خير الأمور الوسط

أبو الفرج ابن الجوزي

رأيت نفسي كلما صفا فكرهاً، أو اتعظت بدارج، أو زارت قبور الصالحين، تتحرك همتها في طلب العزلة والإقبال على معاملة الله تعالى.

  • التصنيفات: تربية النفس -
قال الإمام ابن الجوزي في صيد الخاطر:
 خير الأمور الوسط

رأيت نفسي كلما صفا فكرهاً، أو اتعظت بدارج، أو زارت قبور الصالحين، تتحرك همتها في طلب العزلة والإقبال على معاملة الله تعالى.
فقلت لها يوماً، وقد كلمتني في ذلك: حدثيني ما مقصودك ؟ وما نهاية مطلوبك ؟.
أتراك تريدين مني أن أسكن قفراً لا أنيس به، فتفوتني صلاة الجماعة، ويضيع مني ما قد علمته لفقد من أعلمه.
وأن آكل الجشب الذي لم أتعوده، فيقع نضوي طلحاً في يومين.
وأن ألبس الخشن الذي لا أطيقه، فلا أدري من كرب محمولي من أنا ؟.
وأن أتشاغل عن طلب ذرية تتعبد بعدي مع بقاء القدرة على الطلب.
بالله ما نفعني العلم الذي بذلت فيه عمري إن وافقتك، وأنا أعرفك غلط ما وقع لك بالعلم.
اعلمي أن البدن مطية، والمطية إذا لم يرفق بها لم تصل براكبها إلى المنزل.
وليس مرادي بالرفق الإكثار من الشهوات، وإنما أعني أخذ البلغة الصالحة للبدن، فحينئذ يصفو الفكر، ويصح العقل، ويقوي الذهن.
ألا ترين إلى تأثير المعوقات عن صفاء الذهن في قوله عليه الصلاة والسلام: لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان، وقاس العلماء على ذلك الجوع وما يجري مجراه من كونه حاقناً، أو حاقباً.
وهل الطبع إلا ككلب يشغله الأكل ؟، فإذا رمي له ما يتشاغل به طاب له الأكل.
فأما الانفراد والعزلة فعن الشر لا عن الخير.
ولو كان فيها لك وقع خير لنقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم.
هيهات لقد عرفت أن أقواماً دام بهم التقلل واليبس إلى أن تغير فكرهم، وقوي الخلط السوداوي عليهم، فاستوحشوا من الناس، ومنهم من اجتمعت له من المآكل الردية أخلاط مجة، فبقي اليوم واليومين والثلاثة لا يأكل وهو يظن ذلك من أمداد اللطف، وإذا به من سوء الهضم.
وفيهم من ترقى به الخلط إلى رؤية الأشباح فيظنها الملائكة.
فالله الله في العلم، والله الله في العقل، فإن نور العقل لا ينبغي أن يتعرض لإطفائه، والعلم لا يجوز الميل إلى تنقيصه.
فإذا حفظا حفظاً وظائف الزمان، ودفعا ما يؤذي، وجلبا ما يصلح، وصارت القوانين مستقيمة في المطعم والمشرب والمخالطة.
فقالت لي النفس: فوظف لي وظيفة واحسبني مريضاً قد كتبت له شربة.
فقلت لها: قد دللتك على العلم وهو طبيب ملازم. يصف كل لحظة لكل داء يعرض دواء يلائم.
وفي الجملة ينبغي لك ملازمة تقوى الله عز وجل في المنطق والنظر، وجميع الجوارح، وتحقق الحلال في المطعم، وإيداع كل لحظة ما يصلح لها من الخير، ومناهبة الزمان في الأفضل، ومجانبة ما يؤدي إلى من نقص ربح أو وقوع خسران.
ولا تعملي عملاً إلا بعد تقديم النية.
وتأهبي لمزعج الموت فكأن قد، وما عندك من مجيئه في أي وقت يكون.
ولا تتعرضي لمصالح البدن، بل وفريها عليه وناوليه إياها على قانون الصواب، لا على مقضى الهوى، فإن إصلاح البدن سبب لإصلاح الدين.

ودعي الرعونة التي يدل عليها الجهل لا العلم، من قول النفس فلان يأكل الخل والبقل، وفلان لا ينام الليل، فاحملي ما تطيقين، وما قد علمت قوة البدن عليه.
فإن البهيمة إذا أقبلت إلى نهر أو ساقية فضربت لتقفز لم تفعل حتى تزن نفسها، فإن علمت فيها قوة الطفر طفرت وإن علمت أنها لا تطيق لم تفعل ولو قتلت.
وليس كل الأبدان تتساوى في الإطاقة، ولقد حمل أقوام من المجاهدات في بداياتهم أشياء أوجبت أمراضاً قطعتهم عن خير، وتسخطت قلوبهم بوقوعها، فعليك بالعلم. فإنه شفاء من كل داء، والله الموفق.