أجد نفرة مِن مجالسة أبي، فما الحل؟
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: الأدب مع الوالدين - استشارات تربوية وأسرية -
أبي رجلٌ طيِّبٌ، لا يُقَصِّر في أي حقٍّ مِن حُقوقنا، رجلٌ بمعنى الكلمة، لكنه مُبتلى بتفكيرٍ سيئٍ، إباحيٍّ، سوء ظنٍّ، وينظر لأفعالنا نظرةَ شكٍّ ورِيبةٍ! صلاتُهُ أغلب الأوقات في البيت، مشكلاته مع والدتي كثيرةٌ لا تنتهي.
وأنا فتاةٌ مُلتزمةٌ، وأعرف حقَّ الله عليَّ، ولكن أشعُر بأني عاقَّةٌ لأبي، فأنا لا أتحدَّث معه كثيرًا، ولا أُوَجِّه إليه كلامًا، ولا أُجالسه، أشعُر بنفرةٍ داخليةٍ منه، لا أشعر بالارتياح معه وإليه، تفكيرُه دائمًا سيئٌ، ونظراتُهُ مُريبةٌ، ثم بعد ذلك يُعاتبني على إهمالي له، وعدم بِرِّي به، يُؤنبُنِي ضميري، وفي كلِّ مرة أحاول أن أهذِّبَ نفسي، أجدني أنفرُ مِن مُجالَستِه، ولا أطيق الحديث معه.أشيروا عليَّ.
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فلا يخفى عليكِ أنه ليس بمقدورِ أَحَدٍ اختيار والِدَيْهِ بحالٍ مِن الأحوال، وإنما هي من الأمور الجبرية التي لا حيلة فيها للعبد، وإنما الرضا بالقضاء والقدَر؛ شأنُ ذلك كشأنِ الموتِ، والمرضِ، والْمَلَاحةِ، والقُبْح، وغيرها من المسائل التي يُجْبَر عليها الإنسانُ، وخارجةٌ عن الإرادة، والقدرة التي توجَد في الأفعال الاختيارية، فلم يبقَ إلا الصبرُ والرضا، والتسليمُ لله تعالى الذي بَهَرتِ الْعُقُولَ حكمتُه، وعدلُه، ورحمتُه، وجَلَالُه، وَأَحَاطَ علمُه بكلِّ دقيقٍ وجليلٍ، وَشهِدت مَصنوعاتُه ومُبتدعاتُه بأنه الْخَالِقُ، البارِئُ، المصوِّرُ، الَّذِي لَيْسَ كمثلِه شَيْءٌ، أحسن كلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وأَتْقَنَ كُلَّ مَا صَنَعَهُ، وَأنَّه الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. هذا أولًا.
والأمر الآخر: لا بد أن تعلمي أن الطبائع المركوزة في النفس وإن كان يصعُبُ تغييرُها، إلا أنه لا يستحيلُ، بل هو في حيِّزِ الممكنِ، كما يسهل - أيضًا - تهذيبُها، وتعديلُها، ولكن هذا يتطلَّب صبرًا، واحتسابَ الأجرِ عند الله، ومتابعةَ محاولاتِ الإصلاحِ، والنُّصحِ، والتذكيرِ، وكلُّ هذا بطُرُقٍ غيرِ مباشرة، إلا في لحظاتٍ قليلةٍ، ولا تغفلي عن الدعاء له، والإلحاحِ في ذلك؛ فالقلوبُ بين أُصبُعَيْنِ مِن أصابِعِ الرَّحمن.
واحذري -رعاكِ اللهُ- أن يدفَعَكِ ما تجدين من والدِكِ للإساءَةِ إليه، أو عَدَمِ بِرِّهِ، أو إظهار الضَّجَرِ منه؛ فلهذه الأشياء تأثيرٌ سلبيٌّ، يزيد الأمر سوءًا، بل على العكس -تمامًا- جاهِدي نفسَكِ على التَّحَلِّي بالسِّلْمِ النفسي، وتحمُّلِ صفات الوالد، وخالِطِيهِ بِبِرٍّ، وإحسانٍ، مع إظهار الطاعة له، وَضَعِي نُصْبَ عَيْنَيْكِ قولَ الحقِّ -تبارك وتعالى-: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]، فالطاعةُ والتواضعُ والبرُّ والإحسانُ غاية الإحسانِ لَهُما فِعْلُ السِّحر في جلْبِ الحُبِّ، وتغيُّر الطِّباع، بخلافِ ما تفعلينَه من تجنُّبٍ، وعدمِ مُخالطةٍ، فَغَيِّرِي معاملتَكِ معه، وستلمَسِينَ الفارِقَ، ولتحذري الإخلالَ بحق البر، والإحسان، والطاعة، حتى ولو مع الكراهية.
واحذري -أيضًا- معاملتَه بِنِدِّيَّةٍ أو عدوانيةٍ؛ لأن الأمور بذلك ستزيد تعقيدًا؛ فضلًا عن حُرمة ذلك، ولا تَنسَيْ أنَّ هذا أبوكِ حتى وإن أَسَاءَ، فالواجبُ تحمُّلُهُ، والصبرُ عليه إلى أبْعَدِ حَدٍّ، ولا تُسمِعِيهِ كلمةً يكرهُهَا، أو تتصرفي معه تصرُّفًا يدلُّ على العُقُوق؛ فلا يَدخُلُ الجنة عاقٌّ، ولا مانع من عِتَابِهِ، ولكن قليلًا قليلًا، وَبِأَدَبٍ، ورِفْقٍ، وتَوَاضُعٍ، إن وجدتِ ذلك مناسبًا، فكما قيل: يبقى الوُدُّ ما بَقِيَ العتابُ، والعكس تمامًا؛ فترك العتابِ عتابٌ، وَأَخْشَى أن يكون والدُكِ قد شعر من تجنُّبِكِ له بشيءٍ من ذلك، فانكَسَرَ لها، فزادتْ حالتُهُ، فَتَدَارَكِي الأمرَ يرحمك الله.