أشك في أمي، فهل أنا ديوث؟
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: النهي عن البدع والمنكرات - الأدب مع الوالدين - استشارات تربوية وأسرية -
أُعاني مِن شعورٍ داخلي، يُشعرني بأني ديوث والعياذ بالله! فأمي تُكلِّم الرجالَ في الهاتف أمامي، وأنا أسمعها، ولا أستطيع أن أفعلَ شيئًا، وفي يومٍ ذهبتُ إلى البيت، وطرقتُ الباب طويلًا حتى فتحتْ أمي الباب متأخِّرة، فأحسستُ أنَّ هناك رجلًا في البيت، ولكن لم أبحثْ عنه، وبقيتُ أكذب على نفسي، مع أني متأكِّد! دخلتُ غرفتي، وأنا أقول: هذا مُستحيل، لا يمكن، وبقيتُ أكذب على نفسي، حتى سمعتُ البابَ انفتح، وأمي تقول: مَن هناك، وأنا في هذه اللحظة تأكدتُ أنَّ هناك رجلًا خرَج من البيت!
فأنا أشكُّ فيها، ولا أستطيع أن أُخبرَها؛ خصوصًا أنها مريضةٌ بضغط الدم، ولا تتحمَّل القلَق، ولا أعرف ماذا أفعل؟
أشعر أني ديوث، وأنَّ الله غاضبٌ مني، ولا أعرف ماذا أفعل إطلاقًا؟ انصحوني؛ ماذا أفعل؟ هل أنا ديوث ؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَنْ والاه، أما بعدُ:
فأنت -أيها الابن الكريم- لستَ ديوثًا -عافاك الله- وأظن أنك مدهوشٌ فقط؛ لشدة الوارد عليك؛ فإنَّ اضطراب الثوابت عند الإنسان، وابتلاءَه في الكبير عنده -لا سيما الأب أو الأم- يجعله يُرْتَج عليه؛ حتى لا يدريَ ماذا يفعل؟
وعلاجُ ما وصلت إليه مِن دهشةٍ وذهولٍ هو:
الأمر الأول: ما دمتَ مُتيقنًا مما تقول، وليس مجرد شك وظن، فأمُّك تُكَلِّم الرجال في الهاتف أمامك، وغير ذلك، فيجب عليك نُصْحها برفقٍ ولينٍ، وأن تبيِّن لها بأدبٍ بأن ما تقوم به معصيةٌ كبيرةٌ، وذنبٌ عظيمٌ، وأن تحذِّرها مِن عقوبة وعاقبة ما تقوم به، وحاول أن تُظهِرَ لها حرصك على إنقاذها مما هي فيه، وأنك مُشفقٌ عليها، ولْتَقْتَدِ بالخليل إبراهيم -عليه السلام- في نُصحه لأبيه، وهو يحاول إنقاذه مِن الكفر، فقد كان معه في غاية الأدب واللين، وأظْهَرَ له خوفه عليه مِن عذاب الله تعالى، مكررًا لفظة: "يا أبت" مراتٍ عديدةً، وهي لفظةٌ تَدُلُّ على تأدُّب إبراهيم -عليه السلام- في خطابه لأبيه، وتُذَكِّر الأب بعلاقة الرحِم التي بينه وبين ابنه؛ قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:41-45]. ولما رفَض أبوه الاستجابة له، وعنَّفه وهدَّده، ما كان منه إلا أنْ قال: {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47].
فإن لم تستجبْ لك أمُّك، فكرِّر نصيحتك لها مراتٍ ومرات، فإن أصرَّتْ على معصيتها، فخَوِّفها مِن وصول الخبر إلى أبيك، فربما أفاد هذا الأسلوب في إعْراضِها، فإن لم يُجْدِ معها شيءٌ من تلك الأساليب، فأخبِرْ أباك بما تعلمه، وهو أخفُّ الضررين، ولدَفْعِ أعظم المفسدتين، ولا تهتم بمسألة ارتفاع الضغط وانخفاضه!
ولو تمادتْ فافعلْ كل ما في استطاعتك لمنْعِها مِن إدخال أحدٍ في البيت، أو الكلام مع الرجال في الهاتف، ولو منعها بالقوة، وليس ذلك مِن العقوق، بل إن ذلك مِن أعظم البر بها، وبأبيك التي هي زوجته، أو إخبار أحد أقاربها ممن له تأثيرٌ أو ولايةٌ عليها؛ ليساعدك، ويأخذ على يديها، وليس في هذا تشهيرٌ بها، أو هتكٌ لسترها؛ لأنك ستفعل هذا إذا لم تستجبْ بالمعروف.
ثانيًا: مِنَ الضروري جدًّا أن تكونَ صريحًا معها، وبَيِّن لها خيبة الأمل التي أصابتْك جراء الصدمة فيها، والتي تعيشُها بسبب ما تراه منها، ولا تُخفي عنها امتعاضك، وتدهْور حالتك النفسية، ومشاعرك تجاهها.
ثالثًا: ابحثْ عن المدْخَل المناسب لتغيير سُلوكها الخاطئ، وما يجدي معها؛ سواءٌ كان النصح أو الوعظ أو الترهيب، أو إخبار أسرتها، أو غير ذلك.
التَجِئْ إلى الله، وادْعُه أن يمنَّ عليها بالهداية والصلاح.
أما مسألة الدياثة فهي مِن أقبح الأخلاق -أعيذك أن تكونَ منها- وضدها الغيرة التي هي مِن الغرائز البشرية التي أودعها اللهُ في الإنسان، وهي صفةٌ محمودةٌ، ولا خير فيمَن لا يغار؛ بل إن قلبه منكوسٌ، والغيرةُ مِن الأخلاق التي يحبها الله، وأمر بها، فأقوى الناس دينًا أعظمهم غيرة؛ كما ثبُت عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في خطبة الكسوف: " "؛ (متَّفَق عليه).
وفي الصحيح أيضًا أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: " " (صحيح مسلم)، بل إن من عقوبات الذنوب: أنها تُطفئ من القلب نارَ الغيرة التي هي لحياته وصلاحه كالحرارة الغريزية لحياة جميع البدَن، فالغيرةُ حرارته ونارُه التي تخرج ما فيه من الخبث، والصفات المذمومة، كما يخرج الكير خبث الذهب والفضة والحديد، وأشرف الناس وأعلاهم همةً أشدهم غيرةً على نفسه وخاصته وعموم الناس؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أغير الخلق على الأمة، والله - سبحانه - أشد غيرةً منه؛ قاله ابن القيِّم في ''الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي'' = ''الداء والدواء'' (ص: 66).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ''ولهذا يُذَم مَن لا غيرة له على الفواحش؛ كالديوث، ويُذَم مَن لا حمية له يدفع بها الظلم عن المظلومين، ويمدح الذي له غيرةٌ يدفع بها الفواحش، وحميةٌ يدفع بها الظلم، ويعلم أن هذا أكمل من ذلك؛ ولهذا وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- الرب بالأكملية في ذلك؛ فقال في الحديث الصحيح: " "، وقال: " ". '' اهـ.
وقال -رحمه الله- عند قوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] الآية: ''نهى تعالى عما يأمر به الشيطان في العقوبات –عمومًا- وفي أمر الفواحش -خصوصًا- فإن هذا الباب مبناه على المحبة والشهوة، والرأفة التي يُزينها الشيطانُ بانعطاف القلوب على أهل الفواحش والرأفة بهم، حتى يدخل كثيرٌ من الناس بسبب هذه الآفة في الدياثة، وقلة الغيرة، إذا رأى مَن يهوى بعض المتصلين به، أو يعاشره عشرةً منكرةً، أو رأى له محبةً، أو ميلًا، وصبابةً، وعشقًا، ولو كان ولده رأف به، وظن أن هذا مِن رحمة الخلق، ولين الجانب بهم، ومكارم الأخلاق، وإنما ذلك دياثةٌ ومهانةٌ وعدم دينٍ، وضعف إيمانٍ، وإعانةٌ على الإثم والعدوان، وتركٌ للتناهي عن الفحشاء والمنكر، وتدخل النفس به في القيادة التي هي أعظم الدياثة، كما دخلت عجوز السوء مع قومها في استحسان ما كانوا يتعاطونه مِن إتيان الذُّكران، والمعاونة لهم على ذلك، وكانتْ في الظاهر مسلمةً على دين زوجها لوط، وفي الباطن مُنافقةً على دين قومها، لا تَقْلَى عَمَلَهم كما قلاه لوطٌ؛ فإنه أنكره، ونهاهم عنه وأبغضه، وكما فعل النسوة اللواتي بمصر مع يوسف؛ فإنهن أعَنَّ امرأة العزيز على ما دعتْه إليه مِن فعل الفاحشة معها؛ ولهذا قال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33]، وذلك بعد قولهن: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف: 30].
أسأل الله أن يصلحَ أحوالكم، وأن يهدي والدتك، وأن يردها إليه ردًّا جميلًا.