الإسلام ونظرته إلى الكيف لا إلى الكم

محمد سيد حسين عبد الواحد

العناصر الأساسية: 
العنصر الأول: نظرة الإسلام إلى الكؤف لا إلى الكم. 
العنصر الثاني: الإخلاص يجعل من القليل كثيراً. 
العنصر الثالث: المخلصون في ظل العرش. 
العنصر الرابع: أول من تسعر بهم النار أهل الرياء.

  • التصنيفات: التربية والأسرة المسلمة -


الموضوع: 
أما بعد فيقول رب العالمين سبحانه وتعالى: { {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا،  خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا، قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا }} [سورة الكهف] . 

أيها الإخوة الكرام: مازلنا نتحدث بفضل الله تعالى عن مواطن العظمة في الإسلام والتي بالمناسبة لا نكاد نحصيها عداً، ولا نستطيع أن نوفيها شكراً.. 

أما يومنا هذا موعدنا فيه أن نتحدث إليكم فنقول: إن من مواطن العظمة في الإسلام أنه لا ينظر إلى حجم عمل المسلم وإنما ينظر إلى درجة الإخلاص في العمل وإن شئتم فقولوا إن الإسلام لا ينظر إلى الكم وإنما ينظر إلى الكيف.. 

قال الله تعالى 
{{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} }

الأصل في قبول العمل صغيراً كان العمل أو كبيراً (أن يكون العمل خالصاً ) لوجه الكريم سبحانه وتعالى.. 

الإخلاص يجعل من القليل كثيراً، الإخلاص يجعل من الحقير عظيماً.. 

أخرج مسلم من حديث أبي  هُرَيْرَةَ قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «" مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، إِلَّا أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً، فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ "» .

متى كان العمل خالصاً لوجه الكريم سبحانه وتعالى فإن الله يباركه، متى كان العمل لله وليس لأحد آخر فيه نصيب فإن الله تعالى يقبله ولا يضيعه.. 

الإخلاص هو : سلامة النية.. 

الإخلاص هو: أن تقصد بقولك وعملك وجه الكريم سبحانه وتعالى.. 

أن يعمل الإنسان العمل وهو لا يفكر في مدح الناس ولا ينتظر ذكر الناس،  ولا ثناء الناس.. 
الإنسان المخلص يعمل العمل ويستوي عنده أن يراه الناس أو لا يرونه، الإنسان المخلص يعمل العمل ويستوي عنده أن يُعرف أو لا يُعرف .. 

ولله دره الإمام الشافعي رحمه الله فتح الله تعالى له أبواب العلم فبرع في أصولها وفروعها، برع رحمه الله في الفقه والحديث والتفسير.. 
للشافعي كتاب سماه (الرسالة) وهو أول كتاب في أصول الفقه.
وله كتاب سماه (الأم) وهو من أهم كتب الفقه الشافعي.
وله كتاب سماه (اختلاف الحديث).  وهو من أهم مراجع علم الحديث. 
وله كتاب في التفسير سماه (أحكام القرآن) وفيه التفسير الفقهي للقرآن الكريم.. 

قال الشافعي رحمه الله عن كل هذا العلم الذي جمعه وعن كل هذه الكتب التي ألفها ( وددت أن كل الناس تعلموا هذا العلم من غير أن ينسب منه شيء إليّ) هذه العبارة تشير إلى إخلاص الشافعي عليه رحمة الله.. 

( وددت أن كل الناس تعلموا هذا العلم من غير أن ينسب منه شيء إليّ).. 

وأعود فأقول: إن الإخلاص يجعل من القليل كثيراً، وإن الإخلاص يجعل من الحقير عظيماً.. 

مر أحدهم بفلاة من الأرض بكلب يلهث الثرى من العطش فسقاه فغفر الله له بذلك.. 

ومر آخر بطريق فوجد غصن شوك فنحاه جانبا حتى لا يؤذي الناس فدخل الجنة بسببه.. 

وخرجت بمنتصف الطريق (شجرة) فضيقت الشجرة على الناس ذهابهم وإيابهم ، ولما استوت على ساقها آذت الناس بفروعها وأغصانها، فتطوع رجل من الناس فجاء بالفأس فقطعها ليمنع شرها عن الناس، هذا الرجل رآه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتقلب في نعيم الجنة.. 
قال أحدهم كلمة طيبة من رضوان الله عز وجل، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه.. 

أحدهم أطعم والديه، أحدهم أنفق ماله على زوجه وولده..

أحدهم مرضت زوجته فكان وفياً لها، ومن باب حسن العشرة، طببها وعالجها وخدمها بنفسه وماله..

 مع دخول الشتاء وشدة البرد اشترى أحدهم ثياباً وكسوة للزوجة والولد.. 

يثاب العبد على كل ذلك ما دامت النية طيبة، ما دامت النية خالصة لوجه الله تعالى، ذلك ان الله تعالى ينظر إلى الكيف لا ينظر الكم، لا ينظر الإسلام إلى حجم العمل، إنما ينظر إلى درجة الإخلاص فيه .. 

قال سعد بن أبي وقاص : «عَادَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلَغَ بِي مِنَ الْوَجَعِ مَا تَرَى وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي ؟ قَالَ : " لَا ". قُلْتُ : أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ ؟ قَالَ : " لَا ". قُلْتُ : فَالثُّلُثِ ؟ قَالَ : " وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ» ".

من أشهر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلّم حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. 

من هؤلاء السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ثلاثة من المخلصين.. 
الأول: رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله.. 
والثاني: رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه.. 
والثالث:  رجل تصدق بصدقة حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه.. 
ببركة الإخلاص: هؤلاء الثلاثة مع بقية السبعة في ظل العرش يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله.. 

أيها الإخوة الكرام: الإخلاص سبب لفك الكرب، وتفريج الهم،  وإزاحة الغم، وفوق ذلك الإخلاص سبب يقي صاحبه من المهلكات والملمات..

نسأل الله بأسماءه الحسنى وصفاته العلا أن يجعلنا جميعاً من عباده المخلصين.. 

من بين الأحاديث المقبولة بعض (الإسرائيليات) التي صحت نسبتها إلى قائليها من بني إسرائيل وصحت نسبتها إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم ولذلك هي عندنا (مقبولة) حديث (الثلاثة أصحاب الغار) 
ثلاثة كانوا في الأمم من قبلنا، كان يمشون بالصحراء، فآواهم المطر والمبيت إلى (غار) فدخلوه، فبينما هم في الغار إذ سقطت من أعلى الجبل صخرة فسدت عليهم باب الغار.. 
مع طلوع الشمس ذهب الثلاثة يخرجون من الغار فوجدوا بالباب صخرة لا يستطيعون لها دفعاً، والمعنى أنهم سيموتون في غضون يوم أو يومين، فهداهم الله تعالى لأن يتوسلوا إلى الله تعالى بصالح أعمالهم أن ينجيهم الله تعالى،وأن يفرج عنهم هذه الصخرة.. 
أما أولهم: فتوسل إلى الله ببر الوالدين وقال: اللهم إن كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ. فَفَرَجَ اللَّهُ مِنْهَا فُرْجَةً، فَرَأَوْا مِنْهَا السَّمَاءَ. 
وأما الثاني: فتوسل إلى الله بالعفاف عن الحرام وقال: اللهم إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً. فَفَرَجَ لَهُمْ.. 
وأما الثالث: فتوسل إلى الله بحفظ عرق الأجر وقال: اللهم إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مَا بَقِيَ.

السؤال الآن: ما أثر هذه الأعمال الصالحة الخالصة؟ 
أثرها: أن الله تعالى خصهم بكرامة لم تكن إلا لهم.. 
سأل الأول أن يرى السماء فرآها، وسأل الثاني أن تُفرج الصخرة شيئا ففرّجت شيئاً، وأما الثالث فسأل الله تعالى أن يُفرج عنهم كل ما بقي ففرج الله له ما بقي.. 
قال النبي عليه الصلاة والسلام فَفَرَجَ اللَّهُ عنهم مَا بَقِيَ، حتى خرجوا من الغار يمشون ". 

ما نود أن نؤكد عليه يومنا هذا :  
فهو أن الأعمال لا تكون صالحة إلا إذا وافقت سنة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم.. 

وأن الأعمال لا تكون مقبولة حتى تكون خالصة لوجه الكريم سبحانه وتعالى.. 

وأن الإخلاص يجعل من القليل كثيراً وأن الإخلاص يجعل من الحقير عظيماً.. 

{{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا }}

نسأل الله بأسماءه الحسنى وصفاته العلا أن يرزقنا الإخلاص والقبول إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير.. 

الخطبة الثانية 
بقي لنا في ختام الحديث أن نقول: 
إن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً، إن الله لا يضيع عمل عامل أخلص العمل لوجه الله تعالى، إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون. 

نحن لا نشتكي ندرة العمل الصالح.. 
فالأعمال الصالحة ملئ الأسماع والأبصار، الأعمال الصالحة نراها رأي العين في كل واد.. 

نحن لا نشتكي قلة العمل، لكننا نشتكي ندرة الإخلاص، حب الشهرة وحب الظهور قصم ظهورنا، غياب الإخلاص عن أي عمل يضيّعه، حضور الرياء في أي عمل يحبطه ويفسده وقديما قالوا ( الرياء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل).. 

إذا كان الإخلاص يجعل من القليل كثيراً، فإن الرياء يجعل من جبال الحسنات هباء منثوراً، إذا كان الإخلاص يجعل من الحقير عظيماً،  فإن الرياء يجعل من العظيم حقيراً.. 

العمل يَفسد، الأجر يَحبط، الثواب يَضيع، إن غاب الإخلاص، وحضر الرياء.. 

{{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}  }

ما نود الآن التأكيد عليه هو: أن الرياء لا يفسد العمل فقط، ولا يحبط الأجر فقط، بل إن المرائين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة.. 

سأل الحكيم العليم رسوله عليه الصلاة والسلام فقال:  {{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ، فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ }}

أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير.. 

----------------------------------------------------------
جمع وترتيب : الشيخ / محمد سيد حسين عبد الواحد.
إمام وخطيب ومدرس أول .
إدارة أوقاف القناطر الخيرية.
مديرية أوقاف القليوبية . مصر