعلت أخرى، فلا قرار له ولا سكينة. ثم يعبد جيبه ويقيس نفسه بما يملك، ويظن أن قيمته تُشترى وتُباع، فيعيش  ليجمع ويُكدّس حتى يُدفن. وقد وصف الله حاله بقوله: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ ليطغى أَن رَآهُ استغنى} [العلق: 6-7].

أما المجتمع، فيصنع منه سيدًا آخر، يفرض على المرء كيف يلبس، وماذا يحب، ومتى يفرح أو يحزن، حتى يصبح الفرد نسخةً من الآخرين، يخشى أن يكون مختلفًا أكثر من خشيته أن يكون ضالًّا.

ثم يأتي سلطان القوة، فيُخضع الناس بالخوف، يُملي عليهم ما يقولون وعمّن يسكتون، فيرضخون له طوعًا أو كرهًا، كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]. وهكذا تتوزع عبودية الإنسان بين شهوةٍ تستهلكه، ومالٍ يستعبده، وعرفٍ يقيّده، وسلطةٍ تُرعبه.

أما في الإسلام، فهو عبدٌ لله وحده، عبوديةٌ تحرّره من كل قيدٍ سواه، وتعيد إليه إنسانيته، فيقف أمام المال زاهدًا لا عبدًا، وأمام الشهوة عفيفًا لا أسيرًا، وأمام السلطان حرًّا لا تابعًا، وأمام المجتمع ثابتًا لا متحيرًا.
 

الوعيد والعذاب.. عدل لا تهديد:

يعترض الملاحدة قائلين: “لماذا يخوّف الإسلام بالنار؟”، لكنهم يتغافلون أن الوعيد في الإسلام ليس تهديدًا عبثيًا، بل تحذيرًا عادلًا مشروطًا بالذنب والإصرار عليه، وأن باب الرحمة مفتوحٌ حتى آخر لحظة من الحياة.

قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا على أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (سنن ابن ماجه: 4250). فالله لا يعذّب من تاب، ولا يُساوي بين من ظلم ومن تاب، بل يجعل لكلٍّ جزاءً بما كسبت يداه.

ثم لنسألهم: أيهما أكرم للإنسان؟ دينٌ يقول له: خيرُك لن يضيع، وظلمُك لن يمرّ بلا حساب؟ أم من يقول له: تموتُ أنت والظالم سواءً، وينساكم التراب؟ أيُّ احتقارٍ أعظمُ من أن يُسوّى بين الجلّاد والضحية باسم “العدم”؟

التجربة الغربية.. حين صار الإنسان مجرد رقم:

الغرب الذي رفع شعار “كرامة الإنسان” جرّده منها عمليًا. ففي الرأسمالية صار سلعة تُباع  وتشترى، وفي الشيوعية صار ترسًا في آلة الحزب في الحضارة المادية الحديثة، مجرد رقم في إحصاءات السجلات المدنية.

لقد جُرّد من إنسانيته باسم “التقدم”، حتى صارت قيمته تُقاس بمدى إنتاجه واستهلاكه. وما ارتفعت معدلات الانتحار والاكتئاب في مجتمعاتهم إلا لأن الإنسان سلب منه المعنى، فقد صرحت منظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من 54 مليون شخص في الصين يعانون من الاكتئاب، بينما سجلت مراكز السيطرة على الأمراض الأمريكية (CDC) عام 2023 أكثر من 49 ألف حالة انتحار في الولايات المتحدة. كما توضح هيئة الإحصاء الكندية أن نسبة محاولات الانتحار بين الشباب بلغت 10.7٪ خلال جائحة كورونا.
 

الإنسان في الإسلام.. سيّد بمعناه الحقيقي:

في الإسلام  كل لحظةٍ من حياة الإنسان لها وزن ومعنى؛ فابتسامته صدقة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «تَبَسُّمُكَ في وجهِ أخيكَ لك صدقةٌ» (جامع الترمذي: 1956). ونيّته عبادة، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (متفق عليه). ولكلمته أثر، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24].

حتى موته، له في الإسلام كرامة وصلاة ودعاء، كما قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]. وقال صلى الله عليه وسلم: «كسرُ عظم الميت ككسره حيًّا» (سنن أبي داود: 3207)، دلالةً على أن حرمة الإنسان باقية حتى بعد موته.

أما في الإلحاد، فالحياة تمضي عبثًا بدون هدف، والموت يُطوى بلا معنى كغصنٍ ييبس في غابةٍ لا أحد يذكره؛ لأن من أنكر الخالق فقد أنكر الغاية، ومن أنكر الغاية عاش بلا نورٍ ولا اتجاه.

خاتمة.. من الذي يكرمك حقًا؟ 

إن الإسلام لم يُهن الإنسان قط، بل رفعه إلى مقام الخلافة والمعنى والخلود. أما الإلحاد فمهما تجمّل بشعار الحرية، لم يقدّم للإنسان إلا العدم والصدفة واللا معنى. فقل لي بصدق أيُّهما أكرم لك أن تكون خليفة لله في الأرض أم صدفة عابرة على هامش الكون؟! 

المصادر:

  1. ريتشارد دوكينز، The Selfish Gene، مطبعة جامعة أكسفورد، 1976.
  2. ألبير كامو، أسطورة سيزيف، 1942.
  3. جان بول سارتر، الوجودية نزعة إنسانية، 1946.
  4. Philosophy Now – You Chemical Scum, You
  5. الصحة النفسية للكنديين خلال جائحة 2019.

    __________________________________________
    الكاتب: قلم/ سعاد تربح