مع سورة المزمل
خالد سعد النجار
قال أهل التفسير: ومن أغراض السورة أن أعمال النهار لا يغني عنها قيام الليل. وأن في هذه السورة مواضع عويصة وأساليب غامضة فعليك تدبرها.
- التصنيفات: التفسير -
{بسم الله الرحمن الرحيم }
قال أهل التفسير: ومن أغراض السورة أن أعمال النهار لا يغني عنها قيام الليل. وأن في هذه السورة مواضع عويصة وأساليب غامضة فعليك تدبرها.
وأن القرآن الذي أنزل أولا أكثره إرشاد للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى طرائق دعوة الرسالة، فلذلك كان غالب ما في السور الأول منه مقتصرا على سَن التكاليف الخاصة بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) }
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} أي: المتزمل. من تزمل بثيابه إذا تلفف بها. فأدغم التاء في الزّاي؛ وهو مثل «المدثر» في مآل المعنى، وإن كان بينهما اختلاف في أصل الاشتقاق: فالتزمل مشتق من معنى التلفف لمريد النوم، والتدثر مشتق من معنى اتخاذ الدثار للتدفؤ.
خوطب -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بحكاية حاله وقت نزول الوحي، ملاطفة وتأنيساً وتنشيطاً للتشمر لقيام الليل.
والأصل في النداء أن يكون باسم المنادى العلم إذا كان معروفا عند المتكلم، فلا يعدل من الاسم العلم إلى غيره من وصف أو إضافة إلا لغرض يقصده البلغاء من تعظيم وتكريم نحو: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64]، أو تلطف وتقرب نحو: "يا بني و يا أبت"، أو قصد تهكم نحو: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6]
فإذا نودي المنادي بوصف هيئته من لبسة أو جلسة أو ضجعة كان المقصود في الغالب التلطف به والتحبب إليه ولهيئته، ومنه قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعلي بن أبي طالب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وقد وجده مضطجعا في المسجد وقد علق تراب المسجد بجنبه: (قُمْ أَبَا تُرَابٍ، قُمْ أَبَا تُرَابٍ) [البخاري] وقوله لحذيفة بن اليمان -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يوم الخندق (قُمْ يَا نَوْمَانُ) [مسلم]، وقوله لعبد الرحمن بن صخر الدوسي وقد رآه حاملا هرة صغيرة في كمه، (يا أبا هريرة).
فنداء النبي بـ {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ناء تلطف وارتفاق، ومثله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1].
وهذا التزمل الذي أشارت إليه الآية، قال الزهري وجمهور المفسرين: إنه التزمل الذي جرى في قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (زملوني زملوني) حين نزل من غار حراء بعد أن نزل عليه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1] الآيات كما في حديث عروة عن عائشة في كتاب بدء الوحي من صحيح البخاري، وإن لم يذكر في ذلك الحديث نزول هذه السورة حينئذ.
{قُمِ اللَّيْلَ} فيه للصلاة، ودع التزمُّل للهجوع.
وكذلك كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ممتثلا ما أمره الله تعالى به من قيام الليل، وقد كان واجبًا عليه وحده، كما قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]
فكان هذا حكما خاصا بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقد ذكره الفقهاء في باب خصائص النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يكن واجبا على غيره، ولم تفرض على المسلمين صلاة قبل الصلوات الخمس. وإنما كان المسلمون يقتدون بفعل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يقرهم على ذلك، فكانوا يرونه لزاما عليهم، وقد أثنى الله عليهم بذلك في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16]
{إِلَّا قَلِيلًا} بحكم الضرورة للاستراحة، ومصالح البدن التي لا يمكن بقاؤه بدونها.. ثم بيّن تعالى قدر القيام مخيراً له بقوله:
{نِصْفَهُ} نصف الليل {أَوِ انْقُصْ مِنْهُ} من النصف {قَلِيلًا} إلى الثلث، وفائدة الإيماء إلى أن الأولى أن يكون القيام أكثر من مدة نصف الليل
{أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} النصف إلى الثلثين، والمقصود التخيير بين قيام النصف وما فوقه وما دونه.
وقوله {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} هو عود إلى الترغيب في أن تكون مدة القيام أكثر من نصف الليل ولذلك لم يقيد {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} بمثل ما قيد به {أَوِ انْقُصْ مِنْهُ} لتكون الزيادة على النصف متسعة، وقد ورد في الحديث أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخذ بالعزيمة فقام حتى تورمت قدماه.
{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} والترتيل: جعل الشيء مرتلا، أي مفرقا، وأصله من قولهم: «ثغر مرتل»، وهو المفلج الأسنان، أي المفرق بين أسنانه تفريقا قليلا بحيث لا تكون النواجذ متلاصقة.. وأريد بترتيل القرآن ترتيل قراءته، أي التمهل في النطق بحروف القرآن حتى تخرج من الفم واضحة مع إشباع الحركات التي تستحق الإشباع.
قال الزمخشري: "ترتيل القرآن قراءته على ترسل وتؤده، بتبيين الحرف، وإشباع الحركات، حتى يجيء المتلوّ منه شبيهاً بالثغر المرتل، وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان، وأن لا يهذّه هذّاً، ولا يسرده سرداً".
وفائدة هذا أن يرسخ حفظه ويتلقاه السامعون فيعلق بحوافظهم، ويتدبر قارئه وسامعه معانيه كي لا يسبق لفظ اللسان عمل الفهم.
وقد ثبت في السُّنة أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (كان يقطع قراءته آية آية، وأنها كانت مفسرة حرفاً حرفاً، وأنه كان يقف على رؤوس الآي).
قالت عائشة: "كان يقرأ السورة فيرتلها، حتى تكون أطول من أطول منها".
وعَنْ حَفْصَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى فِي سُبْحَتِهِ قَاعِدًا حَتَّى كَانَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِعَامٍ فَكَانَ يُصَلِّي فِي سُبْحَتِهِ قَاعِدًا وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسُّورَةِ فَيُرَتِّلُهَا حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلَ مِنْهَا" [مسلم]
وفي صحيح البخاري، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سُئِلَ أَنَسٌ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَقَالَ كَانَتْ مَدًّا ثُمَّ قَرَأَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يَمُدُّ بِبِسْمِ اللَّهِ وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ.
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟، فَقَالَتْ: "كَانَ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:1] {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:1] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} " [أحمد]
وقال الإمام أحمد: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْقَ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا).
واستدل بالآية على أن الترتيل والتدبُّر، مع قلة القراءة أفضل من سرعة القراءة مع كثرتها، لأن المقصود من القرآن فهمه وتدبُّره، والفقه فيه، والعمل به.
قال ابن مسعود: "لا تهذُّوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هَمّ أحدكم آخر السورة".
وفي البخاري عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ اللَّيْلَةَ فِي رَكْعَةٍ. فَقَالَ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ. لَقَدْ عَرَفْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ فَذَكَرَ عِشْرِينَ سُورَةً مِنْ الْمُفَصَّلِ سُورَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ.
وقوله: "هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ" لأنهم كانوا إذا أنشدوا القصيدة أسرعوا ليظهر ميزان بحرها، وتتعاقب قوافيها على الأسماع. والهذ: إسراع القطع.
وفي هذه الآية الكريمة وما بعدها بيان لمجمل قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79].
وفيها بيان لكيفية القيام وهو بترتيل القرآن وفيها رد على مسألتين اختلف فيهما
الأولى منهما: عدد ركعات قيام الليل أهو ثماني ركعات أو أكثر؟
وقد خير -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين هذه الأزمنة من الليل فترك ذلك لنشاطه واستعداده وارتياحه فلا يمكن التعبد بعدد لا يصح دونه ولا يجوز تعديه، واختلف في قيام رمضان خاصة، والأولى أن يؤخذ بما ارتضاه السلف، ولأكثر من ألف عام في مسجد النبي -عليه السلام- قد استقر العمل على عشرين ركعة في رمضان.
والمسألة الثانية: ما يذكره الفقهاء في كيفية قيام الليل عامة: هل الأفضل كثرة الركعات لكثرة الركوع والسجود، وحيث إن أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد؟ أم طول القيام للقراءة حيث إن للقارئ بكل حرف عشر حسنات فهنا قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}؟، نص على أن العبرة بترتيل القرآن ترتيلا وأكد بالمصدر تأكيدا لإرادة هذا المعنى. وتقدم قول أنس وأم سلمة وابن مسعود رضي لله عنهم أجمعين.
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)
{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ} تعليل للأمر بقيام الليل، وبيانيا لحكمة الأمر بقيام الليل بأنها تهيئة نفس النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليحمل شدة الوحي، وفي هذا إيماء إلى أن الله يسر عليه ذلك كما قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:17]، فتلك مناسبة وقوع هذه الجملة عقب جملة: {قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} فهذا إشعار بأن نزول هذه الآية كان في أول عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بنزول القرآن، فلما قال له: {وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} أعقب ببيان علة الأمر بترتيل القرآن.
{قَوْلًا} القرآن {ثَقِيلًا} الثقل الموصوف به القول ثقل مجازي لا محالة.
* قولا ثقيلا: أي قولا رصيناً، لرزانة لفظه، ومتانة معناه، ورجحانه فيهما على ما عداه. ولما كان الراجح من شأنه ذلك، تجوّز بالثقيل عنه.. أو ثقيلاً على المتأمّل فيه، لافتقاره إلى مزيد تصفيه للسر وتجريد للنظر.
فيستعار ثقل القول لاشتماله على معان وافرة يحتاج العلم بها لدقة النظر، وذلك بكمال هديه ووفرة معانيه.
قال الفراء: "ثقيلا ليس بالكلام السفساف". وحسبك أنه حوى من المعارف والعلوم ما لا يفي العقل بالإحاطة به، فكم غاصت فيه أفهام العلماء من فقهاء ومتكلمين وبلغاء ولغويين وحكماء، فشابه الشيء الثقيل في أنه لا يقوى الواحد على الاستقلال بمعانيه.
* أو قولا ثقيلا في وزن الثواب.
* أو ثقيلا في التكاليف به.. قال ابن كثير: قال الحسن، وقتادة: أي العمل به.
فمن جانب تكاليفه فقد ثقلت على السماوات والأرض والجبال وأشفقن منها كما هو معلوم، ومن جانب ثوابه فقد جاء في حديث مسلم (الحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض). وحديث البطاقة.. وكل ذلك يشهد بعضه لبعض ولا ينافيه.
* أو ثقيلاً تلقّيه، فقيل: ثقيلٌ وقت نزوله؛ من عظمته.
كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ ثابت -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "أُنزل عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي، فَكَادَتْ تَرُضُّ فَخِذِي" [أي تتكسر]
وفي أول صحيح البخاري عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ) قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا.
وروى أحمد عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: "إِنْ كَانَ لَيُوحَى إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَتَضْرِبُ بِجِرَانِهَا" [حسن].. الجران: باطن العنق.
وأخرجه البيهقي في «دلائل النبوة» من طريق عبد الرحمن بن أبي الزِّناد، بلفظ: فتضرب على جِرانها من ثقل ما يُوحى إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وإن كان جبينه ليطف بالعرق في اليوم الشاتي إذا أوحى الله إليه.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، عن مَعْمَر، عن هشام بن عروة، عن أبيه؛ أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته، وضعت جرانها، فما تستطيع أن تحرك حتى يُسَرّى عنه. وهذا مرسل.
وقد بين تعالى أن هذا الثقل قد يخففه الله على المؤمنين كما في الصلاة في قوله {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:45-46]، وكذلك القرآن ثقيل على الكفار خفيف على المؤمنين محبب إليهم.
وقد جاء في الآثار أن بعض السلف كان يقوم الليل كله بسورة من سور القرآن تلذذا وارتياحا، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر:17]، فهو ثقيل في وزنه ثقيل في تكاليفه، ولكن يخففه الله وييسره لمن هداه ووفقه إليه.
{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} ما تنشأه من قيام الليل. أو ساعاته وأوقاته، وكل ساعة منه تسمى ناشئة.
تعليل لتخصيص زمن الليل بالقيام فيه فهي مرتبطة بجملة {قُمْ اللَّيْلَ}، أي قم الليل لأن ناشئته أشد وطئا وأقوم قيلا. والمعنى: أن في قيام الليل تزكية وتصفية لسرك وارتقاء بك إلى المراقي الملكية.
{هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا} أشد مواطأة للقلب وموافقة لما يراد منها من جمع الهم، وهدوء البال.
والمعنى: أن صلاة الليل أوفق بالمصلي بين اللسان والقلب، أي بين النطق بالألفاظ وتفهم معانيها للهدوء الذي يحصل في الليل وانقطاع الشواغل.
{وَأَقْوَمُ} الأفضل في التقوي الذي هو عدم الاعوجاج والالتواء واستعير {أقوم} للأفضل الأنفع.
{قِيلًا} في التلاوة والتدبر والتأمل وبالتالي بالتأثر.. ففيه إرشاد إلى ما يقابل هذا الثقل فيما سيلقى عليه من القول فهو بمثابة التوجيه إلى ما يتزود به لتحمل ثقل أعباء الدعوة والرسالة.
والمقصود أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان، وأجمع على التلاوة، وأجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار؛ لأنه وقت انتشار الناس ولَغَط الأصوات وأوقات المعاش.
قال ابن قتيبة: لأن الليل تهدأ فيه الأصوات، وتنقطع فيه الحركات، ويخلص القول، ولا يكون دون تسمّعه وتفهمه حائل.
وقال أهل العلم: لا يثبت القرآن في الصدر ولا يسهل حفظه وييسر فهمه إلا القيام به من جوف الليل.
ونقل السيوطي عن الجاحظ قال: ناشئة الليل هي المعاني المستنبطة من القرآن بالليل، أشد وطأً أبين أثراً. وأقوم قيلاً، أصحُّ مما تخرجه الأفكار بالنهار، لخلوّ السمع والبصر عن الاشتغال.
{إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} تقلباً في مهماتك، واشتغالاً بها، فلذا أمرت بقيام الليل.
والسبح: أصله العوم، أي السلوك بالجسم في ماء كثير، وهو مستعار هنا للتصرف السهل المتسع الذي يشبه حركة السابح في الماء فإنه لا يعترضه ما يعوق جولانه على وجه الماء ولا إعياء السير في الأرض.
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} دم على ذكره ليلاً ونهاراً.. وانقطع إليه، وتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك، وما تحتاج إليه من أمور دنياك، كما قال: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح:7] أي: إذا فرغت من مهامك فانصب في طاعته وعبَادَته، لتكون فارغ البال.
قال الزمخشري: وذكر الله يتناول كل ما كان من ذكرٍ طيب: تسبيح وتهليل وتكبير وتمجيد وتوحيد وصلاة وتلاوة قرآن، ودراسة علم، وغير ذلك مما كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يستغرق به ساعات ليله ونهاره.
وقصد بإطلاق الأمر عن تعيين زمان إلى إفادة تعميمه، أي ذكر اسم ربك في الليل وفي النهار، كقوله: {وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الإنسان:25].
وإقحام كلمة {اسم} لأن المأمور به ذكر اللسان وهو الجامع للتذكر بالعقل لأن الألفاظ تجري على حسب ما في النفس، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ} [الأعراف:205].
{وَتَبَتَّلْ} والتبتل: الانقطاع وهو هنا انقطاع مجازي، أي تفرغ البال والفكر إلى ما يرضي الله، فكأنه انقطع عن الناس وانحاز إلى جانب الله فعدي بـ "إلى" الدالة على الانتهاء.
قال ابن جرير: يقال للعابد: متبتل، ومنه الحديث المروي: "أنه نهى عن التَّبتُّل"، يعني: الانقطاع إلى العبادة وترك التزوج.
{إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} أخلص إليه بتجريد النفس عن غيره، إخلاصاً عظيماً.. فالجمع بين {تبتل} و {تبتيلا} مشير إلى إراضة النفس على ذلك التبتل. وفيه مع ذلك وفاء برعي الفواصل التي قبله.
والمراد بالانقطاع المأمور به انقطاع خاص وهو الانقطاع عن الأعمال التي تمنعه من قيام الليل ومهام النهار في نشر الدعوة ومحاجة المشركين، ولذلك قيل {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ} أي إلى الله، فكل عمل يقوم به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أعمال الحياة فهو لدين الله فإن طعامه وشرابه ونومه وشؤونه للاستعانة على نشر دين الله. وكذلك منعشات الروح البريئة من الإثم مثل الطيب، وتزوج النساء، والأنس إلى أهله وأبنائه وذويه، وقد قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّمَا حُبِّبَ إِلِيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ) [البيهقي في سننه، وصححه الألباني في صحيح الجامع].
وليس هو التبتل المفضي إلى الرهبانية وهو الإعراض عن النساء وعن تدبير أمور الحياة لأن ذلك لا يلاقي صفة الرسالة.
وفي حديث سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا [البخاري ومسلم] يعني رد عليه استشارته في الإعراض عن النساء.
ومن أكبر التبتل إلى الله الانقطاع عن الإشراك، وهو معنى الحنيفية، ولذلك عقب قوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} بقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}.
{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} ووصف الله بأنه {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} لمناسبة الأمر بذكره في الليل وذكره في النهار، وهما وقتا ابتداء غياب الشمس وطلوعها، وذلك يشعر بامتداد كل زمان منهما إلى أن يأتي ضده؛ فيصح أن يكون المشرق والمغرب جهتي الشروق والغروب فيكون لاستيعاب جهات الأرض، أي رب جميع العالم وذلك يشعر بوقتي الشروق والغروب.
ويصح أن يراد بهما وقتا الشروق والغروب أي مبدأ ذينك الوقتين ومنتهاهما، كما يقال: سبحوا الله كل مشرق شمس، وكما يقال: صلاة المغرب.
{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} الإخبار عنه أو بوصفه بأنه {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} لأن تفرده بالإلهية بمنزلة النتيجة لربوبية المشرق والمغرب، فلما كانت ربوبيته للعالم لا ينازع فيها المشركون أعقبت بما يقتضي إبطال دعوى المشركين تعدد الآلهة بقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} تعريضا بهم في أثناء الكلام، وإن كان الكلام مسوقا إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ولذلك فرع عليه قوله:
{فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} فهو المالك المتصرف في المشارق والمغارب لا إله إلا هو، وكما أفردته بالعبادة فأفرده بالتوكل، وأن تكل إليه مهامك، فإنه سيكفيكها. كما قال في الآية الأخرى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123]
وإذا كان الأمر باتخاذ وكيلا مسببا عن كونه «لا إله إلا هو» كان ذلك في قوة النهي عن اتخاذ وكيل غيره، إذ ليس غيره بأهل لاتخاذه وكيلا.
والوكيل: الذي يوكل إليه الأمور، أي يفوض إلى تصرفه، ومن أهم التفويض أمر الانتصار لمن توكل عليه، وهذا تكفل بالنصر ولذلك عقب بقوله:
{وَاصْبِرْ} والمناسبة أن الصبر على الأذى يستعان عليه بالتوكل على الله.
{عَلَى مَا يَقُولُونَ} من الأذى والفَرْي.. عائد إلى المشركين.
وقد مضى في السور التي نزلت قبل سورة المزمل مقالات أذى من المشركين لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ففي سورة العلق: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [9-10]. قيل هو أبو جهل تهدد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لئن صلى في المسجد الحرام ليفعلن ويفعلن.
وفيها: {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6-7]. قيل هو الأخنس بن شريق تنكر لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد أن كان حليفه.
وفي سورة القلم: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} إلى قوله: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ، بِأَيِّيكُمْ الْمَفْتُونُ}، وقوله: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ} إلى قوله: {قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم:2-15] ردا لمقالاتهم.
وفي سورة المدثر [11-25] إن كانت نزلت قبل سورة المزمل: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} إلى قوله: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ}، قيل: قائل ذلك الوليد بن المغيرة.
فلذلك أمر الله رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالصبر على ما يقولون.
{وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} وهو الذي لا عتاب معه، والإعراض عن مكافأتهم بالمثل، كما قال تعالى: {وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأحزاب:48]
والهجر الجميل: هو «الحسن في نوعه»، فإن الأحوال والمعاني منها حسن ومنها قبيح في نوعه، وقد يقال: كريم، وذميم، وخالص، وكدر، ويعرض الوصف للنوع بما من شأنه أن يقترن به من عوارض تناسب حقيقة النوع فإذا جردت الحقيقة عن الأعراض التي قد تتعلق بها كان نوعه خالصا، وإذا ألصق بالحقيقة ما ليس من خصائصها كان النوع مكدرا قبيحا، وقد أشار إلى هذا قوله تعالى: {لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264]. وقوله تعالى: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ}[النمل:29]، ومن هذا المعنى قوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف:18]، وقوله: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].
فالهجر الجميل هو الذي يقتصر صاحبه على حقيقة الهجر، وهو ترك المخالطة فلا يقرنها بجفاء آخر أو أذى، ولما كان الهجر ينشأ عن بغض المهجور، أو كراهية أعماله كان معرضا لأن يتعلق به أذى من سب أو ضرب أو نحو ذلك. فأمر الله رسوله بهجر المشركين هجرا جميلا، أي أن يهجرهم ولا يزيد على هجرهم سبا أو انتقاما.
وهذا الهجر: هو إمساك النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن مكافاتهم بمثل ما يقولونه مما أشار إليه قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ}.
وليس منسحبا على الدعوة للدين فإنها مستمرة ولكنها تبليغ عن الله تعالى فلا ينسب إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)
{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} دعني وإياهم، أي لا تهتم بتكذيبهم ولا تشتغل بتكرير الرد عليهم ولا تغضب ولا تسبهم، وكِل أمرهم إليّ، فإن بي غنيمة عنك في الانتقام منهم.
والمكذبون هم من عناهم بضمير {يقولون} و {اهجرهم}، وهم المكذبون للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أهل مكة، فهو إظهار في مقام الإضمار لإفادة أن التكذيب هو سبب هذا التهديد.
{أُولِي النَّعْمَةِ} المتنعمين المترفين أصحابَ الأموال، فإنهم على الطاعة أقدر من غيرهم وهم يطالبون من الحقوق بما ليس عند غيرهم، يريد صناديد قريش ومترفيهم.
وفي هذا الوصف تعريض بالتهكم، لأنهم كانوا يعدون سعة العيش ووفرة المال كمالا، وكانوا يعيرون الذين آمنوا بالخصاصة.
و {النَّعْمَةِ} اسم للترفه، وجمعها أَنعُم. وأما النِعْمة فاسم للحالة الملائمة لرغبة الإنسان من عافية وأمن ورزق، ونحو ذلك من الرغائب. وجمعها: نِعَم.
وجعلهم ذوي النَعمة للإشارة إلى قصارى حظهم في هذه الحياة هي النَعمة، أي الانطلاق في العيش بلا ضيق، والاستظلال بالبيوت والجنات، والإقبال على لذيذ الطعوم ولذائذ الانبساط إلى النساء والخمر والميسر، وهم معرضون عن كمالات النفس ولذة الاهتداء والمعرفة، قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] وتعريف {النَعمة} للعهد.
{وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} تمهل عليهم زماناً، أو إمهالاً قليلاً. كما قال: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان:24]؛ ولهذا قال هاهنا:
{إِنَّ} نون العظمة {لَدَيْنَا أَنْكَالًا} قيوداً ثقالا {وَجَحِيمًا} نار شديدة الحرّ والاتّقاد.
{وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ} يغصُّ به آكله فلا يسيغه لبشاعته، وحقيقته: تردد الطعام والشراب في الحلق بحيث لا يسيغه الحلق من مرض أو حزن وعبرة.
قال ابن عباس: "ينشب في الحلق فلا يدخل ولا يخرج".
{وَعَذَابًا أَلِيمًا} مقابل ما في النَعمة من ملاذ البشر، فإن الألم ضد اللذة. وقد عرف الحكماء اللذة بأنها الخلاص من الألم.
أي: ونوعاً آخر من أنواع العذاب مؤلماً لا يعرف كنهه. فلا ترى موكولاً إليه أمرهم ينتقم منهم بمثل ذلك الانتقام.
وهذا تعليل لجملة {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ}، أي لأن لدينا ما هو أشد عليهم من ردك عليهم، وهذا التعليل أفاد تهديدهم بأن هذه النقم أعدت لهم لأنها لما كانت من خزائن نقمة الله تعالى كانت بحيث يضعها الله في المواضع المستأهلة لها، وهم الذين بدلوا نعمة الله كفرا، فأعد الله ما يكون عليهم في الحياة الأبدية ضدا لأصول النعمة التي خولوها، فبطروا بها وقابلوا المنعم بالكفران.
فالأنكال مقابل كفرانهم بنعمة الصحة والمقدرة لأن الأنكال القيود.
والجحيم: هو نار جهنم مقابل ما كانوا عليه من لذة الاستظلال والتبرد.
والطعام ذو الغصة: مقابل ما كانوا منهمكين فيه من أطعمتهم الهنيئة من الثمرات والمطبوخات والصيد.
{يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} تضطرب وترتجّ بالزلزلة. والمراد: الرجف المتكرر المستمر، وهو الذي يكون به انفراط أجزاء الأرض وانحلالها.
{وَكَانَتِ} للإشارة إلى تحقيق وقوعه حتى كأنه وقع في الماضي.
ووجه مخالفته لأسلوب {تَرْجُفُ} أن صيرورة الجبال كثبا أمر عجيب غير معتاد، فلعله يستبعده السامعون، وأما رجف الأرض فهو معروف، إلا أن هذا الرجف الموعود به أعظم ما عرف جنسه.
{الْجِبَالُ كَثِيبًا} الرمل المجتمع كالربوة {مَهِيلًا} متفرقاً منثوراً.. تصير الجبال ككثبان الرمل بعد ما كانت حجارة صماء، ثم إنها تنسف نسفا فلا يبقى منها شيء إلا ذهب، حتى تصير الأرض قاعًا [منبسطا] صفصفا [مستوية ملساء لا نبات فيها]، لا ترى فيها عوجًا [واديا أو انخفاضا]، ولا أمتا [رابية أو ارتفاعا]، ومعناه: لا شيء ينخفض ولا شيء يرتفع.
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)
{إِنَّا} أكد الخبر بـ "إن" لأن المخاطبين منكرون أن الله أرسل إليهم رسولا.
{أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا} نقل الكلام إلى مخاطبة المشركين بعد أن كان الخطاب موجها إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والمناسبة لذلك التخلص إلى وعيدهم بعد أن أمره بالصبر على ما يقولون وهجرهم هجرا جميلا.
والمقصود من هذا الخبر التعريض بالتهديد أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم ممن كذبوا الرسل فهو مثل مضروب للمشركين.
وهذا أول مثل ضربه الله للمشركين للتهديد بمصير أمثالهم على قول الجمهور في نزول هذه السورة.
واختير لهم ضرب المثل بفرعون مع موسى -عليه السلام-، لأن الجامع بين حال أهل مكة وحال أهل مصر في سبب الإعراض عن دعوة الرسول وهو مجموع ما هم عليه من عبادة غير الله، وما يملأ نفوسهم من التكبر والتعاظم على الرسول المبعوث إليهم بزعمهم أن مثلهم لا يطع مثله، كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون:47] وقد قال أهل مكة: {لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] وقد حكى الله عنهم أنهم قالوا: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان:21].
{شَاهِدًا عَلَيْكُمْ} بأعمالكم بإجابة من أجاب وإباء من أبى.
أو الشهادة بتبليغ ما أراده الله من الناس.
{كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} يدعوه إلى الحق.
ونكر {رسولا} لأنهم يعلمون المعْنِيِّ به في هذا الكلام، ولأن مناط التهديد والتنظير ليس شخص الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بل هو صفة الإرسال.
{فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} في إظهار اسم فرعون دون أن يؤتى بضميره للنداء عليه بفظاعة عصيانه الرسول.
ولما جرى ذكر الرسول المرسل إلى فرعون أول مرة جيء به في ذكره ثاني مرة معرفا بلام العهد وهو العهد الذكري، أي الرسول المذكور آنفا فإن النكرة إذا أعيدت معرفة باللام كان مدلولها عين الأولى.
{فَأَخَذْنَاهُ} أزالهم من الحياة {أَخْذًا وَبِيلًا} ثقيلاً شديد السوء، وذلك بإهلاكه ومن معه، غرقاً في اليم.. من وبل المكان، إذا وخم هواؤه أو مرعى كلأه.
وأنتم أولى بالهلاك والدمار إن كذبتم؛ لأن رسولكم أشرف وأعظم من موسى بن عمران.
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)
{فَكَيْفَ} الاستفهام مستعمل في التعجيز والتوبيخ.
{تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ} كيف تقون أنفسكم إن بقيتم على كفركم، ولم تؤمنوا بالحق، يوم القيامة، وحاله في الهول ما ذكر.
ففعل الشرط من قوله: {إِنْ كَفَرْتُمْ} مستعمل في معنى: «الدوام على الكفر» وإلا فإن كفرهم حاصل من قبل نزول هذه الآية.
وقد انتقل بهم من التهديد بالأخذ في الدنيا المستفاد من تمثيل حالهم بحال فرعون مع موسى إلى الوعيد بعقاب أشد وهو عذاب يوم القيامة، وقد نشأ هذا الاستفهام عن اعتبارهم أهل اتعاظ وخوف من الوعيد بما حل بأمثالهم مما شأنه أن يثير فيهم تفكيرا من النجاة من الوقوع فيما هددوا به، وأنهم إن كانوا أهل جلادة على تحمل عذاب الدنيا فماذا يصنعون في اتقاء عذاب الآخرة، فدلت فاء التفريع واسم الاستفهام على هذا المعنى.
وهو متفرع بالفاء على ما تضمنه الخطاب السابق من التهديد على تكذيب الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وما أدمج فيه من التسجيل بأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شاهد عليهم فليس بعد الشهادة إلا المؤاخذة بما شهد به.
{يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} من شدة أهواله وزلازله وبلابله، وذلك حين يقول الله لآدم: ابعث بعث النار. فيقول مِن كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة.
فهو وصف له باعتبار ما يقع فيه من الأهوال والأحزان، لأنه شاع أن الهم مما يسرع به الشيب فلما أريد وصفهم هم ذلك اليوم بالشدة البالغة أقواها أسند إليه بشيب الولدان الذين شعرهم في أول سواده. وهذه مبالغة عجيبة وهي من مبتكرات القرآن. ولا يوجد هذا المعنى في كلام العرب.
{السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} ارتقاء في وصف اليوم بحدوث الأهوال فيه فإن انفطار السماء أشد هولا ورعبا مما كني عنه بجملة {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً}. أي السماء على عظمها وسمكها تنفطر لذلك اليوم فما ظنكم بأنفسكم وأمثالكم من الخلائق فيه.
والانفطار: التشقق الذي يحدث في السماء لنزول الملائكة وصعودهم بسببه من شدته وهوله.
قال الزمخشريّ: وصف لليوم بالشدة أيضاً. وأن السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه، فما ظنك بغيرها من الخلائق؟!
وإنما لم تؤنث الصفة لأنها على النسب، أي: ذات انفطار، نحو: مرضع وحائض.
{كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} واقعًا لا محالة، وكائنا لا محيد عنه. لأنه لا يخلف وعده، فاحذروا ذلك اليوم.
{إِنَّ} تأكيد الكلام بحرف التأكيد لأن المواجهين به ابتداء هم منكرون كون القرآن تذكرة وهدى، فإنهم كذبوا بأنه من عند الله ووسموه بالسحر وبالأساطير، وذلك من أقوالهم التي أرشد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الصبر عليها قال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل:10].
{هَذِهِ} الآيات الناطقة بالوعيد الشديد {تَذْكِرَةٌ} موعظة لأنها تذكر الغافل عن سوء العواقب، وهذا تنويه بآيات القرآن وتجديد للتحريض على التدبر فيه والتفكر على طريقة التعريض.
والآية تذييل، أي: تذكرة لمن يتذكر، فإن كان من منكري البعث آمن به، وإن كان مؤمنا استفاق من بعض الغفلة التي تعرض للمؤمن فاستدرك ما فاته، وبهذا العموم الشامل لأحوال المتحدث عنهم وأحوال غيرهم كانت الجملة تذييلا.
وفرع على هذا التحريض التعريضي تحريض صريح بقوله:
{فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} أي من كان يريد أن يتخذ إلى ربه سبيلا بالإيمان به، والعمل بطاعته فقد تهيأ له اتخاذ السبيل إلى الله بهذه التذكرة فلم تبق للمتغافل معذرة.
أي: ممن شاء الله هدايته، كما قيده في السورة الأخرى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30].
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى} أقرب {مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} تتهجد فيه هذه التارات المختلفة، وتتشمر للعبادة فيه هذا التشمر امتثالاً لأمره وتبتلاً إليه.
وفيه ما يشعر بالثناء عليه لوفائه بحق القيام الذي أمر به.
وتأكيد الخبر بـ {إن} للاهتمام به، وهو كناية عن أنه أرضى ربه بذلك، وتوطئة للتخفيف الذي سيذكر في قوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} ليعلم أنه تخفيف رحمة وكرامة، ولإفراغ بعض الوقت من النهار للعمل والجهاد.
وجاء قوله {يعلم} بالمضارع للدلالة على استمرار ذلك العلم وتجدده إيذان بأنه بمحمل الرضا منه.
{وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} معية الانتساب والصحبة والموافقة.
{وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} يجعلهما على مقادير يجريان عليها، فتارة يعتدلان، وتارة يزيد أحدهما في الآخر، وبالعكس مما يشق لأجله المواظبة على قيامه بما علمه منكم.
{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} والإحصاء حقيقته: معرفة عدد شيء معدود، مشتق من اسم الحصى جمع حصاة لأنهم كانوا إذا عدوا شيئا كثيرا جعلوا لكل واحد حصاة.
وهو هنا مستعار للإطاقة. شبهت الأفعال الكثيرة من ركوع وسجود وقراءة في قيام الليل، بالأشياء المعدودة. ومنه قوله في الحديث (اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا) [ابن ماجة] أي ولن تطيقوا تمام الاستقامة، أي فخذوا منها بقدر الطاقة.
والضمير في {تحصوه} عائد إلى القيام الفرض الذي أوجبه عليكم من قيام الليل على النحو الذي دأبتم عليه، أو قيام الليل كله، للحرج والعسر.
{فَتَابَ عَلَيْكُمْ} عاد عليكم باليسر ورفع الحرج.
قيل كان فرضا عليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقيام من قام من المسلمين معه بمكة إنما كان تأسيا به، وأقرهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم خفف هذا كله بقوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} ولكنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا عمل عملا داوم عليه، فكان يقوم الليل شكرا لله، كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- (أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا) [البخاري ومسلم]، وبقي سنة لغيره بقدر ما يتيسر لهم والله تعالى أعلم.
{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} فصلوا ما تيسر لكم في صلاة الليل بلا تقدير. وعبر عن الصلاة بالقراءة، كما قال في سورة سبحان: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أي: بقراءتك {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء:110] وكقوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] أي صلاة الفجر، وفي الكناية عن الصلاة بالقرآن جمع بين الترغيب في القيام والترغيب في تلاوة القرآن فيه بطريقة الإيجاز.
أو المراد: لا تتجاوزوا ما قدره لكم، رحمة بأنفسكم.. وفيه رد من غلوهم في قيام الليل كله، أو الحرص عليه، شوقاً إلى العبادة، وسبقاً إلى الكمالات.
قال مقاتل: كان الرجل يصلي الليل كله، مخافة أن لا يصيب مما أُمر به من قيام ما فرض عليه.
قال ابن كثير: وقد استدل أصحاب الإمام أبي حنيفة -رحمه الله- بهذه الآية، وهي قوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} على أنه لا يتعين قراءة الفاتحة في الصلاة، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن، ولو بآية، أجزأه؛ واعتضدوا بحديث المسيء صلاته الذي في الصحيحين: (إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ).
وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصامت -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وهو في الصحيحين أيضا: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ، فهي خِدَاج، فهي خِدَاج، غير تمام). وفي صحيح ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعًا: (لا تجزئ صلاة من لم يقرأ بأم القرآن).
وقد نسخت هذه الآية تحديد مدة قيام الليل بنصفه أو أزيد أو أقل ثلثه، وأصبح التحديد بالمقدار المتيسر من غير ضابط.
{عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ} ذوو أعذار في ترك قيام الليل، من {مَرْضَى} يضعفهم المرض عن قيام الليل.
{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ} للتجارة وغيرها، فيقعدهم ذلك عن قيام الليل.
{يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} والابتغاء من فضل الله «طلب الرزق» كما قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] أي التجارة في مدة الحج.
روي عن ابن مسعود أنه قال: "أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين، محتسبا، فباعه بسعر يومه، كان له عند الله منزلة الشهداء، وقرأ {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}".
وعن ابن عمر: "ما خلق الله موتا بعد الموت في سبيل الله أحب إلي من أن أموت بين شعبتي رحلي أبتغي من فضل الله ضاربا في الأرض".
{وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لنصرة الدين، فلا يتفرّغون للقيام في الليل.. وهذه الآية -بل السورة كلها-مكية، ولم يكن القتال شُرع بعد، فهي من أكبر دلائل النبوة، لأنه من باب الإخبار بالمغيبات المستقبلة.
وهذه حكمة نسخ تحديد الوقت في قيام الليل، وهي مراعاة أحوال طرأت على المسلمين من ضروب ما تدعو إليه حالة الجماعة الإسلامية. وذكر من ذلك ثلاثة أضرب هي أصول الأعذار:
الضرب الأول: أعذار اختلال الصحة، وقد شملها قوله: {أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى}.
الضرب الثاني: الأشغال التي تدعو إليها ضرورة العيش في تجارة وصناعة وحراثة وغير ذلك، وقد أشار إليها قوله: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}. وفضل الله هو الرزق.
الضرب الثالث: أعمال لمصالح الأمة، وأشار إليه بقوله: {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ودخل في ذلك حراسة الثغور والرباط بها، وتدبير الجيوش، وما يرجع إلى نشر دعوة الإسلام من إيفاد الوفود وبعث السفراء.
وهذا كله من شؤون الأمة على الإجمال فيدخل في بعضها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما في القتال في سبيل الله، والمرض ففي الحديث اشتكى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلم يقيم ليلة أو ليلتين.
{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} قوموا بما تيسر عليكم من القرآن، ولا تحرّجوا أنفسكم، لأنه تعالى يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.
وروى أحمد -بسند صحيح- عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَقَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ هَذِهِ السُّورَةَ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: "فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ حَوْلًا حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ، وَأَمْسَكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ خَاتِمَتَهَا فِي السَّمَاءِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ التَّخْفِيفَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَصَارَ قِيَامُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَطَوُّعًا مِنْ بَعْدِ فَرِيضَتِهِ".
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن أبي رجاء محمد، قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد، ما تقول في رجل قد استظهر القرآن كله عن ظهر قلبه، ولا يقوم به، إنما يصلي المكتوبة؟ قال: يتوسَّدُ القرآن، لعن الله ذاك، قال الله تعالى للعبد الصالح: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف:68] {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} [الأنعام:91]
قلت: يا أبا سعيد، قال الله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}؟ قال: نعم، ولو خمس آيات.
وهذا ظاهر من مذهب الحسن البصري: أنه كان يرى حقًا واجبًا على حَمَلة القرآن أن يقوموا ولو بشيء منه في الليل.
وفي السنن: (إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ أَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ) [ابن ماجة]
وقال الترمذي في سسنه: "وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (أَوْتِرُوا يَا أَهْلَ القُرْآنِ)، قَالَ: إِنَّمَا عَنَى بِهِ قِيَامَ اللَّيْلِ، يَقُولُ: إِنَّمَا قِيَامُ اللَّيْلِ عَلَى أَصْحَابِ القُرْآنِ".
وفي الحديث الآخر: (مَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا) [حسن لغيره، رواه أحمد]
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} وفي هذا التعقيب بعطف الأمر بإقامة الصلاة إيماء إلى أن في الصلوات الخمس ما يرفع التبعة عن المؤمنين، وأن قيام الليل نافلة لهم، وفيه خير كثير، وقد تضافرت الآثار على هذا مما هو في كتب السنة.
{وَآتُوا الزَّكَاةَ} زكاة أموالكم المفروضة.. تتميم لأن الغالب أنه لم يحل ذكر الصلاة من ذكر الزكاة معها حتى استنبط أبو بكر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- من ذلك أن مانع الزكاة يقاتل عليها، فقال لعمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ".
قال ابن كثير: وهذا يدل لمن قال بأن فرض الزكاة نزل بمكة، لكن مقادير النصب والمخرج لم تبين إلا بالمدينة.
{وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} يعني به بذل المال في سبيل الخيرات على أحسن وجه، ويكون من أطيب المال، وإعطاءه للمستحق من غير تأخير، واتقاء المنّ والأذى.
{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ} في الدنيا من صدقة أو نفقة في وجوه الخير، أو عمل بطاعة الله، أو غير ذلك من أعمال البر.
{تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا} اسم تفضيل، أي خيرا مما تقدمونه إذ ليس المراد أنكم تجدونه من جنس الخير، بل المراد مضاعفة الجزاء، لما دل عليه قوله تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} [التغابن:17] وغير ذلك من كثير من الآيات.
{وَأَعْظَمَ أَجْرًا} تأكيد، أي: وأعظم ثواباً مما عندكم من متاع الدنيا.
وفي البخاري « باب ما قدم من ماله فهو له» عن عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ [أي ابن مسعود] قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟) قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ قَالَ: (فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ)
أي إن الذي يخلفه الإنسان من المال، وان كان هو في الحال منسوبا إليه، فإنه باعتبار انتقاله إلى وارثه يكون منسوبا للوارث، فنسبته للمالك في حياته حقيقية، ونسبته للوارث في حياة المورث مجازية ومن بعد موته حقيقية.
قوله: (فان ماله ما قدم) أي هو الذي يضاف إليه في الحياة وبعد الموت بخلاف المال الذي يخلفه.
{وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} سلوه غفران ذنوبكم وأكثروا من استغفاره.
{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ذو مغفرة لذنوب من تاب إليه وأناب، ورحمة أن يعاقبكم عليها بعد توبتهم منها.
يجوز أن تكون الواو للعطف فيكون معطوفا على جملة {وَمَا تُقَدِّمُوا ِلأَنْفُسِكُمْ} الخ، فيكون لها «حكم التذييل» إرشاد لتدارك ما عسى أن يعرض من التفريط في بعض ما أمره الله بتقديمه من خير فإن ذلك يشمل الفرائض التي يقتضي التفريط في بعضها توبة منه.
ويجوز أن تكون الواو للاستئناف وتكون الجملة «استئنافا بيانيا» ناشئا عن الترخيص في ترك بعض القيام إرشادا من الله لما يسد مسد قيام الليل الذي يعرض تركه بأن يستغفر المسلم ربه إذا انتبه من أجزاء الليل، وهو مشمول لقوله تعالى: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18]
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
