لماذا لا أصلي؟!
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: تربية النفس - تزكية النفس - الحث على الطاعات -
هذا السؤال الذي يدور بِرأسي منذ زمان، فبعضَ الأحيان لا أصلي أبدًا، ولما أسمع الأذان لا أبالي، وبعضَ الأحيان أُصلّي -والحمدُ لِله- وأُداوم عليها، ولكن إلى الآن لم أستطع أن أُداوم على الصلاة لفترة طويلة جدًا، وأفكر كثيرًا، وفي بعض المرَّات يَحصل لي ضيق في الصدر وأتوتّر جدّا، ولكن أريد حلاًّ يَجعلُني أُداوم على الصلاة إلى أن يتوفَّاني الله عز وجل،، ساعدوني.
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه، ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فإنَّ سعيَك لمعرفة ما يُعينُك على المُداومة على الصلاة دليلٌ على أنَّك بدأتَ تسلُك طريق الهداية والرَّشاد إن شاء الله.
ولتعلمْ أن الله –سبحانه- يَهدي سُبُل السلام، ويُخرج من الظُّلمات، ويهدي إلى صراطِه المستقيم في الدّنيا والآخِرة كلَّ مَن سلك سبيل الهُدى وسار فيه، فيُعينُه –سبحانه- على الهُدى؛ كما قال عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، وقال: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27]، فيقضي سبحانه بالهدى لمن رجع إليه.
أما السَّبب الرَّئيسيَّ لعدم مُحافظتك على الصلاة إلى الآن، فهو تهاوُنك مع نفسك، بترك المجاهدة، حتَّى صارتْ كالطّفل المدلَّل؛ فتصلّي متى شئت، وتترك متى شئت، كما قال الشاعر:
وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى *** حُبِّ الرَّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ
ووصول النفس -التي هي بطبعها تَميل للدَّعة، والرَّاحة، والرّكون للأرض- لِتلك المَرْحلة لابُدَّ أن يكون بِمقدّمات طويلة؛ منها:
- ضعف الإيمان بالله تعالى، والاستِخفاف بأوامره ونواهيه، والابتِعاد عن منهجه، والجهل بِما أعدَّه الله لتارك الصلاة، والذي تنخلع له قلوب المؤمنين.
- ومنها الإكثار من المُباحات، من شهوات البطن والفرج، فيؤدّي للتَّكاسُل عن الطَّاعات؛ وقد قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، وقال -صلى الله عليه وسلَّم-: « » (رواه الترمذي)، وقال عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه-: "إياكم والبِطْنةَ والشَّراب؛ فإنَّها مفسدةٌ للجَسد، مورثة للسّقم، مكسلة عن الصلاة، وعليكم بالقصد فيهما؛ فإنه أصلح للجسد، وأبعد من السرف؛ وإن الله ليبغض الحبر السمين، وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه" (رواه أبو نعيم).
- ومنها الانشغال الشديد بأمور الدنيا؛ وقد ذمَّ النَّبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- مَن هذه حالُه، وعدَّه عبدًا للدّنيا، فقال: « » (رواه البخاري).
- ومنها: الانشِغال بعمل الدنيا، والانصراف عن همّ الآخرة، وقلَّة تذكّر الموت والدّار الآخِرة؛ فقد حثَّ النَّبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- على زِيارة القبور؛ لأنَّها تُذَكّر بالآخرة.
- ومنها التقصير في الواجبات، أوِ ارتكاب المعاصي والسيّئات، أو أكْل الحرام.
- ومنها البعدُ عن الأجواء الإيمانيَّة؛ من مَجالِس الذّكر، والصلاة في جَماعة، ومُجالسة الصالحين، يقول الحسنُ البصري: "إخواننا عندنا أغلى مِن أهلينا، أهلونا يُذكّرونَنا الدّنيا، وإخوانُنا يُذكّروننا الآخِرة".
- ومنها فقدان القدوة الصالحة، لذلك لمَّا توفّي النَّبيّ -صلى الله عليه وسلَّم- ووُورِي التّراب، قال الصحابة -رضي الله عنهم-: "فأنكرنا قلوبنا" (رواه البزَّار، ورجالُه رجالُ الصَّحيح).
- ومنها الاختِلاط بأهل الفِسْق والفجور، وهو من أعظم الأسباب التي تُورث قسوةَ القلب.
- ومنها طول الأمل؛ قال تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3]، وقال عليّ -رضي الله عنه-: "أخوَفُ ما أخاف عليكم اتّباع الهوى، وطولُ الأمل، فأمَّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ، وأمَّا طول الأمل فيُنسي الآخِرة".
- ومنها الانشِغال بشؤون الأولاد والأهل عن طاعة الله عزَّ وجلَّ؛ قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15].
أما الطريق الأمثل لِعلاج تلك الآفات، فيكون بفعل أضدادِها، والَّتي منها:
- أخذ النفس بالقوَّة وعدم التَّهاون معها في أمر الآخرة؛ قال تعالى: {خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63]، وقال: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف: 145]، وقال: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]، وقال -صلى الله عليه وسلَّم- فيما رواه البُخاري: « ».
- البعد عن المعاصي والسيّئات، كبيرها وصغيرها.
- المواظبة على عمل اليوم والليلة من صلاةٍ، وقراءة القرآن الكريم بتدبّر، والتزوّد من العلم النَّافع، مع قراءة سِيَرِ وتراجم الرَّعيل الأوَّل؛ فإنَّه من أعظم ما يعين على الحقّ.
- صحبة الصَّالحين وأهلِ الخَير، الذين يدلّون على الطَّاعة ويرغّبون فيها، مع البُعْدِ عن قُرناء السّوء المُنْحَرفين؛ قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف: 28]، وقال: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
- أن تجعل بينك وبين الفرائض حاجزًا كثيفًا من النوافل الراتبة وغيرها؛ فإذا أصابك العجز والفتور، أصاب ذلك النوافل، ولم تقترب من الفرائض.
- المواظبة على صلاة الجماعة في أول وقتها؛ وهو من أعظم ما يعين على المداومة على الصلاة.
- التَّعرّف على مداخل الشيطان وطُرُقِه في الصدّ عن الصّراط المستقيم، وتَجدها مَجموعةً في كتابَيْ: "تلبيس إبليس" لابن الجوزيّ، و"إغاثة اللهفان" لابن قيم الجوزية.
- تذكّر الموت، وسؤال الملَكيْن، وظلمة القبر.
- ومن أهمّ ما يزجُر النَّفسَ: معرفةُ ما أعدَّه الله من عذابٍ أليم للمُتَهاون في شأْنِ الصَّلاة في البَرزخ، وما ينتظره يوم القيامة -إن مات على ذلك- قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]، وقال تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ . قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ}[المدثر: 42، 43]، وقد أَطْلَع الله نبيَّه –صلى الله عليه وسلم- على عذاب مَن نام عن الصلاة المكتوبة فقال –صلى الله عليه وسلم-: « » الحديثَ؛ (رواه البخاري عن سمرة بن جندب).
- وكذلك الخوف والوجل من شؤم ترك الصلاة، وعقوبتِها في الدّنيا قبل الآخرة؛ فإنَّها: تُزيل النِّعم الحاضرة، وتقطع النِّعم الواصلة، فتُزيل الحاصلَ وتَمنَع الواصل، فإنَّ نِعَم الله ما حُفِظَ موجودُها بِمثل طاعتِه، ولا استُجْلِب مفقودُها بِمثل طاعته، فإنَّ ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته، ومِن عقوبة المعاصي أيضًا: سقوط الجاه، والمنزلة، والكرامة عند الله، وعند خلْقِه؛ فإنَّ أكرم الخلق عند الله أتْقاهم، وأقربَهم منه منزلة أطوعُهم له، وعلى قدر طاعة العبد تَكون له منزلة عنده، فإذا عصاه وخالف أمرَه سقط من عيْنِه، فأسقطه من قلوبِ عِباده، ومن العقوبات التي تلحَقُ تاركَ الصلاة: سوء الخاتِمة، والمعيشة الضَّنك؛ لعموم قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]؛ قاله الإمام ابن القيّم في كتابه: "الداء والدواء".
- ومنها: محاسبة النفس بِاستمرار، وترك التهاوُن معها.
- الاستعانة بالله تعالى، والالْتِجاء إليه، والعمل بِمقتضى كتابِه أمرًا ونَهيًا، واتّباع سنَّة نبيّه -صلى الله عليه وسلَّم- مع نَبْذِ الخُمول والكسل، ومع لزوم الاستِعاذات: « » (رواه البخاري). والإكثار من الدّعاء بالثبات، فقد كان مِن دعاء النبي -صلَّى الله عليه وسلم-: « » (رواه أحمد).
فالأخذ بِهذه الأسباب وغيرِها، مع حسن القصد، واستِشعار مُراقبة الله وأنَّه مطَّلع عليك، هو العِلاج النَّاجع لمَرض التَّهاون في شأْنِ الصَّلاة.
وتأمَّلْ -رعاك الله- قولَ العلامة ابن القيّم: "إنَّ أفضل علاج لمثل هذه الحال: هو أن تنقلَ قلبَك من الدنيا فتسكنه في وطن الآخرة، ثم تُقْبِل به كلّه على معاني القرآن واستِجْلائِها، وتدبُّرها، وفهْم ما يُراد منه، وما نزل لأجله، واختَرْ نَصيبَك من كلّ آياته، وتنزلها على داء قلبك، فإذا نزلتْ هذه الآية على داء القلب، برئَ القلب بإذن الله".
اللهَ نسأل أن يَهديَ قلبك، ويشرحَ صدرَك، وينوّر بصيرتَك، ويأخذ بناصيتِك للبِرّ والتَّقوى، ويُثَبّتنا وإيَّاك وجميع المسلمين على دينه.
ولمزيد فائدةٍ يُراجع كتاب "وسائل الثبات" للشيخ محمد صالح المنجد، وتراجع الفتويين: "ما حكم تارك الصلاة"، "غير منتظم في صلاتي"، والله أعلم.