التفكير النقدي في مواجهة التفاهة
التفاهة تعمل على تغييب العقل في بحر الشهوات والملهيات، فتتيه وسائل العقل من تفكير ونقد وتحليل؛ لأن العقل لا يستطيع مواجهة القصف الإلكتروني من صور وفيديوهات ورسائل، التي توجهها التفاهة في كل لحظة، وعبر كل وسيلة.
- التصنيفات: مجتمع وإصلاح -
إن المتدبِّر لكتاب الله تعالى يجد أن القرآن الكريم أكْثَرَ من قوله: "أفلا تعقلون"، و"أفلا يتفكرون"، و"أفلا يتدبرون"، و"أولم ينظروا"، و"أولم يسيروا"، كل هذه الآيات تدعو إلى إعمال العقل في حياة المؤمن، وإن القرآن الكريم اعتبر إغفالَ العقل جريمةً وذنبًا، ولقد عاب القرآن الكريم على الذين اتبعوا وقلَّدوا آباءهم في عقيدتهم؛ فقال: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]، ولقد أعملَ رسول الله مبدأَ التفكير وإعمال العقل في سيرته؛ فتراه في غزوة بدر يأخذ برأي الحباب بن المنذر في تحديد مواقع المسلمين في المعركة، وتراه أيضًا يأخذ برأي أم سلمة في صلح الحديبية، عندما تأخر الصحابة في تنفيذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحلل من مناسك العمرة، واستشار أصحابه في الأمور العامة؛ كأخذ رأيهم في غزوة أحد والخندق، وغيرها كثير.
وعندما تشرَّب الصحابة رضوان الله عليهم هذا المبدأ المهم من حياة المؤمن، أعملوه في حياتهم؛ فترى سيدنا عمرَ رضي الله عنه يُدخل ابن عباس في مجلس مشورته لعلمه، وتراه أيضًا يأخذ برأي علي رضي الله عنه في الملمَّات، وما منهج الجرح والتعديل وعِلمُ الرجال من علوم مصطلح الحديث إلا من غِراس مَن زرعه؛ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في عقل الأمة، ودونك رجلَ الأمة وإمام أهل السنة الإمامَ أحمدَ بن حنبل؛ لقد ناظر وحاور ودافع عن السنة، وكذلك جاء من قبله الإمام الشافعي، فألَّف كتابه الرسالة، فكان عمدةً لمنهج أصول الفقه، وهو علم نقديٌّ يبحث في مصادر الأحكام، ويقارن بين العِلل، ويرجِّح الأقوال بالأدلة الصحيحة.
وجاء العلم الحديث فأكَّد أهمية التفكير النقدي في حياة الإنسان بشكل عام، وفي مواجهة التفاهة بشكل خاص، فالمتفكر في عمق التفاهة التي سَطَتْ على حياة أجيالنا، يهوله الأمر، ويُحزنه الواقع، ثم يتفكر في كيفية المواجهة مع احتمال خسارة المواجهة، ولكن الحصيف لا يعجز عن محاربتها، والتخفيف من أضرارها، ومن أهم وسائل مواجهتها هو زرع التفكير الناقد أو النقدي في عقول أبنائنا، فما هو التفكير الناقد؟ وما وسائله وأساليبه؟ وكيف يمكن أن يكون وسيلةً نافعة في مواجهة التفاهة؟
أولًا: مفهوم التفكير النقدي:
القدرة على التحليل العميق، والفهم المتأني، والتقييم المنطقي للأفكار والمعلومات والمواقف؛ من أجل التمييز بين الحق والباطل، والمفيد والتافه.
هو تفكير لا يكتفي بما يسمع ويُقال، بل يسأل ويدقِّق، ويتأمل ويتخيَّر.
ثانيًا: مفاهيم التفكير النقدي الأساسية:
علينا أن نزرع في عقول أبنائنا عدةَ أسئلة يوجِّهونها لِما يتابعونه ويسمعونه، عبر منصات التواصل الاجتماعي والمواقع التي يتابعونها:
1- السؤال الناقد: لماذا؟ وكيف؟ بمعنى لماذا أشاهد هذا الفيديو؟ وكيف وصلت إلى هذه الدرجة وهذا المستوى في التفاهة التي أشاهدها؟ وما الفائدة التي سأحصل عليها بعد هذه المشاهدة؟
2- التمييز بين الرأي الشخصي، والحقيقة المطلقة: ربما يكون رأيك الشخصي موافقًا لما تحب أن تراه من أنواع التفاهة، ولكن ربما يكون رأيك هذا مخالفًا للحقائق المطلقة التي تؤمن بها؛ قيمك، ودينك، وعاداتك، وحتى أخلاقك.
3- التحقق من المصدر: مصدر المعلومة، ومن قالها؟ فكثير من المعلومات التي تغزو بها عقولَنا التفاهةُ ليس لها مصدرٌ موثوق، بل كثير منها خرافات وأوهام ومحضُ أباطيلَ، ويخدع كثير من التافهين مشاهديهم عبر قولهم: كل ما نقوله أثبت مصادره في وصف الفيديو، وهم يعلمون بأنه قليل جدًّا من الناس الذين يرجعون إلى المصادر ليتأكدوا مما بثَّه الفيديو من معلومات.
4- التحليل: تفكيك المعلومات العامة إلى عناصر متعددة ليسهل نقدها، نعم، هذا مهم جدًّا، فربما يكون المحتوى العام لِما تشاهده مقبولٌ، ولكن في ثناياه كثير من السموم الفكرية والخرافات، لا ينتبه لها كثيرٌ من المشاهدين.
5- الدليل: البحث عن الأدلة للوصول إلى نتائج منطقية، ليس كل ما تقدمه التفاهة شرًّا محضًا، بل في بعضها خير؛ ولكن هذا الخير مخبوء في دهاليز الشر الكثير، والفراغ المشؤوم في التفاهة.
6- التقييم: الحكم على الفكرة وصحتها: لا بد أن نزرع في عقولنا وعقول أبنائنا تقييمَ ما نشاهده، وأن نحكم عليه حكمًا فكريًّا لا حكمًا نفسيًّا، فالفكر إذا كان سويًّا، فسيحكم أحكامًا سوية، ولكن الرزية كل الرزية ما يحول بين العقل والسلوك من شهوات النفوس، وتقلُّبات القلب.
ثالثًا: لماذا التفكير النقدي مهمٌّ في مواجهة التفاهة؟
لأن التفاهة تعمل على تغييب العقل في بحر الشهوات والملهيات، فتتيه وسائل العقل من تفكير ونقد وتحليل؛ لأن العقل لا يستطيع مواجهة القصف الإلكتروني من صور وفيديوهات ورسائل، التي توجهها التفاهة في كل لحظة، وعبر كل وسيلة.
وتمارس التفاهة التأثيرَ بلا مسؤولية، فكثير من مشهوري التفاهة يسمَّون مؤثرين، وهم في حقيقتهم متأثرون بمجتمعاتهم؛ لأنهم يتفاعلون مع أكثر الأشياء شهرة بُغية كسب المتابعين وعدد المشاهدات؛ لأن المقصد الأسمى هو المال والشهرة، وفي سبيلهما يُذلَّل كلُّ صعب، ويُركب كل ممنوع، وتُنتهك كل حرمة.
لذلك كانت التفاهة تزدهر حين يغيب التفكير النقدي.
أما التفكير النقدي، فيساعد على:
1- اكتشاف سطحية المحتوى وضحالته.
2- رفض الاتباع والتقليد الأعمى.
3- عمق الفهم والبحث عن المعنى.
4- الموازنة بين العقل والعاطفة.
5- المساءلة عن الفائدة والحقيقة.
6- الذوق الناضج بعيدًا عن الإثارة الخادعة.
راقب أفكارك فهي ستصبح يومًا ما أفعالك، وهذه الأفعال إذا تكررت، تقررت وغرست في نفسك شيئًا، أنت لن ترضى عنه في مستقبلك، وراقب أفعالك لأنها ستكون شخصيتك التي تصنعها بنفسك، وأنت من ستُحاسب على شخصيتك التي صنعتها بنفسك، ارجع إلى عقلك وأعمِل فيه النقدَ والتحليل؛ فهو حصنك، وارجع إلى دينك؛ ففيه ملاذك وعياذك، وكهفك وأمانك؛ ففي زمن التفاهة التفكير النقدي ليس مجرد مهارة، بل واجبٌ ديني وأخلاقي، وبوابة نجاة.
______________________________________________
الكاتب: ماهر غازي القسي
