لنحيا بالعلم!!
فيصل بن علي البعداني
فإن حاجة المسلم اليوم أن يقترن علمه بعمله، وأن يجعل ما يتعلمه طريقًا إلى إصلاح قلبه وسلوكه، لا زينة تُعلّق على السيرة الذاتية، ولا جسرًا إلى لقب أو مكانة.
- التصنيفات: الإسلام والعلم -
لُقِّنا ونحن صغار، أن الدين علم وعمل، وحُفِّظنا: أن عـــالما بعلمــهِ لــم يَعملن، مُعــــذبٌ من قبـل عُبَّـاد الـوثن، وكان مما تقرر في أسماعنا واستقر في دواخلنا: أن من يعلم ليس كمن لا يعلم، وأن الرياء في طلب العلم الشرعي وطلب الدنيا به من أعظم المهالك، لقوله ﷺ : «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه، -وذكر منهم-: ورجل تعلم العلم، وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعَّرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟، قال: تعلمت العلم، وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار»، وإنما عظمت عقوبته وتم البدء به؛ لأن تعلمه وتعليمه إنما كان رياء وطلبا للجاه والعلو في الأرض، ومن أجل أن يقال عنه إنه عالم قارئ، ونبهنا معلمونا وقتها: أن ترك العمل به بوابة تضييعه، وأن الخليفة الراشد: عليا رضي الله عنه كان يقول: (العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل).
فلما كبرنا وولجنا في دهاليز المدارس والجامعات، صار التعلم وسيلة نيل الوظيفة، فعلا صوتها بيننا معاشر الطلاب حينئذ، وخفت بيننا كثيرا تعلم لتعمل، حتى إن نيل العلم لم يعد هدفا لدى كثير منا في ذاته، وإنما الغاية تجاوز اختبارات طلبه والحصول على شهادته.
وحين تخرجنا من الجامعة ومضى بعض الوقت انقلب الحال، وصارت الشهادة لا تضمن للمرء وظيفة في غالب الأحيان، فصار الحصيف في نظر بعضنا من يبحث عن شهادة أعلى، لا ليزداد علما، ولا يمتلك عمقا، ولا ليؤسس على ذلك عملا، بل ليقال: صاحب شهادة عليا، فيتربع في صدر المجالس، ويقدم في الكلام، ويشار إليه بالبنان.
ومع تزايد هذا الانحراف الصارخ في أوساطنا بمرور الأعوام – من دون تعميم طبعا، فالخير في هذا الأمة باقٍ إلى يوم اللقاء- وصل الأمر إلى حد الظاهرة، هذا إن لم يتجاوزها الحال في بعض المجتمعات إلى حد المشهد الغالب، وهو ما يتطلب تصحيحا للمسار، وعودا إلى النهج الأول، الذي جاءت به النصوص الشريفة، وكان عليه حال سلفنا الصالح.
فأما النصوص، فقد جاءت مشتملة على التحذير من علم لا يعمل به، يقول الله تعالى -ذاما يهود؛ الذين علموا ثم تركوا العمل بالتوراة ومقتضيات الإيمان، ومحذرا من صنيعهم-: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}، (قال أهل المعاني: وهذا المثل يلحق من لم يفهم معاني القرآن ولم يعمل به وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه، ولهذا قال ميمون بن مهران: يا أهل القرآن: اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم. ثم تلا هذه الآية)، وقال الزمخشري: (شبه اليهود- في أنهم حملة التوراة وقرّاؤها وحفاظ ما فيها، ثم إنهم غير عاملين بها ولا منتفعين بآياتها، وذلك أنّ فيها نعت رسول الله ﷺ والبشارة به ولم يؤمنوا به- بالحمار حمل أسفارا، أي كتبا كبارا من كتب العلم، فهو يمشى بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب. وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله، وبئس المثل).
ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}، قال السعدي: (أي: لم تقولون الخير وتحثون عليه، وربما تمدحتم به وأنتم لا تفعلونه، وتنهون عن الشر وربما نزهتم أنفسكم عنه، وأنتم متلوثون به ومتصفون به،... ولهذا ينبغي للآمر بالخير أن يكون أول الناس إليه مبادرة، وللناهي عن الشر أن يكون أبعد الناس منه، قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} وقال شعيب عليه الصلاة والسلام لقومه: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه}.
وأما الأحاديث النبوية المحذرة من مفارقة العلم العمل فكثيرة، ومنها: قوله ﷺ: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان ما شأنك؟، أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟، قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه»، (متفق عليه).
وقوله ﷺ: «لا تزول قدَمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن عِلمه فيمَ فعل،...»، (رواه الترمذي وقال: حسن صحيح).
وقوله ﷺ: «مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء من أهل الدنيا، كانوا يأمرون الناس بالبر، وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب، أفلا يعقلون»، (رواه احمد، قال محققوه: حديث صحيح).
وأما السلف فمن أحوالهم في العمل بالعلم جاء عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: ( إنا أخذنا القرآن عن قوم، فأخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الأخر حتى يعملوا ما فيهن من العلم، قال: فتعلمنا العلم والعمل جميعا، وإنه سيرث هذا القرآن قوم بعدنا يشربونه كشربهم الماء، لا يجاوز تراقيهم)،
وقال أحمد: ( ما كتبتُ حديثًا إلا وعملت به، حتى مرَّ بي أن النبي ﷺ احتجم، وأعطى أبا طيبة دينارًا، فأعطيت الحجَّام دينارًا حين احتجمت)، وقال سفيان: (ما بلغني من رسول الله ﷺ حديث قط، إلا عملت به ولو مرةً).
وأما أقوالهم في الحث على مقارنة العلم العمل ففوق أن تحصر، ومن ذلك:
قول علي رضي الله عنه: (يا حملة العلم، اعملوا به؛ فإنما العالم من عمل بما علم، فوافق علمه عمله).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (لا يكون الرجل عالمًا حتى يكون به عاملًا).
وقال رضي الله عنه: إن أخوف ما أخاف، إذا لقيت ربي تبارك وتعالى أن يقول لي: قد علمت، فماذا عملت فيما علمت؟).
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ويل لمن يعلم ولا يعمل، سبع مرات.
وقال يحيى بن معاذ: (العلم والعمل قرينان لا ينفع أحدهما إلا بصاحبه).
وقال الخطيب البغدادي: (وليس يعد عالمًا من لم يكن بعلمه عاملًا).
وختامًا: فإن حاجة المسلم اليوم أن يقترن علمه بعمله، وأن يجعل ما يتعلمه طريقًا إلى إصلاح قلبه وسلوكه، لا زينة تُعلّق على السيرة الذاتية، ولا جسرًا إلى لقب أو مكانة. فالعلم نور، ولكنه ينقلب حجة على صاحبه إن لم يثمر أثرًا في حياته. والموفّق هو من يعيش بالعلم ظاهرا وباطنا، ويُحيي به قلبه ليلا ونهارا، ويجعل سرَّه وعلانيته على وفقه، ويبثه في الأرض ويدعو إليه، ليكون علمه شاهدَ صدقٍ له، لا وبالًا عليه يوم يلقى الله تعالى.
والله الهادي
