تائهة وليس لي هدف في الحياة!

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: تربية النفس -
السؤال:

 

أطلب منكم أن تدلُّوني على حلٍّ لحياتي، بارك الله فيكم، وسأبدأ من الأول: أنا متزوجة -ولله الحمد- وعندي طفلان، أسأل الله ألَّا يحرمني منهما. مشكلتي أني أصبحتُ أعيش فراغًا كبيرًا، ولم يعدْ لي هدفٌ في حياتي، أحسُّ بأني متحيِّرة في كلِّ شيء، وغير واثقةٍ في نفسي مِن أني سأنجح في أي شيء؛ مع زوجي، مع أبنائي، مع نفسي، مع ربي.

نشأتُ في بيئةٍ إسلاميةٍ ومتدينة؛ حَرَصَتْ أمي على تحفيظي القرآن في صغري، وتعليمي بعض الأمور الدينية، وبعدها تزوجتُ صغيرةً مِن زوجٍ -نِعْمَ الزوجُ- أخٍ داعٍ إلى الله عز وجل، وقائم على مركزٍ بدولةٍ أوروبيةٍ، فأنا أرى نفسي -والله- لستُ في مُستواه بالنسبة للجانب العلمي؛ لأني لم أزدْ شيئًا في أمور ديني منذ أن أصبح عندي أطفالٌ؛ تُهْتُ ولم يعدْ لي هدفٌ مع أبنائي، كنتُ أحفظ على الإنترنت، وأحضر دورات، توقَّفَ كلُّ شيء، وحاولتُ البدء مِن جديدٍ، ولكني لم أستمر.. وقد أصبت بالملل، حتى إنني لا أراجع القرآن.

لا أُطالع كتبًا، حتى صلاتي أُجاهد مع نفسي والشيطان حتى أصليَها في وقتها، وأخيرًا أجد نفسي أخرتُ إحدى الصلوات أو لم أصلِّها. وأنا أجاهد نفسي، لدرجة أني ألزم نفسي أحيانًا كي أسمع القرآن يوميًّا؛ لعل الله يصلح حالي!

أحيانًا أشْعُر ببعض النشاط، وأحس بالخفَّة، وأصَلِّي في أول الوقت، وأحيانًا يَثْقُلُ عليَّ أن أقوم وَأتوضَّأ وأُصَلِّي، وهذا يحزنني كثيرًا، وكلما جلستُ وحدي لأكلِّم نفسي وأبحث عن حلٍّ، قلتُ: أصلحِي حالك مع الله، يُصْلح اللهُ لكِ أحوالكِ، ولكن أريد مَن يعينني.

باللهِ عليكم أشيروا عليَّ، انصحوني، دلُّوني على الطريق، كيف أُنَظِّم حياتي مع ربي؟

أنا صادقةٌ مع ربي، أُريد أن أنجحَ في حياتي، وديني، وعلمي، وقرآني، وأبنائي، وأريد أن أشعرَ بأنهم هدف حياتي. أنتظر ردَّكم.

الإجابة:

الحمد لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:

فمَن يقرأ رسالتك -أيتها الأخت الكريمة- يستشعرُ بلا شكٍّ الصدقَ الشديد في كلامِك، ورغبتك في الصلاح والإصلاح، فاستثمري هذا الشعور ليصبحَ إرادةً جازمةً؛ فإنَّ الإرادة الجازمة مع وجود القدرة التامة توجبانِ وجود المراد، وإنما ينتفي وجود الفعل لعدم كمال القدرة، أو لعدم كمال الإرادة، وإلا فمع كمالهما يجب وجود الفعل الاختياري، فتأمَّلي تلك القاعدةَ الشرعية العقليَّة؛ لتغييرِ حالك للأصْلَح.

ولأقرِّب لك الجواب؛ أضربُ لك مثالًا مِن كلام شيخ الإسلام ابن تيميَّة -وهو يُقَرِّر تلك القاعدة الشريفة- فقال في "مجموع الفتاوى" (7/ 611): "... مِن الممتنع أن يكونَ الرجلُ مؤمنًا إيمانًا ثابتًا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، ويعيش دهره لا يسجد لله سجدةً، ولا يصوم مِن رمضان، ولا يؤدِّي لله زكاةً، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنعٌ، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب، وزندقةٍ، لا مع إيمان صحيح؛ ولهذا إنما يصف -سبحانه- بالامتناع من السجود الكفارَ؛ كقوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 42 - 43] إلخ ما قال.

فتذكَّري دائمًا أنَّ الإرادة الجازمةَ مع القدرة التامة لا بدَّ أن يعقبَها الفعلُ، وبداية تحصيل تلك الإرادة هو العلم بفضيلة وثواب أي عمل تُريدينه، كمراجعة القرآن وحفظه؛ مثلًا: تقرئين ثواب حفظ القرآن الكريم، وفضل حملته، ودرجتهم في الجنة، وراجعي في ذلك مثلًا كتاب: "التبيان في آداب حملة القرآن" للنووي، وكذلك في فضل تربية الأبناء، وهكذا في الدعوة إلى الله، إلى غير ذلك مما تحتاجينه، وتَصْبِين إليه، وهذه هي البداية لتحقيق الإرادة الجازمة؛ لأنَّ التصوُّر يسبق التصديق، ولا يكون ذلك إلا بالعلم، أو كما عبَّر الإمام البخاري في صحيحه: "باب: العلم قبل القول والعمل".

فليكُنْ تركيزك في تقوية إرادتك أن تكوني زوجةً صالحةً، وأمًّا ناجحةً، وداعيةً إلى الله -جل وعلا- وفي أفضل حال يُرضي الله، ومع هذا أبعدي عن نفسك كلَّ شعور سيِّئ، لا سيما وأن ما يَجُول في خاطرك مِن أفكار يدلُّ على همةٍ عاليةٍ، ولكن يعلوها بعض الران؛ نعم -يا أختي الفاضلة- لديك همةٌ عالية، وهذه الهمة هي التي أوصلتْك إلى هذا الازْدِحام في الأفكار، والشعور والرغبة أن تظفري بمعالي الأمور، وكل هذا مرْجعُه إلى فضل الله -جل وعلا- الذي منَّ عليك أولًا بالالتزام، ثم بهذه الهمة الحسنة العالية، وهذه بُشْرَى منه -صلى الله عليه وسلم- يُبيِّنها لأمته؛ حيث يقول -صلوات الله وسلامه عليه-: «إن الله يحبُّ معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفاسفها»؛ أي: يكره الأمور المحقرة منها؛ (رواه الطَّبَراني في المعجم الكبير) .

بقي عليكِ أن تنتهجي طريقًا سليمًا في الوصول إلى ما تريدين الوصول إليه -كما هو أصل سؤالك- وستصلين إليه إن شاء الله تعالى.

بدايةً بالافتقار التام إلى الله، واقرئي في هذا منزلة الافتقار في مدارج السالكين، مع دوام التوكُّل على الله -جل وعلا- ودوام الاستعانة به، فلا بدَّ أن يقدم هذا الأمر في كل شؤونك، لا بدَّ أن يكون التوكل على الله -جل وعلا- عادتك ودأبك؛ سواء كان ذلك في الأمور العظيمة، أو الأمور اليسيرة، فكوني صاحبة استعانة بربك، ولجوء إليه، وتضرع دائم، وابتهال إليه -سبحانه- أن يهديك، وأن يُسددك، وكل شيء تَصْبِين إليه اطلبيه من الله، مع بذْل الوسْع، وأخذ الأمور بجدية، وليَكُن هِجِّيراك الدائم: «ربِّ أعني ولا تُعِنْ عليَّ، وانصرني ولا تنصرْ عليَّ، وامكرْ لي ولا تمكر عليَّ، واهدني ويسِّر هداي إليَّ، وانصرني على مَن بغى علي، اللهم اجعلني لك شاكرًا، لك ذاكرًا، لك راهبًا، لك مِطْواعًا إليك مخبتًا أو منيبًا، ربِّ تقبَّل توبتي، واغسل حَوْبتي، وأَجِب دعوتي، وثبِّت حجتي، واهدِ قلبي، وسدِّد لساني، واسللْ سخيمةَ قلبي»، و «اللهم أعني على ذكِّرك، وشكرك، وحسن عبادتك»، و «اللهم اهدني لأحسن الأخلاق؛ لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اصرف عني سيِّئها؛ لا يصرف عني سيِّئها إلا أنت»، و «اللهم اهدْني وسدِّدني»؛ وكلها من الأدعية النبوية.

فهذا أولُ مقام تقومينه في جميع شؤونك، ليس في هذا الشأن فقط، بل وإذا استصعبتِ أمرًا، فالهجي بهذا الدعاء العظيم الذي علمك إياه نبيك وحبيبك صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا سهلَ إلا ما جعلته سهلًا، وأنت تجعل الحزنَ إذا شئتَ سهلًا».

الخطوة الثانية: وهي التمهُّل والأناة وعدم الاستعجال؛ فإنك تحصلين ما تريدين بالتوكل على الله -كما تقدم- وبالصبر، وبأخذ الأمور رويدًا رويدًا، وشيئًا فشيئًا، فخذي ما تريدين من ثمرات مع الأيام والليالي، ولا تطلبيها دفعة واحدة؛ فإن لهذه النفس صولةً وجولةً، إذا لم تراعَ كلَّت وملَّت، وحصل لها السآمة، فلا بدَّ إذًا من أن يحصلَ لكِ رعاية لهذا الأمر؛ بأن تطلبي أهدافَك بهدوء ورفق وصبرٍ، فتحصلي ما تريدين مع الأيام والليالي، ثم بعد ذلك تنتقلين إلى تحديد هذه الأهداف، ولا ريب أنها كلها أهداف كريمة.

إنك تُريدين أن تحقِّقي هذه الأهداف الصالحة التي تجمع لك خيرَي الدنيا والآخرة، فلتبتدئي إذًا بالجَمْع بينها بقدر الاستطاعة، ثم إن تعارضتْ قدَّمتِ الأهم فالأهم، وهذه قاعدةٌ عامة لا بد أن تَسِيري عليها.

فحاولي دومًا أن تجمعي بين المصالح وأن تحققيها، ولكن إذا تعارضتْ فقدِّمي أعظمَها مصلحةً، وأشدها حاجةً، فقدِّمي الأهم فالأهم.

الخطوة الثالثة: ترتِّبين أهدافك القريبة وأهدافك البعيدة، وتصبرين على تحصيلها، وألَّا ترهقي نفسك، فأوغلي برفقٍ؛ فقليل دائم خيرٌ من كثيرٍ منقطع، ومَن رام العلم جملةً ذهب عنه جملةً، فلا تطلبي تحصيل الخير كلَّه دفعةً واحدةً، ولكن خذي شيئًا فشيئًا، مع الأيام والليالي.

هذا، واستعيني بتلك الاستشارات على موقعنا:

كيف أوفق بين الدعوة إلى الله وبين طلب العلم؟

كيف نُخلِص النيَّة في طلَب العلم؟

ما الذي علي دراستُه من الفقه والحديث والعقيدة

العلم والإخلاص سلاح الدعوة إلى الله