رواء المدينة المنورة (1)
محمد بوقنطار
مقدمات بين يدي الوصول (الحلقة الأولى)
- التصنيفات: الطريق إلى الله -
لم يسبق لي أن ركبت الطائرة قط، غير أني سمعت عن ركوبها كثيرًا من أصدقاء خاضوا تجربة السفر على متن خطوطها في أسفار شتى؛ طاعةً كانت أو سياحةً أو عملاً. وكان المشترك بين أوصافهم جميعًا هو ذلك الشعور الذي يتسلل إلى الجسد دفعة واحدة، فيكون أشبه بقشعريرة هادئة تتغشى المرء من أخمص قدميه إلى أعلى ناصيته، وتلك هي لحظة مغادرة الطائرة مدرجها الأرضي وانفلاتها من ربقة الإخلاد إلى الأرض نحو فسحة السماء.
وما إن استقر بها التحليق حتى انفتح البصر على آفاق واسعة، فيتسلل البصر من النافذة الصغيرة الحجم ليتأمل من خلالها الناظر بديع الصنعة وإحكام الخلق، فيجد القلب ـ من حيث لا تكلّف ـ منقادا في طواعية إلى توحيد الصانع جل في علاه، وقد تلاشى ضجيج الأرض، وسكنت شواغلها، وتصاغر ثم تلاشى كل ما يدب عليها، فلم يبق إلا هذا الكون المترامي في صمته المهيب، شاهدا على الحكمة وجميل التقدير، ثم ما تفتأ في استطراد محموم أن تستسذج وتستغبي وتستبلد نظرة وصنيع أولئك الذين أنكروا في جحود فرعوني ومناكدة قارونية أن يكون لهذا الكون ولأنفسهم وسائر المخلوقات خالق بارئ صانع مصوِّر سبحانه وتعالى علوا كبير عن خرص ظنونهم.
والحقيقة أنها رحلة ـ على سموّ مقصدها ـ لم تخلُ من مشقة، إذ طال زمنها، ومع طولها يستعيد المسافر معنى قول النبي ﷺ في وصف فعل السفر وأنه: «قطعة من العذاب»، عذاب لا لما فيه من طول مكث، بل لما يلابسه من نصب وتعب وخروج عن المألوف، وقد زاد من ملحظ هذا الطول انعطاف مسار التحليق في غير ما كان ينتظر، حتى ليخيل للناظر أن الطائرة طفق ربانها يدير ظهرها للوجهة المقصودة قبل أن تعود إليها من طريق أبعد فيه ذلك القائد النجعة، وقد أخبرني أحد أصدقائي في جوابه عن سؤالي الفضولي قائلا: إن هذا المسار المفروض مردّه ليس إلى اعتبارات جوية بل لمغارم سياسية، تحول دون عبور بعض الأجواء القريبة، فيفتح للطائرة ما أُغلق من الحبيب القريب، فتسلك فضاءات البعيد الغريب، فتترك على مكرهة ما هو أقرب، مجال يقع تحت سلطان وسطوة الجار ذي الجنب، وفي هذا مفارقة تفرض نفسها على الخاطر دون استدعاء، سيما حين يجد المرء أن الطريق إلى مقصدٍ واحد قد يطول لا لسببٍ تعبدي ولا لعلة تقنية محضة، بل لتعقيداتٍ وتصلفات ومناكدات لا صلة لها بروح الرحلة ولا بغايتها.
ومع ذلك، ظلّ المعنى العزيز حاضرا في الوجدان، المعنى الذي مفاده: أن الوصول، وإن تأخر، فإن مريده يزداد شوقا، وأن التمهيد له ـ ومهما طال ـ فسيبقى جزءا من رصيد البركة المرجوة، وتلك سيرة القلوب إذا صدقت صدور أصحابها في صحيح القصد وسليم النية، فحينها ولابد لم ولن يضرها أو يغلب عزيمتها وكبير إصرارها في المضي - حيث مهوى الأفئدة - طول الطريق وبعد الشقة، فتلك ولا شك إرهاصات لا وزن لها ولا اعتبار، فهي زبد سرعان ما يذهب غثاؤه جفاء، ويتهافت أنينها على حاجز ذلك الحلول المبارك...يتبع
