رواء المدينة المنورة...(الحلقة الرابعة)
محمد بوقنطار
العروة الوثقى بين صلاة الحياة وصلاة الوفاة...(الحلقة الرابعة)..............................................
- التصنيفات: الطريق إلى الله -
عندما هممت بكتابة خواطر عن رحلتي إلى الديار المقدّسة
لأداء العمرة، كنت قد رسمت – في ذهني – خارطة طريق تفصل في سياق الحكي والسرد بين المقام في المدينة المنورة، والأيام التي قضيتها في مكة المكرّمة. غير أن ثمة أمورا مشتركة تأبى هذا الانفكاك، ولا تقبل الإرجاء، وهي الوقائع التي عشتها في المدينتين معا.
من ذلك – على وجه التحديد – ما اعتاده المأموم المؤذن في الحرمين الشريفين من القيام في دبر كل صلاة، دون فرق بين فجر أو جمعة أو عشاء...، ليعلن بصوت رخيم جهوري، تحمله مكبرات الصوت، فيفيض على أرجاء واسعة من المدينتين المقدستين، ويهجم على زوار المدينة في قعر فنادقهم، وعلى أهل الحي والمحلة في بيوتهم ودكانينهم:"الصلاة على الأموات والأطفال يرحمكم الله"
أو"الصلاة على الأموات والطفل يرحمكم الله"
أو:"الصلاة على الأموات يرحمكم الله".
عبارات صرنا ننتظرها لا على احتمال راجح، بل على يقين طافح.كأن علاقتها بالصلوات المفروضة علاقة لا تنفصم، حتى لكأن للمسجدين الشريفين وشائج خفية بالموت والأموات، لا تكاد ترى ولكنها تسمع وتشم كل حين.
لقد أخذت هذه النداءات عندي طابعا مزدوجا:
فهي من جهة بشير صلاة،
ومن جهة أخرى ناعي موت،
يؤذن في الناس بإقامة الصلاة على من انقطعت صلاته وعمله وأفضى إلى ما قدم، من الأموات، ومن الأطفال، ومن الطفل الواحد الذي يختزل به حزن كامل نسأل الله لوالديه الصبر والسلوان والاحتساب.
علاقة غريبة، وتجربة قشيبة لم أسبق أن عشتها في وطني، ولا حتى في مساجد المملكة المجاورة للمقابر والجبانات، حيث يبقى الموت هناك حدثا عارضا، بينما يصير هنا جزءا من الإيقاع اليومي للعبادة، حاضرا مع كل ركوع وسجود، يذكرك – بلا موعظة – أن هذا المكان لا يدرب فيه الإنسان على الحياة فحسب، بل على حسن الوداع أيضا.
إن الناس هنالك يلتمسون البركة لأمواتهم كما يرجونها هم الأحياء ونحن معهم، فيشدون الرحال و يقطعون الفيافي والخلوات ويأتون المسجدين الشريفين من كل فج عميق، يحملون أمواتهم لا يجدون في سفرهم أدنى مشقة ولا صغير مضض، وكأنهم فكوا من عقال أو تحرروا من أغلال، وكيف يجدونها وقد ترجموا محبتهم لفقيدهم بإهداء جثمانه بله روحه العزيزة صلاة جنازة لا يكاد البصر يستوعب صفوفها ولا يستطيع العاد أن يحصي النساء فيها ناهيك عن من حضرها من الرجال والولدان، وذلك الاصطفاء والتوفيق بتوسط أسباب قد سلكوها، نسأل الله القراط والقراطين والقراطات والقراطين لمن شهد الجنازة ودعا للأموات والأطفال والطفل مخلصا صادقا ولو في جهالة عين وانقطاع صلة رحم بهؤلاء الأموات آمين يا رب العالمين.
