الحياة الطيبة

من أراد أن يعيش حياةً طيبة سعيدة هنية، يشعر فيها بالراحة والطمأنينة، فليتقِ الله، فليتقِ الله في علاقته مع ربه.."

  • التصنيفات: نصائح ومواعظ -

من أراد أن يعيش حياةً طيبة سعيدة هنية، يشعر فيها بالراحة والطمأنينة، فليتقِ الله، فليتقِ الله في علاقته مع ربه، أدِّ - يا عبدالله - ما أوجب الله عليك بلا تهاون أو تكاسل، وسارِع في الخيرات والأعمال الصالحة والنوافل، وركِّز على ما هو أقرب إلى قلبك من الطاعات لعلك تدخل الجنة من بابها، وأحسِنِ الظن بربك، فربُّك المعطي الكريم الرحيم المتعالي، لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يرُد السائلين، بل ويحقق أماني الطالبين، فتمنَّ ما تشاء من خيرات الدنيا والآخرة، ونعيمهما وحلاوتهما وأفراحهما.

ثم اعلم أن ربك خلقَك وأنت خطَّاء تزِل وتتجاوز وتنسى، وربك يغفر ويستر ويرحم لمن استغفر وتاب وأناب، وإن الله لا يمَل حتى تمَلوا، هذه أدنى درجات الحياة الطيبة، وأما أعلاها فهو الأنس بالسباق في الخيرات علمًا وعملًا، على مستوى العبادات الربانية الخالصة؛ من صلاة ودعاء، وصوم وقراءة قرآن، وذِكرٍ وتدبُّر في فسيح الكون؛ ليستشعر المؤمن عظمة الربِّ والخالق، وعلى مستوى نفع الخلق ومعونتهم، وقضاء حوائجهم، إنها الحياة الطيبة التي يهنأ بها كل مؤمن بتعليق القلوب بربِّ الأرباب، ومُسبِّب الأسباب، ولا بد ولا مناصَ أن يعتريَ الإنسان في طريقه في هذه الدنيا من المصائب والمشاقِّ، والمتاعب والابتلاءات ما يكدِّر صفوه، لكنَّ المؤمنَ حين يُعلق قلبه بالله مقدِّر الأقدار، ومسبِّب الأسباب، وقاضي الحاجات، وكاشف الكُربات؛ يطمئن بأن مع العسر يُسرين، وأن الصبر مفتاح الفرَج، وأنه إذا ضاق الأمر اتسع، وما أطيب الحياة بالتفاؤل الطيب!

 

وإذا أراد المؤمن أن يسعَد أكثرَ ويطمئنَّ اطمئنانًا، فليُحسن علاقته بمن حوله؛ يُحسن إلى الوالدين، ويُحسن إلى الجيران والأقربين، وإلى عباد الله أجمعين، فأعلاكم عند الله منزلة أحسنكم أخلاقًا، وخيرُكم خيركم لأهله، وأحب الناس إلى الله أنفعهم للناس.

 

أيها المؤمنون: كما يأنس المؤمن بالقرب من ربه، فإنه يهنأ أيضًا بصحبة الأخيار التي تدُلُّه على ربه، فما أجمل أن يصحب المؤمن مؤمنًا؛ فيُعينه على الخيرات والقربات، ويأخذ بيديه لينتشله من وحل المعاصي والظلمات، بل ويتسابق معه ويتنافس على الطاعات!

 

أيها المسلمون: لا بد أن تجدَ من قريب أو بعيد إساءةً أو تعدِّيًا، ومن حقِّ كل إنسان أنه إذا اعتُديَ عليه، أن يعتدي على من اعتدى مَثَلًا بمثل، وسواءً بسواء، ولكن قلوب العظماء الأقوياء: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، وهذا ليس من ضعفٍ أو جبن، وإنما قوة في النفس وجلَد على سموِّ الأخلاق؛ وكفى بقوله صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» نموذجًا عمليًّا، فالمعاملة ليست بالمثل بل بالحُسنى، والبقاء ليس للأقوى بل للأنقى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149]، وقال صلى الله عليه وسلم: «رحِم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى».

 

أيها المؤمنون: لا تعذر نفسك في تجاوزك في حق الآخرين والإساءة إليهم، بل بادر بالاعتذار إليهم، وطلب السماحة منهم، فالقصاص يوم القيامة بالحسنات والسيئات، ليس هنالك من البشر أعظم جُرمًا عند الله من الكافرين والمتغطرسين والمتعالين، والله أعطاهم من نعيم الدنيا ما أعطاهم، لكن نعيم الدنيا هذا لا يساوي شيئًا ولو يسيرًا من نعيم الآخرة، فالبعض يظن أن الاعتذار عن الخطأ مهانة، ولا يعلم أنه لا يعتذر إلا الكرماء الفضلاء أصحاب الشِّيم والخُلق الحسن، فكيف تطيب النفس وتهنأ وهي على الغير متطاولةٌ؟

 

أيها الكرام: ما أجمل أن يسعى الإنسان للإصلاح في الأرض، وبذل المعروف للناس، وتقديم ما يستطيعه من خيرٍ للقريب قبل البعيد! فالهناء بالعطاء وخدمة الناس وبذل المعروف لهم، يُكسب القلب أنسًا، لكن لنعلم حين نتشارك في أمرٍ يتعلق بمصالح الناس، وليست المصالح الشخصية، فلا بد من تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وإن كانت تتعارض مع هواك، ولتُوقن - يا عبدالله - أن رأيك ليس بالضروري هو الرأي الصواب الذي يجب أن يرضَخ له الناس، فرسول الله صلى الله عليه وسلم المؤيَّد بالوحي من عند الله عز وجل كان يطلب الرأي، ويأخذ بالشورى، فيقول: «أشيروا عليَّ»، فقد تنتصر لرأيٍ يكون في نظرك هو الصواب والأحسن، وقد تدعمه بالحجج والبراهين، لكن عندما تتبادل الآراء مع أصحاب العقول الراجحة، والأفكار النيرة، والعلم الراسخ، يتبدى لك أمر آخرُ، فما أعظم أن يتنازل الشخص عن رأيه، ولا يثرب على آراء الآخرين؛ من أجل المحافظة على أن تبقى النفوس طيبةً!

 

أيها المؤمنون: قد يقيِّد الإنسان نفسه عن الخير بسبب هوًى يأسره، أو شيطان يتبعه، أو نفس أمَّارة بالسوء أو صحبة فاسدة تُضله وتغويه، وكل ذلكم يحتاج إلى مجاهدة ومثابرة، وهمة عالية تكسِر جدار الكسل والفتور والدَّعَة، وهذا لا يعني أن يشمِّر المؤمن عن ساعديه دون توازن بين الحقوق والواجبات؛ فكما أن لله عليك حقًّا، أيضًا، فلبدنك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا.

 

أيها الكرام: لحياةٍ طيبة نعيشها، لا بد أن يوطِّن الإنسان نفسه على تقبُّل الآخرين، بل واحترامهم دون طبقية أو عصبية أو حزبية؛ فإن مِن عباد الله مَن لو أقسم على الله لأبرَّه، ومن تواضع لله رفعه، وليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقِّر كبيرنا، فليس هنالك معصوم إلا من عصمهم الله، والكل عند الله سواء.

 

ثم لتعلموا - يا عباد الله، يا من يريد أن يحوز الحياة الطيبة – أن رضا الناس غاية لا تُدرك، والأرواح جنود مجنَّدة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، وطبائع الناس وعاداتهم وتقاليدهم تتنوع من مكان إلى آخر، ومن جيل إلى جيل، وأيضًا من زمان إلى زمان؛ لذا لا تهتم يا عبد الله ولا تغتمَّ، حين لا يتوافق تعاملك مع إنسان آخر، وهذا لا يعني أن تبرِّر لنفسك تجاوزك أو تعديك عليه، أو حتى على الأقل أن تملأ قلبك حقدًا أو حسدًا أو كراهيةً، فتتعب نفسك، ويحترق داخلك كمدًا وأسًى، فتُصاب بالأمراض الجسدية تأثرًا بالأمراض المعنوية؛ لذا أعظم الناس راحةً وأهنؤهم بالًا من صفت نفوسهم، وطهرت قلوبهم، وزكَت أرواحهم، فلا يحملون في قلوبهم أدران الضغينة والحنق، ولا تتوهج قلوبهم بنار الغضب والثأر، ثقةً بأن الله يدافع عن الذين آمنوا، وكفى بالله وليًّا، وكفى بالله نصيرًا.

 

أيها المؤمنون: إن الله هو الحكَم، وليس لأحدٍ أن يحكم على أحدٍ أنه في جنة أو نار إلا بحكم الله وحده، فلا نغترَّ بالمظاهر فهنالك أيضًا مخابر، فالمنافقون أشد أهل النار عذابًا وقد حسُنت مظاهرهم، فلا تُتعب نفسك يا عبدالله، ودَعِ الخلق للخالق، التقى النبي صلى الله عليه وسلم والمشركون في بعض مغازيه، فاقتتلوا، فمال كل قوم إلى عسكرهم، وفي المسلمين رجل لا يدع من المشركين شاذَّةً ولا فاذَّةً إلا اتبعها فضربها بسيفه، فقيل: يا رسول الله، ما أجزأ أحدٌ ما أجزأ فلان، فقال: «إنه من أهل النار»، فقالوا: أينا من أهل الجنة، إن كان هذا من أهل النار؟ فقال رجل من القوم: لأتبعنَّه، فإذا أسرع وأبطأ كنت معه، حتى جُرح، فاستعجل الموت، فوضع نصاب سيفه بالأرض، وذُبابه بين ثديَيه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه، فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله، فقال: «وما ذاك»؟، فأخبره، فقال: «إن الرجل لَيعمل بعمل أهل الجنة، فيما يبدو للناس، وإنه لمن أهل النار، ويعمل بعمل أهل النار، فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة»، نسأل الله أن يُصلح سرائرنا وظواهرنا، فلا يحق لنا - أيها المؤمنون - تصنيف الناس، أو حتى الإقلال من قدرهم بما نراه على ظاهرهم.

 

أيها المؤمنون: إن أعظم مديح مدح الله به الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]، ويؤثرون على أنفسهم راحتها، ويؤثرون على أنفسهم رغائبها، ويؤثرون على أنفسهم وهم يعلمون أن الله يعوِّضهم بخير في الدنيا والآخرة، فلنخرج - يا عباد الله - من الأثَرة إلى الإيثار، ومن الأنانية وحب الذات إلى بذل النفس للآخرين تضحيةً ومحبةً وودًّا؛ فالدنيا تعوَّض، والآخرة ثوابها لا يُقارَن، ولذة الدنيا لا تعدل نعيمَ الجِنان.

 

عباد الله: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كنا جلوسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة» فطلع رجل من الأنصار، تنطف لحيته من وضوئه، قد تعلَّق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد، قال النبي صلى الله عليه وسلم مثلَ ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث، قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضًا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم، تبِعه عبدالله بن عمرو بن العاص فقال: إني لاحيت أبي فأقسمت ألَّا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي، فعلتَ؟ قال: نعم، قال أنس: وكان عبدالله يحدِّث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث، فلم يرَه يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تعارَّ وتقلب على فراشه، ذكَرَ الله عز وجل وكبَّر، حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبدالله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا، فلما مضت الثلاث ليالٍ، وكدتُ أن أحقِرَ عمله، قلت: يا عبدالله، إني لم يكن بيني وبين أبي غضبٌ ولا هجر ثَم، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرارٍ: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعتَ أنت الثلاث مرار، فأردتُ أن آويَ إليك لأنظر ما عملك، فأقتدي به، فلم أرَك تعمل كثيرَ عملٍ، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت، قال: فلما وليتُ دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحدٍ من المسلمين غشًّا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه، فقال عبدالله: هذه التي بلغَت بك، وهي التي لا نُطيق)).

 

إذًا طهارة القلب - يا عباد الله - أساس كل خيرٍ، وكل برٍّ، وكل معروف، وكل فتحٍ ينزل على المرء من الله، لأن الله عندما يطَّلع علينا أثناء الأعمال، لا يطلع على الظاهر فقط، ولكن يطلع على ما في البواطن؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم- لأنه هو الذي صورها -ولا إلى أموالكم- لأنه هو الذي أعطاها -ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».

 

أيها المؤمنون: إن حبيبكم المصطفى ونبيَّكم المجتبى، بلغ العلا بكماله، كشف الدُّجى بجماله، حسُنت جميع خصاله، صلوا عليه وآله، اللهم صلِّ وسلم وزِد وبارك على حبيبنا وقدوتنا، ونبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.