الهداية
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: الطريق إلى الله -
السلام عليْكُم، ورحْمة الله وبركاته، كثيرًا ما يتبادَرُ إلى ذِهْني هذا السؤال: كيف اهْتَدَى هؤلاء؟
أجد شبابًا فجأةً أصبحوا مُلْتزمِين، وهجَروا المعاصيَ، ولزِموا المَساجِد، وأصبحوا أناسًا آخَرين، وقد كانوا قبل ذلك خلافَ ما سبقَ، مع أنَّهم كانوا يعلمون أنَّ أفعالَهم السَّابقة كانتْ خاطئة.
أمَّا بالنِّسبة لي، فأحيانًا أجِد نفسي تَرغَبُ في فِعْلِ النَّوافل وقراءةِ القُرآن، وأحيانًا يُصيبُها كسلٌ وعجز. فهلِ الإنسان يستطيعُ هداية نفسِه، أو ماذا أفعل؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فاعلمْ –أخي الكريمَ- أنَّ الإنسانَ يَمُرُّ بِمراحلَ مُختلفةٍ وأحوالٍ مُتنوِّعة، وبقاؤُه على حالٍ واحدةٍ من المُحال، وأنَّ النَّفس لها إقبالٌ وإدبارٌ؛ فتارةً تكون في سُمُوٍّ وإشراق، وتارةً تكون في دُنُوٍّ وإملاق، فهذِه حالُ البَشَر، قلَّما ترى شخصًا يعيشُ على وتيرةٍ واحدةٍ من الخير أوِ الشَّرِّ، وهذا هو حال العبدِ مع العِبادة، إمَّا أن يكونَ في حالة قوَّة ونشاط، وإمَّا أن يكون في حالة ضعفٍ وكسلٍ؛ ولذلك قال النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- لِحنظلةَ بن عامر -رضي الله عنه- يومَ أن شكا له عدَمَ ثباتِه على حالٍ من الخُشوع والإخْبات قال له: "إنَّا نكون عندك يا رسول الله، وكأنَّ على رؤُوسِنا الطَّيرَ، وإذا فارَقْناكَ عافَسْنا النِّساء، ولاعَبْنا الأولاد، فقال له رسولُ اللَّه -صلَّى الله عليْه وسلَّم-: "والَّذي نفسي بيدِه، إنْ لو تَدومونَ على ما تَكونون عندي وفي الذِّكْر، لصافَحَتْكُم الملائكةُ على فُرُشِكم، وفي طُرُقِكم، ولكن يا حنظلةُ ساعةً وساعةً" ثلاثَ مرَّات[1]. ودخل النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- ذاتَ يومٍ في المسجِد، فإذا حبلٌ مَمدودٌ بيْن سارِيَتَين، فقال: "ما هذا الحبل"، قالوا: هذا حبلٌ لزينب، فإذا فترَتْ تعلَّقتْ، فقال النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "لا، حلُّوه، ليُصَلِّ أحدُكم نشاطَه، فإذا فَتَر، فلْيَقْعُد" (صحيح مسلم).
فالفُتور بعد النَّشاط أمرٌ طبيعيٌّ، ولكن مع التَّمسُّك بالواجبات وأصول الدين، والبُعد عن المُحرَّمات، أمَّا إذا وصل إلى تَرْكِ الواجبات وفِعْلِ المُحرَّمات فالأمر خطيرٌ، كما قال النَّبيُّ-صلَّى الله عليه وسلَّم-: "إنَّ لكل عملٍ شِرَّةً، ولكلِّ شِرَّةٍ فترة، فمَنْ كانتْ فترتُه إلى سُنَّتِي فقد اهتدى، ومن كانت إلى غيْرِ ذلك فقد هلك"؛ (رواه البيهقيُّ، وهو صحيح).
وقدْ قال ابن القيم في "مدارج السالكين": "فتخلل الفترات للسالكين أمر لازم لا بد منه؛ فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض ولم تدخله في محرم، رُجيّ له أن يعود خيرًا مما كان؛ قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه-: إنَّ لهذه القلوب إقبالاً وإدبارًا، فإذا أقبلَتْ -يعني رغِبتْ في الخير- فخذوها بالنوافل، وإن أدبَرَتْ، فألزموها الفرائض.
وفي هذه الفترات والغيوم، والحجب التي تعرض للسالكين، من الحكم مالا يعلم تفصيله إلا الله وبها يتبين الصادق من الكاذب، فالكاذب ينقلب على عقبيه؛ ويعود إلى رسوم طبيعته وهواه، والصادق ينتظر الفرج ولا ييأس من روح الله، ويلقى نفسه بالباب طريحًا ذليلاً، مسكينًا مستكينًا، كالإناء الفارغ الذي لا شيء فيه البتة؛ ينتظر أن يضع فيه مالك الإناء وصانعه ما يصلح له، لا بسبب من العبد وإن كان هذا الافتقار من أعظم الأسباب، لكن ليس هو منك بل هو الذي مَنَّ عليك به، وجرَّدك منك، وأخلاك عنك، وهو الذي يحول بين المرء وقلبه؛ فإذا رأيته قد أقامكَ في هذا المقام، فاعلم أنه يريد أن يرحمك، ويملأ إناءك، فإن وضعت القلب في غير هذا الموضع، فاعلم أنه قلب مضيع؛ فسل ربه ومن هو بين أصابعه أن يرده عليك، ويجمع شملك به" .
فالواجب على العبْدِ، الذي يُصيبُه شيءٌ من الفتور أن يقِفَ مع نفسِه وقفة جادَّة، وأن يَحملها ويُجاهِدَها على الطَّاعة، ولا شكَّ أنَّ مَن جاهد نفسَه على الاستِمْرار في الطَّاعات والمُحافظة عليها يُثاب على صَبْرِه، ثُمَّ إنَّ الله -سبحانه وتعالى -سيوفِّقُه ويهديهِ الصِّراط المستقيم بإذْنِه -جل وعلا- كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17].
يقول الإمام ابن القيِّم -رحِمه الله-: "علَّق الله -سبحانه- الهداية بالجِهاد، فأكملُ النَّاس هدايةً أعظَمُهم جِهادًا، وأفرَضُ الجِهاد جهادُ النَّفس، وجهادُ الهوى، وجِهادُ الشيطان، وجهاد الدنيا، فمَن جاهد هذه الأربعةَ في الله، هداهُ الله سُبُل رضاه الموصِّلة إلى جنَّتِه، ومَن ترَكَ الجِهاد فاتَه من الهُدَى بِحَسب ما عطَّل من الجهاد". اهـ. من "الفوائد".
وأيضًا على العبد أن يَبحثَ عن الأسباب التي أدَّت به إلى الفُتور، ثُمَّ يبدأُ في علاجِها، فإن علِم الأسبابَ سهُل عليه علاجُها إنْ شاء الله، ومن أهمِّ الأسباب المؤدِّية إلى الفتور:
1 - عدَمُ تعهُّد العبد إيمانَه من حينٍ لآخَر، من حيثُ الزِّيادةُ أو النَّقص، فإنَّه بدون مُراجعة الإنسانِ نفسَه مع حال إيمانه، تتكالَبُ عليه أسبابُ الفتور من كل جانب؛ يقول أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "مِن فِقْه العبد: أن يتعاهَد إيمانَه وما نقص منه، ومِن فقه العبد أن يعلم: أيزدادُ هو أم يَنتقِص؟" .
2- تحميل الإنسان نفسَه في عبادتِه ما لا يَحتمل. فإنَّ العبدَ -وإنِ استمرَّ على فعْلِ الطَّاعة مع ثِقَلها عليه- إلا أنه سيصيبُه الفتور بعد ذلك؛ لِمُخالفته المنهجَ النبويَّ الكريم؛ وقد وصفتْ عائشةُ -رضِيَ الله عنْها- عملَه -صلَّى الله عليه وسلَّم- بأنَّه "ديمة" أي: دائمٌ غيْرُ منقطع، وأخبَرنا -صلَّى الله عليه وسلَّم- بـ "أنَّ أحبّ الأعمالِ إلى الله أدومُها وإن قلَّ" (صحيح البخاري).
لذلِك فالمؤمن ينبغي أن يأخُذَ من الأعمال ما يُطيق، حتَّى لا يُصابَ بالملل والسآمة، فيعود هذا على ترك العمل نِهائيًا، وقد ورد عَنْ عبداللهِ بْنِ عَمْرِو بنِ العَاصِ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "يَا عَبْداللهِ، لا تَكُنْ بمِثْلِ فُلانٍ؛ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ"(متَّفقٌ عليْه).
قال ابنُ حجر -رحِمه الله-: "الحَاصِل مِنْهُمَا: التَّرْغِيب فِي مُلازَمَة العِبَادَة، والطَّرِيق المُوصِل إِلَى ذَلِكَ الاقتِصَاد فِيها؛ لأَنَّ التَّشْدِيدَ فِيها قَدْ يُؤَدِّي إلى تَرْكهَا، وهُو مَذْمُوم.
ويقول الإمام الشاطبي -رحِمه الله-: "إنَّ المكلَّف لو قصد المشقَّة في عبادته، وحرَص على الوقوع فيها، حتَّى يعرِّض نفسه لمضاعفة الثواب، فإنَّه يعرِّض نفسه في واقع الأمر لبُغْضِ عبادة الله تعالى، وكراهية أحكام الشريعة، الَّتي غرس الله حبَّها في القلوب، كما يدلُّ عليْه قولُه تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7] ؛ وذلك لأنَّ النَّفس تكرهُ ما يُفْرَض عليها، إذا كان من جنس ما يشقُّ الدَّوام عليه، بِحيثُ لا يقرُب وقتُ ذلك العمل الشَّاقِّ، إلاَّ والنَّفس تشمئزُّ منه، وتودُّ لو لَم تعمل، أو تتمنَّى أنَّها لم تلتزم".
3- الجهل بِما أعدَّه الله -تعالى- للمتَّقين من الجنان، أو تَجاهُله، أو نسيانُه، والاستهانة بعذاب الله -عزَّ وجلَّ- في الدنيا والآخرة.
فالعبد الذي يغفل عما أعدَّه الله للمتَّقين تَموتُ عنده أحاسيسُ الرغبة فيه، وتضعف الهمَّة في طلبه، وإذا ما استبعد أو استهان بِحُلول النِّقمة وعذاب الله عليه في الدُّنيا والآخرة بِسبب ذنبٍ أصابَه، أو خطيئةٍ ارتكبها، تَمادى في طريقِها غيْرَ مبالٍ بنتائج هذا الفعل؛ ولذلِك فمن وضع الثَّواب نُصْبَ عينيْه، نَهض إلى العبادةِ وجدَّ فيها، ومن وضع العِقاب نُصْبَ عينيْه، صان نفسَه من الوقوع في المعاصي.
4- طول الأمل. وهذا هو قاتلُ الهِمم، ومفتِّر القُوى، قرين التَّسويف والتَّأجيل، وحبيبُ الخاملين الهامِلِين، وعدوُّ الأتقياء النابِهين. ويكفي طولَ الأمَلَ مذمَّةُ الله له؛ حيثُ قال تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}[الحجر: 3].
قال عليٌّ -رضي الله عنه-: "أخوَفُ ما أخافُ عليْكُم اتِّباع الهوى، وطولُ الأمل، فأمَّا اتِّباع الهوى، فيصدُّ عن الحقِّ، وأمَّا طول الأمل، فيُنسي الآخِرة".
5- مُصاحبة أصحاب الهِمَم الضعيفة. فكم هَدَمتْ تِلك الصحبةُ من لَبِنات الخَيْرِ في نفوس كثيرٍ من النَّاس؛ يقول النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ والسُّوءِ كَحَامِلِ المِسْكِ ونَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذيَك وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً" (صحيح البخاري).
6- الانْفِرادُ والعزلة. ففي زمَنٍ كثُرت فيه المغريات، وتنوَّعت فيه وسائلُ الشهوات، وسهلتْ فيه الخلوة بِما حُرِّم من المثيرات، أصبحتِ العُزلة وسيلةً إلى الفتور، وطريقًا إلى الخَوَر والضعف؛ لأنَّ المسلم حينما ينفرِدُ لا يعرف صوابَه من خطئه، ولا قوَّتَهُ من ضعفه، فتراه يسير متخبِّطًا في عمى بلا دليلٍ يدل، ولا حكيم يرشد، فيسهل قيادَه من الشيطان للتقصير والهوى، وإنَّما يأكل الذئبُ من الغنمِ القاصِيَةَ.
7- عدم معرفةِ الله حقَّ معرِفته، والجهل بعظمته في النُّفوس؛ فإنَّ مَن عرف الله-تعالى- بأسمائِه وصفاته، لم تَجرؤ نفسُه على التقصير في عبادته، أوِ الوقوع في معصيته.
8- الجهلُ بِرقابة الله عليْه، فمَن لم يستَشْعِر رقابة الله له في سَكَناتِه وحركاتِه، فقد نزعَ عن نفسِه لبوسَ الحياء من الخالق سبحانه، ومَن لَم يستَحِ فلْيَصْنع ما يشاء، فلا عجبَ بعد هذا إذا فتَر أو قصَّر.
9- الغفلةُ عن مُحاسبة النفس، فترى أحدَنا يسير في هذه الدنيا ولَم يَجعل على نفسِه حسيبًا، فتكثُر عثراتُه، وتتضاعفُ زلاتُه، يقول الحسنُ البصري -رحمه الله-: "إنَّ العبدَ لا يزالُ بِخيرٍ ما كان له واعظٌ من نفسه، وكانتِ المُحاسبة هِمَّته"، ويقول ميمونُ بن مِهْران: "لا يكونُ العبد تقيًّا حتَّى يكونَ لنفسِه أشدَّ مُحاسبةً من الشَّريك لشريكِه"، ولهذا قيل: "النَّفسُ كالشَّريك الخوَّان، إن لَم تُحاسِبْه ذهب بِمالك".
10-استِحْقار صغائِر الذُّنوب. فعَنْ عَبْداللهِ بنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قالَ: "إِيَّاكُمْ ومُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ على الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ، وإنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم- ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلاً كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أرْضَ فَلاةٍ، فَحَضَرَ صَنِيعُ القَوْمِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطلقُ فَيَجِيءُ بِالعُودِ، والرَّجُلُ يَجِيءُ بِالعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا، فَأَجَّجُوا نَارًا، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا" (صحيح الترغيب).
أمَّا العلاجُ الأمثَلُ لهذا الدَّاء، فهو قطْعُ العبدِ كلَّ الأسباب الَّتي سبقَ ذِكْرُها، وأن يَسْلُكَ بدلَها وسائلَ الثَّبات، ويعظم ربَّه حقَّ التَّعظيم، فيطبع هذا التعظيم على أقوالِه وأفعالِه مُتعاهِدًا لنفسِه بِالمحاسبة، وبالرفْقة الصَّالحة، وبالوعظ والتذكير، مبتعِدًا عن طرق الهوى والفِتْنة بشتَّى وسائلِها، مردِّدًا دعاءَ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "اللَّهُمَّ مُصرِّفَ القُلوب صرِّف قلوبَنا على طاعتِك" (صحيح مسلم).
وإنَّا ننصحُك بالرُّجوع إلى كتب: "وسائل الثبات" للشيخ محمد صالح المنجد، و"آفات على الطريق" للدكتور: محمد السيد نوح، "الفتور" للدكتور: ناصر العمر.
أمَّا قولُكَ: فهلِ الإنسانَ يستطيع هدايةَ نفسِه؟ فإن القدرية وهي من الفرق الجهنمية أنكرت أن يكون الله هو الفاعل للهداية، وزعمت أن العبد هو الذي يهدي نفسه!!
ومذهب أهل الحق أن جميع أفعال العبد مخلوقة لله تعالى، ومنها الهداية؛ كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: "يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم" (صحيح مسلم)، وقَال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25]، وقال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}[الأنعام: 125] ، وقال: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 178]، وأمر عباده أن يسألوه الهداية؛ كما في قَولِهِ تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6].
فالعبدَ لا يَملِكُ أن يستقلَّ بِهداية نفسِه إلا بتوفيق الله -عزَّ وجلَّ- إلا أنَّه بعد هذا التَّوفيق من الله- سُبحانه وتعالى- ينفَعُه اجتِهادُه في فِعْلِ الطَّاعات واجتناب المعاصي، وهذا هو معنَى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] أي: لنزيدنَّهم هدايةً إلى سبيلِ الخير والرَّشاد، وكقولِه تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]. وقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}[التوبة: 124].
ففر إلى الله، واصدق اللّجَأ إلَى مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إذَا دَعَاهُ، وَلتطرَح نَفْسَكَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى بَابِهِ؛ مُسْتَغِيثًا بِهِ، مُتَضَرّعًا مُتَذَلّلًا مُسْتَكِينًا، فَمَتَى وُفّقَتَ لِذَلِكَ، فَقَد قَرَعَتَ بَابَ التّوْفِيقِ. ولتعقِدْ العَزْمَ الصادقَ على غَلَبةِ الهوى والنَّفس، واستَعِنْ بالله ولا تعجِز، وواظِبْ على ما تَستطيعُ من نوافل، ولا تتأخَّر أو تقصِّر في واجبات أوجَبَها الله.
ونسألُ الله العظيمَ أن يطهِّرَ فؤادَك، وأن يرزُقَنا وإيَّاك الصلاح والاستِقامة والثبات؛ حتَّى نلقَى الله -جلَّ وعلا- وهو عنَّا راض،، آمين.
___________________________
[1] أخرجه مسلم، من حديث حنظلةَ الأُسيْدي رضي الله عنه.