التعصب الذميم
والواجب على طلبة العلم الاستفادة من جميع المذاهب، والنظر في الدليل دون تعصب ولا حميَّة، فالحق أحق أن يتبع، فمن ظهر له صواب قول على قول لزمه اتباعه.
- التصنيفات: مسائل فقهية -
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فالله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأوجب على جميع الثقلين طاعته، ولم يوجب اتباع شخص بعينه غير النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم لها عواقب وخيمة؛ فكل بلاء واقع في الأرض فهو بسبب مخالفة الأنبياء.
ومن مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم: ترك أقواله لأقوال الأئمة المتبوعين، والتعصب لهم، والتكلف برد الأحاديث والآثار التي تخالف مذهبهم. وصار الغالب منهم يترك النظر في كتب الأحاديث والآثار، حتى صارت مصاحفهم كتب المذهب، قال أبو بكر الطرطوشي: "وجمهور المقلدين في هذا الزمان لا تجد عندهم من آثار الصحابة والتابعين كبير شيء وإنما مصحفهم مذهب إمامهم" تبصرة الحكام (1/ 29).
وبعضهم مع جهله بالحديث يسب ويقذع في ذم كتب السنة، ويضع الأحاديث المكذوبة في نصرة مذهبه، ويصد الناس عن سماع كتب الحديث وهذه بلية ما بعدها بلية، قال ابن الفرضي في ترجمة أصبغ بن خليل: " ولم يكن له عِلمٌ بالحديث، ولا معرفة بطُرقِه، بل كان يُبَاعده ويطعن على أصْحابه. وكان مُتَعصبِّاً لرأْي أصْحاب مَالك، ولابن القاسم من بَيْنهم، وبَلغ به التعصب لأصْحاَبه أن أفتعل حَدَّثناَ في تَرْك رفع اليَدين في الصَّلاة بعد الإحْرام. وَوَقف النَّاس عَلَى كذبه فيه....وكان مُعَادياً للآثار، شدِيد التَّعصب للرأي؛ سَمِعتُ مُحَمد بن أحْمد بن يَحيى يَقول: سَمِعْتُ قَاسِم بن أصْبغ يقول:
سَمِعت أصْبغ بن خَليل يَقُول: لأن يكون في تَابُوتي رأس خنزير أحَبُّ إليَّ من أن يَكون فِيه مسند ابن أبي شَيْبَة.
وسمعت أبا محمد عبد الله بن محمد بن علي يقول: سمعت قاسم بن أصبغ يدعو على أصبغ بن خليل ويقول: هو الذي حرمني أن أسمع من بقي بن مخلد.
تاريخ علماء الأندلس (1/ 93) وما بعدها.
والواجب على طلبة العلم الاستفادة من جميع المذاهب، والنظر في الدليل دون تعصب ولا حميَّة، فالحق أحق أن يتبع، فمن ظهر له صواب قول على قول لزمه اتباعه.
دع عنك آراء الرجال وقولهم....فقول رسول الله أزكى وأشرح
وهكذا كان السلف، فلم يكن أحد منه يلزم أقوال آحاد الصحابة دون غيره، بل كانوا يدورون مع الدليل حيثما دار.
قال ابن حزم: "فإذا كان الصحابة والتابعون رضي الله عنهم لا يستجيزون نسبة ما يعبدون به ربهم ولا مذاهبهم إلى أبي بكر ولا إلى عمر ولا إلى عثمان ولا إلى علي، ولا ينتسبون إلى أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بهم لو شاهدوا ما نشاهده من المصائب الهادمة للإسلام على من امتحنه الله به من الانتماء إلى مذهب فلان وفلان والإقبال على أقوال مالك وأبي حنيفة والشافعي وترك أحكام القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم ظِهريا؟! والحمد لله على تثبيته إيانا على دينه وسنته التي مضى عليها أهل الأعصار المحمودة قبل أن تحدث بدعة التقليد وتفشو وبالله نعتصم"
الإحكام في أصول الأحكام (6/ 175).
وعلى هذا: فلا يجوز تفضيل مذهب على مذهب، فالحق متفرق في المذاهب الأربعة وغير الأربعة من أقوال العلماء الموجودة في بطون كتب الفقه المقارن، فمن ابتغى الهدى وجده. وكل مذهب له أوجه وروايات توافق معتمد المذهب الآخر، ففيها حجج أخرى وأدلة ومناقشات تفيد طالب العلم.
قال الشاطبي: "اعتياد الاستدلال لمذهب واحد ربما يكسب الطالب نفورا وإنكارا لمذهب غير مذهبه، من غير إطلاع على مأخذه؛ فيورث ذلك حزازة في الاعتقاد في الأئمة، الذين أجمع الناس على فضلهم"
الموافقات (3/ 131)
وقديما كانوا يلزمون الناس بمذهب معين بقوة السلطان، ويعاقبون من خالفه أشد عقاب، قال الغبريني: "فتح الباب بالفتوى في إقليمنا بغير مذهب مالك لا يسوغ، وهذا هو الذي فعله سحنون والحارث لما وليا القضاء فرَّقا جميع حِلَق المخالفين، ومنعا الفتوى بغير مذهب مالك، فيجب على الحاكم المنع منه وتأديب المفتي به بحسب حاله بعد نهيه عن ذلك".عدة البروق (ص543).
وقال الونشريسي: "فمن خالف مذهب مالك بن أنس رحمه الله بالفتوى أو غيره و بلغني خبره أنزلت به من النكال ما يستحق...، و قد أخبرت فيما رأيت من الكتب أن مذهب مالك و أصحابه أفضل المذاهب...فكل من زاغ عن مذهب مالك فإنه ممن زين على قلبه و زين له سوء عمله... " المعيار المعرب (2 /333)
كذا قال، ونعوذ بالله من الجَور ورحم الله الأئمة الأربعة والأربعين والأربع مئة وكل علمائنا، ورزقنا اتباع الدليل مع حفظ مراتب الجميع.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبه
أحسن موسي
