الرحمة التشريعية

حين مررتُ بهذه الآيات أحسستُ أن النصّ يطرق بابًا في داخلي لا يطرقه عادةً حديثُ “الأحكام الفقهية”؛ كأن فكرة النسخ هنا تُسحب من رفّها الأصولي الفقهي الهادئ، لتوضع في قلب معركة التزكية

  • التصنيفات: - آفاق الشريعة -

حين مررتُ بهذه الآيات أحسستُ أن النصّ يطرق بابًا في داخلي لا يطرقه عادةً حديثُ “الأحكام الفقهية”؛ كأن فكرة النسخ هنا تُسحب من رفّها الأصولي الفقهي الهادئ، لتوضع في قلب معركة التزكية: معركة الثقة بالله، ومعركة تحرير الإنسان من توهّم أنه يفهم المصلحة أكثر من خالقه.

فالنسخ في هذا الموطن ليس خبرًا عن تبديل حكمٍ بحكم، بل درسٌ عميق في معنى الربوبية، وكيف تتجلّى وهي تُربّي الإنسان عبر التشريع.

ثم تأتي صيغة “ألم تعلم” كأنها صدمةٌ تربوية مقصودة؛ صدمةٌ تعيد ترتيب الأسئلة داخل الصدر قبل أن تخرج على اللسان: {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} إعادة ضبطٍ لعلاقة العبد بأسماء الله ومقتضياتها في تفاصيل حياته: إن هذا الذي يُبدّل الحكم هو القادر سبحانه، الذي يملك مآلات الأشياء كما يملك أعيانها، لتوقظ “ألم تعلم” فينا عبودية اليقين، وتستدعي من القلب علمًا كان يعرفه ثم تركه يبهت تحت ضغط التفاصيل.

ثم يتصاعد الخطاب من تقرير صفة القدرة إلى تقرير صفة الملك: {ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض}. هنا تُغلق منافذ الاعتراض النفسية؛ لأن كثيرًا من الاعتراض على الشرع يصدر من شعورٍ خفيّ بأن الإنسان يستطيع أن يشارك بعقله في معرفة المصلحة، وأنه يملك زاويةً يستطيع أن يستقل بما يصلحه ولو عارض الوحي. فتأتي الآية لتقول: هذه السماء والأرض داخل ملكه، فكيف يُتوهَّم أن مصالحك أنت خارج نطاق علمه وتدبيره؟ هذا الذي يملك الكون يملك إصلاح دنياك، ويملك التقدير، ويملك الترتيب، ويملك أن يسوقك إلى تمام العبودية بأسلم طريق.

ثم يأتي السياق الذي يكشف الفقر الإنساني في أوضح صوره: {وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير}؛ ليربط التكليف بولاية الله للعبد ونصره له. فالشريعة ليست أوامر تُلقى على ظهر الإنسان ثم يُترك، بل ولايةٌ تسوقه، ونصرةٌ تحميه، وكفايةٌ تقيه أن يتنازع مع نفسه وهو يتعبد. 

ثم ينعطف السياق ليتحدث عن مزاج السؤال لا عن السؤال نفسه؛ عن مرض السؤال الذي يتخفّى في ثوب البحث، وهو في حقيقته محاولةُ إدارةٍ للوحي! لتكون الإجابة وفق مزاج السائل: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سُئل موسى من قبل}؛ كأن القرآن يفضح منطق التفاوض مع الرسالة: أن يتحول الدين إلى سلسلة مطالب! وأن تتحول العلاقة مع الوحي إلى علاقة مختبِر لا علاقة متلقٍّ خاضعٍ لله.

ثم يأتي الختام الحاسم: {ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل}؛ لأن القضية ليست خطأً فكريًا عابرًا، بل انقلابٌ في مركز القيادة القلبية، ومنبع هذه الأسئلة اقتراحات النفس على الوحي، أسئلةٌ تتزيّن باسم الفهم وتحمل في داخلها روح المحاكمة.

وأنا أقرأ هذا كله يتجلّى لي أن هذه الآيات من أعظم مواطن الرحمة الإلهية؛ لأنها تمسك الإنسان قبل أن يسقط في حفرة الاعتراض! وتربّيه قبل أن يتخشّب قلبه بالجدل! وتعيده إلى أصولٍ ثلاثة تُصلح كل التفاصيل: قدرةٌ مطلقة، وملكٌ شامل، وولايةٌ كافية. فإذا استقرّت هذه الأصول في الداخل صار النسخ نفسه آيةَ لطف، وصار الحكم الجديد هبةً لا مواجهة، وصار السؤال في موضعه الطبيعي: سؤال هدايةٍ يطلب الطريق، لا سؤال نفسٍ تريد أن تُملِي شروطها على شريعة الله.

ومن جمالية الشرع أن حكمة الله تمسك بمصالحنا من جميع الأطراف، إحاطةً لا نراها، وحكمةً لا ندركها، ورحمةً تسبق فهمنا.

____________________________________________
الكاتب: د. محمد آل رميح