(الترجيب)
فمن العجائب ما تجده من حفاوة الناس برجب، وعنايتهم بدخوله، حتى لو أنك قارنته بما دلت الأدلة على اختصاصه بفضل كمحرم وشعبان، وجدت حفاوتهم به أكثر، وتعظيمهم له أكبر.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ وعلى آله، أما بعد:
فمن العجائب ما تجده من حفاوة الناس برجب، وعنايتهم بدخوله، حتى لو أنك قارنته بما دلت الأدلة على اختصاصه بفضل كمحرم وشعبان، وجدت حفاوتهم به أكثر، وتعظيمهم له أكبر.
مع إن زيادة تعظيمه من شأن الجاهلية، فقد كان لهم فيه أحوال وتعبدات، من الصيام والدعاء على من ظلمهم، وزيادة تحريمه، حتى لقد كانوا يسمونه منصّل الأسنة، لأنهم كانوا ينصلون أسنة الرماح وينزعونها من أعمدتها.
ولقد كان شأن هذا التعظيم مبتكرًا في زمن الأمة الأول، وفي ابن أبي شيبة، ﻛﺎﻥ اﺑﻦ ﻋﻤﺮ: "ﺇﺫا ﺭﺃﻯ اﻟﻨﺎﺱ، ﻭﻣﺎ ﻳﻌﺪﻭﻥ لرجب ﻛﺮﻩ ﺫﻟﻚ".
وأما في الشريعة فليس لرجب فضيلة تخصّه إلا بكونه من الأشهر الحرم.
ولست تجد حديثًا صحيحًا صريحًا خاصًا في فضله أو في فضل طاعاته.
ففضيلة رجب في اندراجه في فضيلة الشهر الحرام -وأنعم به من فضل- وللأشهر الحرم فضيلة لا تنكر، كما سيأتي.
وكان الجاهليون العرب يزيدون فيه، ويخصونه عن غيره بما لم يأت به الله، وفي الشريعة تشوّف عظيم ألا تندغم شعائر الجاهلية في شعائره، ولو بالزيادة على أمر ذي أصل مشروع، وقد ثبت في مسلم ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ، ﻋﻦ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻗﺎﻝ: «ﻻ ﺗﺨﺘﺼﻮا ﻟﻴﻠﺔ الجمعة بقيام ﻣﻦ ﺑﻴﻦ اﻟﻠﻴﺎﻟﻲ، ﻭﻻ ﺗﺨﺼﻮا ﻳﻮﻡ الجمعة ﺑﺼﻴﺎﻡ ﻣﻦ ﺑﻴﻦ اﻷﻳﺎﻡ، ﺇﻻ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻓﻲ ﺻﻮﻡ ﻳﺼﻮﻣﻪ ﺃﺣﺪﻛﻢ»، مع أنه يوم معظّم مبارك، ولكنّ وجوه التفضيل محكومة بحدود الشريعة.
• وقد انتشر في الناس مقالة جاءت بتسمية مخترعة لرجب! وأنه يسمى الشهر الأصبّ! لأنه يصب فيه الخير صبًا!
وهي تسمية باطلة لا أصل لها، وربما تصحّفت من رجب الأصمّ، لعدم قتال الناس فيه وصممهم عن دعوة القتال، ثم لعله قد طلب من لم يعرف أصل الكلمة وجهًا لتأويل التسمية، فانفصل بذلك!
• ولا تصح الأحاديث المروية في ﻓﻀﻞ ﺻﻼﺓ اﻟﺮﻏﺎﺋﺐ ﻓﻲ ﺃﻭﻝ ﻟﻴﻠﺔ ﺟﻤﻌﺔ ﻣﻦ ﺷﻬﺮ ﺭﺟﺐ، ولا يعرف ذلك عند السلف، وإنما استحبها بعض المتأخرين من بعد القرن الخامس.
• وأحاديث الدعاء في أول ليلة من رجب لا تصح، واستحبها أكابر في الأمة كالشافعي، وإنها منه لشديدة.
• ﻭلم يثبت ﻓﻲ ﻓﻀﻞ ﺻﻮﻡ ﺭﺟﺐ حديث، إلا من جملة صيام الأشهر الحرم.
ﻭروي في السنن من حديث مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها الحث على صيام الأشهر الحرم، وﻛﺎﻥ ﺑﻌﺾ اﻟﺴﻠﻒ ﻳﺼﻮﻡ اﻷﺷﻬﺮ اﻟﺤﺮﻡ ﻛﻠﻬﺎ، كما جاء عن اﺑﻦ ﻋﻤﺮ ﻭاﻟﺤﺴﻦ ﻭأبي اﺳﺤﺎﻕ اﻟﺴﺒﻴﻌﻲ ﻭاﻟﺜﻮﺭﻱ، ذكرها عبد الرزاق وغيره.
وجاء عن أبي ﻗﻼﺑﺔ: "ﻓﻲ اﻟﺠﻨﺔ ﻗﺼﺮ ﻟﺼﻮاﻡ ﺭﺟﺐ".
ﻗﺎﻝ البيهقي: "ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻣﻮﻗﻮﻓًﺎ ﻋﻠﻰ ﺃﺑﻲ ﻗﻼﺑﺔ ﻭﻫﻮ ﻣﻦ اﻟﺘﺎﺑﻌﻴﻦ، ﻓﻤﺜﻠﻪ ﻻ ﻳﻘﻮﻝ ﺫﻟﻚ ﺇﻻ ﻋﻦ ﺑﻼﻍ ﻋﻤﻦ ﻓﻮﻗﻪ ﻣﻤﻦ ﻳﺄﺗﻴﻪ اﻟﻮﺣﻲ"، هكذا قال! ولا يخفى ما فيه.
وجاء في ابن أبي شيبة عن عمر النهي عن صومه لأنه من شعار الجاهلية، وفي مصنف عبد الرزاق عن ابن عباس كراهية صوم رجب كله، لئلا يتخذ عيدًا.
ﻭجاءت ﻛﺮاهية ذلك عن ﺃﻧﺲ ﻭﺳﻌﻴﺪ ﺑﻦ ﺟﺒﻴﺮ، وخص بعضهم الكراهة بصيامه كله، كما جاء عن أحمد، ونص أحمد على الفطر في رجب ووافقه إسحاق.
• ﻭاﺳﺘﺤﺐ الاﻋﺘﻤﺎﺭ ﻓﻲ ﺭﺟﺐ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ اﻟﺨﻄﺎﺏ وعائشة ﻭاﺑﻦ ﻋﻤﺮ والقاسم واﺑﻦ ﺳﻴﺮﻳﻦ، ولعل ذلك لأنه من الشهر الحرام، ولأنهم أرادوا الحج في نفس العام، ولهذا ثبت في ابن أبي شيبة عن أبي ﺇﺳﺤﺎﻕ، ﻭقد ﺳﺌﻞ ﻋﻦ ﻋﻤﺮﺓ ﺭﻣﻀﺎﻥ، ﻓﻘﺎﻝ: "ﺃﺩﺭﻛﺖ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﻻ ﻳﻌﺪﻟﻮﻥ ﺑﻌﻤﺮﺓ رجب، ﺛﻢ ﻳﺴﺘﻘﺒﻠﻮﻥ اﻟﺤﺞ".
• والعتيرة ذبيحة رجب، والأكثر على عدم استحبابها، واستحبها بعضهم كابن سيرين وغيره.
• وأمثل شيء في أحاديث رجب: حديث ﺃﻧﺲ أن ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ كان يقول ﺇﺫا ﺩﺧﻞ ﺭﺟﺐ: «اﻟﻠﻬﻢ ﺑﺎﺭﻙ ﻟﻨﺎ ﻓﻲ ﺭﺟﺐ ﻭﺷﻌﺒﺎﻥ ﻭﺑﻠﻐﻨﺎ ﺭﻣﻀﺎﻥ»، ومع ذلك فلا يثبت.
والعلم عند الله.
_______________________________________
الكاتب: د. محمد آل رميح
