الله أكبر، الحمدلله الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الشرك وأنواعه - استشارات تربوية وأسرية -
السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أرجو أن تصلكم رسالتي، وأنتم في أتَمِّ الصحة والعافية.

أولاً: أشكركم على هذا المنبر الذي يعمل على نشر الخير، وجزاكم الله عنَّا خير الجزاء.

ثانيًا: سوف أعرض عليكم مشكلتي، ولا أعلم من أين أبدأ، لكن الذي أعلمه أني أُعاني ألَمًا نفسيًّا حادًّا؛ تعرَّضْتُ لوسواسٍ في العقيدة، وهو إلى الآن يُتعبني.
هو باختصار عن أهوال يوم القيامة، وعن الجنة والنار، ويصل إلى درجة الاعتقاد بدون نطق بها، وأستعيذ بالله منه، في بعض الأحيان يهدأ المرض، وفي بعض الأحيان يثور كالبركان؛ فأكون في أشد التعب، لا أستطيع الذهاب إلى طبيب نفسيٍّ مهما حصل؛ لذلك لا تقل لي: اذهبي إلى طبيبٍ نفسيٍّ؛ فأنا أريد علاجًا أقوم به في المنزل.

أخاف عقابَ الله، يراودني في بعض الأحيان وسواس بأني منافقة إذا عملتُ عملاً صالحًا؛ مثال على ذلك: أنا الآن أعمل في وظيفة إدارية في دار تحفيظ قرآن، وطلبتْ مني المديرة لبس القفازات ولبس الجورب، وفي الحقيقة أنا لا ألبسها، ولكن ولله الحمد ألْبَسُ العباءة على الرأس، خالية تمامًا مِنَ الزخرفة ولله الحمد، وفعلاً لبستُ ما أمرتْ به المديرة، ولكن عشت بعدها في صراعٍ لا يعلمه إلا الله، وهو أني ما عملتُ هذا العمل إلا مِن أجل الوظيفة؛ لأني لا ألبسه عندما أكون خارج نطاق العمل، ويأتي حديث نفس بأني منافقة، أني أعمل ذلك رياءً، وفي بعض الأحيان تُحَدِّثُني نفسي أن أكذبَ على المديرة، وأقول: إني ألْبَسُه، وفي الحقيقة أكذب، فأنا لبستُه أكثر من مرة، ووالله لم أستطع المشي بشكلٍ جيدٍ، فكأنني أَتَعَثَّر.

فما حكم فعلي هذا؟ وهو أني أرتدي القفازات والجورب في العمل؛ لطلب العمل مني ذلك، ولا أرتديه عندما أكون خارج نطاق العمل، هل أكون منافقة؟ علمًا بأني ألبس عباءة على الرأس، خالية من الزينة. أفيدوني.

الأمر الثالث: وهو أنني حاولتُ كثيرًا أن أتركَ العملَ في التحفيظ، فالدار دائمًا ما تعمل محاضرات دينية، وأخشى ألا أطبقها، فتكون حجة عليَّ وليست لي، فدائمًا ما تراودني فكرة ترك العمل مصحوبة بحالة منَ الخوف والضيق.

الأمر الرابع: كنتُ كاتبة في منتدى متخصصٍ في مجال تخصص الخدمة الاجتماعية، وكنتُ أكتُب أشياء تفيد غيري، وبعد فترة بدأ وسواس يأتي بأن أترك مجال الكتابة، وأن كل ما أكتبه سوف أحاسب عليه، وأنني سوف آخذ ذنبَ الآخرين، إلى أن تركته، ولم أعد أكتب في أي مكان.
وليس ذلك فحسب، بل أصبحتُ أمتنع عن إبداء رأيي في أي موضوع؛ خوفًا أن أكون مخطئة فآخذ ذنب غيري، حتى إنني لا أعمل في نشر رسائل دينية ترسلها لي صديقاتي؛ خشية أن تكون خطأ، فآخذ ذنبًا في نَشْرِها، لدرجة أني لديَّ خلفيَّة في الحاسب، وحينما يسألني ابنُ أخي أردُّ في نفور، وعدم العلم، أو أتحجج بِحُجج واهية؛ خوفًا أن آخذ ذنبًا.

فأخشى أن أصل لمرحلةٍ لا أعمل فيها من شدة خوفي هذا، أفيدوني في أقرب وقت، ولكم مني جزيل الشكر، ولا تنسوني من الدعاء، وشكرًا.

الإجابة:

الحمدُ لله الذي جعل غاية كيد الشيطان الوسوسةَ، وعلمنا أن الشيطان إذا غلب وسوس، وأن الوسوسة تعرض لكل مَن توجه إلى الله تعالى بالعبادة، وأن العبد بالصبر والثبات واليقين، وملازمة ذكر الله والصلاة، وترك الضجر ينصرف عنه كيد الشيطان؛ لأن: {كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]، والصلاة والسلام على رسول الله، المخبر بأن ما يكره المؤمن من خواطر الكفر والنِّفاق، أمارة على الإيمان واليقين، إذ أن الشيطان كلما حدثه بشيء فكرهه وتركه خشية لله، ازداد إيماناً وإحساناً، أمَّا بعدُ:

فإنَّ الشيطان الرجيم لعنه الله قد قطع على نفسه الملعونة وعدًا ببذل كل ما أوتي من جهد، في سبيل إغواء العباد؛ قال تعالى حاكيًا عنه: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ . ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16، 17].

ولكن الله تعالى أخْبَرَ بتأييده لعباده المؤمنين، وحفظه إياهم، وحراسته لهم، وإعانتهم، وعصمتهم من الشيطان؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31]، وقال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء: 65]؛ أي: حافظًا ومؤيِّدًا وناصرًا، ومبطلاً كيد الشيطان لكل من توكَّلَ عليه، وأَدَّى ما أُمر به مما يَعصم من الفتن؛ منَ العبودية لله، والقيام بأمره، والتوكُّل عليه، وإخلاص العبودية له، فيدفع عنهم كل شر، ويحفظهم من هَمْزِه ونفْثِه ونفْخِه؛ قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200]، وقال: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ . وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97، 98]، فالشيطانُ يرى الإنسان من حيث لا يراه، فوجب الاستجارة بجناب مَن يراه، ولا يراه الشيطان.

كما قيل:


يَا مَنْ أَلُوذُ بِهِ فِيمَا أُؤَمِّلُهُ *** ومن أَعُوذُ بِهِ مِمَّنْ أُحَاذِرُهُ
لاَ يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسِرُهُ *** وَلاَ يَهِيضُونَ عَظْمًا أَنْتَ جَابِرُهُ

 


ومتى اتَّجَه القلبُ لخالقه، واتصل بمولاه، وتوجَّه إليه بالعبادة، وارتبط بالعروة الوثقى، التي لا انفصام لها فلا سلطان حينئذٍ للشيطان على ذلك القلب الموصول بالله، وتلك الروح المشرقة بنوره، فالشيطان لا يجرؤ على عباد الرحمن؛ فما له عليهم من سلطان، فالله يعصمه وينصره.

وإذا عجز المرء عن دفع الخواطر الخفية، فإن الله يدلُّه على سلاحه وعُدته في معركته مع الوسواس الخناس، فهو مختبئ مخفي إلى أن يجد فرصة سانحة فيوسوس، وفي هذا إشارة قوية لضعف اللعين أمام المتيقظ لمكرِه، والذي يحمي مداخل صدره بالذكر والاستعاذة والاستغفار والتوكل؛ كما قال الرسول الكريم: "إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإذا ذَكر الله تعالى خنس، وإن نسي التقم قلبه؛ فذلك الوسواس الخناس" [رواه البيهقي في الشعب عن أنس، وفيه ضعف، إلا أن معناه صحيح].

فالوسواس الخناس قابع خانس، مترقِّب للغفلة؛ ولكنه ضعيف متهافت أمام عدة المؤمن في المعركة الطويلة إلى يوم القيامة، وعليكِ أن تتصوري طبيعة تلك المعركة، وأن تُوقني أنكِ لستِ مغلوبة على أمركِ فيها، فإن ربَّكِ وسيدكِ ومولاكِ، مسيطرٌ على الخلق كلهم، آخذ بناصيتهم، وقد أذن لإبليس اللعين بالحرب، ولم يسلطه إلا على الغافلين، وأما من يذكرونه فهم في منأى عن الشر؛ لأنهم يتوكلون على الله، ويستندون إلى القوة الحقيقية، ويأوون إلى ركن شديد مكين، إلى أقوى الأركان؛ وهو الله الذي لا يقوم لقوته أحد.

ولْتعلمي - رعاكِ الله - أنَّ غاية ما يستند إليه الشيطان وأقصى عدده: هي الوسوسة والخطرات، فهو يضعف عن المواجهة، ويخنس عند اللقاء، وينهزم أمام العياذ بالله، ويدحض بالذكر، وينمحي بأعمال القلوب من الحب واليقين والخشية والرهبة وغيرها، ويقمع بالعلم النافع؛ فلتحمي قلبكِ من الهزيمة، ولتفعميه بالقوة والثقة، ولتملئيه بالطمأنينة والإيمان؛ وثقي أن الشيطان إنما يوسوس لمن أَيس من إغوائه، وعجز عن إضلاله، فينكد عليه بالوسوسة لعجزه ويأسه؛ وهذا سر قول النبي صلى الله عليه وسلم لما شُكِي له الوساوس اللعين: "الله أكبر الله أكبر، الحمد لله الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة" [رواه أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما].

وراجعي على موقعنا استشارة: "وسواس يدمرني"، وفتوى الشيخ ابن جبرين: "ما ينبغي فعله حيال وساوس الشيطان في العقيدة"، وفتوى "علاج الأحلام المزعجة".

هذا؛ وقد وردت أحاديث كثيرة تُبَيِّن أن الخطراتِ والأفكارَ التي قد تطرأ على الإنسان في الأمور الغيبية أنها محض وساوس شيطانية؛ لتوقع المؤمن في الشك والحَيرة أعاذكِ الله منها وسائرَ المسلمين، كما روى مسلم من حديث أبي هريرة قال: "جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه؟، قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان"، وفيه أيضًا عن عبد الله بن مسعود، قال: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عنِ الوسوسة قال: "تلك محض الإيمان".

قال النووي في شرح مسلم: قوله صلى الله عليه وسلم: "ذلك صريح الإيمان، ومحض الإيمان"؛ معناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به، فضلاً عنِ اعتقاده، إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالاً مُحَقًّقًا، وانتفت عنه الريبة والشكوك.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يُقال: هذا خَلَقَ اللهُ الخَلقَ، فمَن خَلَقَ الله؟ فمَنْ وجد من ذلك شيئًا، فليقلْ: آمنتُ بالله"، وفي رواية: "فإذا بلغ ذلك، فلْيَسْتَعِذْ بالله ولينتهِ"، وفي الأخرى: "فليقل: آمنتُ بالله ورسله" [مسلم].

قال النووي: فمعناه: الإعراض عن هذا الخاطر الباطل، والالتجاء إلى الله تعالى في إذهابه.

قال الإمام المازَري رحمه الله: ظاهرُ الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها، والرد لها من غير استدلال ولا نظر في إبطالها، قال: والذي يقال في هذا المعنى: إن الخواطر على قسمين:
فأما التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها شبهة طرأت، فهي التي تُدفع بالإعراض عنها، وعلى هذا يحمل الحديث، وعلى مثلها ينطلق اسم الوسوسة؛ فكأنه لما كان أمرًا طارئًا بغير أصل، دُفِع بغير نظر في دليل؛ إذ لا أصل له ينظر فيه، وأما الخواطر المستقِرَّة التي أوجبتها الشبهة، فإنها لا تدفع إلا بالاستدلال، والنظر في إبطالها.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله في "الفتاوى": "والمؤمِنُ يبتلى بوساوس الشيطان وبوساوس الكفر، التي يضيق بها صدره، كما قالتِ الصحابة: "يا رسول الله، إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: ذاك صريح الإيمان"، وفي رواية: "ما يتعاظم أن يتكلم به، قال: الحمد الله الذي رد كيده إلى الوسوسة"؛ أي: حصول هذا الوسواس مع هذه الكراهة العظيمة له، ودفعه عن القلوب هو من صريح الإيمان؛ كالمجاهد الذي جاءَهُ العدو، فدافعه حتى غلبه، فهذا عظيم الجهاد.. ولهذا يوجدُ عند طلاب العلم والعباد من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم؛ لأنه لم يسلك شرع الله ومنهاجه، بل هو مقبل على هواه في غفلة عن ذكر ربه، وهذا مطلوب الشيطان، بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة، فإنه عدوهم يطلب صدهم عن الله تعالى" اهـ.

وقال: "فهنا لما اقترنَ بالوسواس هذا البغض وهذه الكراهة، كان هو صريحَ الإيمان، وهو خالصه ومحضه؛ لأن المنافق والكافر لا يجد هذا البغض وهذه الكراهة مع الوسوسة بذلك؛ بل إن كان في الكفر البسيط، وهو الإعراض عما جاء به الرسول وترك الإيمان به وإن لم يعتقد تكذيبه، فهذا قد لا يوسوس له الشيطان بذلك؛ إذ الوسوسة بالمعارض المنافي للإيمان إنما يحتاج إليها عند وجود مقتضيه، فإذا لم يكن معه ما يقتضي الإيمان لم يحتج إلى معارض يدفعه؛ وإن كان في الكُفر المركب وهو التكذيب، فالكفر فوق الوسوسة، وليس معه إيمان يكره به ذلك.

ولهذا لما كانت هذه الوسوسة عارضة لعامة المؤمنين؛ كما قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} [الرعد: 17]..، فضربَ اللهُ المثل لما ينزله من الإيمان والقرآن بالماء الذي ينزل في أودية الأرض، وجعل القلوب كالأودية؛ منها الكبير، ومنها الصغير، فهذا أحد المثلين.

والمثل الآخر: ما يوقد عليه لطلب الحلية والمتاع، مِن معادن الذهب والفضة، والحديد ونحوه، وأخبر أن السيل يحتمل زبدًا رابيًا، ومما يوقدون عليه في النار زبد مثله، ثم قال: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ} [الرعد: 17]؛ الرابي على الماء وعلى الموقد عليه، فهو نظير ما يقع في قلوب المؤمنين من الشك والشبهات في العقائد والإرادات الفاسدة؛ قال تعالى: {فَيَذْهَبُ جُفَاءً}: يجفوه القلب فيرميه ويقذفه كما يقذف الماء الزبد ويجفوه، {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17]، وهو مثل ما ثبت في القلوب من اليقين والإيمان؛ كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24] الآية، فكل ما وقع في قلب المؤمن من خواطر الكفر والنِّفاق فكرهه وألقاه، ازداد إيمانًا ويقينًا، كما أنَّ كل من حدثته نفسه بذنب فكرهه ونفاه عن نفسه وتركه لله ازداد صلاحًا وبرًّا وتقوى، وأما المنافق فإذا وقعت له الأهواء والآراء المتعلقة بالنفاق، لم يكرهها ولم ينفها، فإنه قد وجدت منه سيئة الكفر من غير حسنة إيمانية تدفعها أو تنفيها". اهـ. مختصرًا.

وقال: "وكلما أراد العبد توجهًا إلى الله تعالى بقلبه، جاء من الوسواس أمور أخرى؛ فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق، كلما أراد العبد أن يسير إلى الله تعالى، أراد قطع الطريق عليه؛ ولهذا قيل لبعض السلف: إن اليهود والنصارى يقولون: لا نوسوَس، فقال: صدقوا، وما يصنع الشيطان بالبيت الخراب".

أما ما يراودكِ في بعض الأحيان: أنك منافقة إذا عملتِ عملا صالحًا وغير ذلك، فشبهة داحضة؛ فما دُمْتِ تخافين الله تعالى، وتكرهين تلك الوساوس، فقد فررت من النفاق، إذ المنافق معرض عن ذلك أصلاً؛ فلا يتصور أن يكره الوسوسة أو ينفيها أو يجاهدها.

ونوصيكِ بالالتزام بعدة أمور، كلها لا تخرج عن السنة المطهرة:
1- كثرة الاستعاذة والاستعانة بالله، وصدق الالتجاء إليه سبحانه في إذهابها.
2- الإعراض عن الوساوس، والانتهاء عن الخطرات، وعدم الالتفات إليها بقطع الوسوسة ومجاهدة النفس على ترك الخطرة.
3- أن تقولي بقلبكِ ولسانكِ حال الوسوسة: آمَنْتُ بالله، أو آمَنْتُ بالله ورُسُلِه.
4- تحقيق الإيمان المجمل على أقل تقدير فيما يوسوس به الشيطان من غيبيات، وطلب العلم الشرعي.
5- دَحْر الشيطان، بترك الانصياع لوساوسه، وتحريك الإيمان في القلب، وتقوية المعرفة بالله ومحبته وخشيته، وإخلاص الدين له، وخوفه ورجائه، والتصديق بأخباره، وغير ذلك.
ويقوى ذلك بإقبالك على قراءة القرآن الكريم بتدبُّر، ومعرفة أسماء الله وصفاته وعظمته، وافتقاركِ إليه، حتى يكون اضطرارك إليه سبحانه أعظمَ من اضطرارك إلى الهواء والأكل والشرب، فإنه لا صلاح لك إلا بأن يكون الله معبودَك الذي تطمئنين إليه وتأنسين به وتلتذِّين بذكره، ولا حصول لشيء من هذا إلا بإعانة القوي الكريم، ولا حول ولا قوة إلا به، ولا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه.
6- المواظبة على قراءة الرقية الشرعية وخاصة سورة ق، والدخان؛ فلهما تأثير قوي بإذن الله في دحر الشيطان، كما يمكنك الاستعانة براقٍ معروف بالتقوى والصلاح والاستقامة.
7- وعدم ترك الأعمال الصالحة خشية من الرياء، وإنما عليك العملَ مع مجاهدة النفس على الإخلاص، قال الفضيل بن عياض: "ترك العمل من أجل الناس هو الرياء، والعمل من أجل الناس هو الشرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما" [رواه أبو نعيم في "الحلية"].
فإذا لم يجد معكِ ما ذكرنا، وبلغ الأمر منتهاه، واشتد الكرب، وعظمت الفتنة، وأحكمت الحلقة، وأحيط بكِ، وعجزت عن تلك الأدوية كلها فافزعي إلى الركن الشديد بصدق في اللجوء، وتذكري: {أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ . أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62]، فاستغيثي بالله، طارحة نفسكِ بين يديه، متضرعة متذللة مستكينة إليه، فمتى وفقت لهذا، فسيبدل الجواد الكريم الرحيم همَّك وغمَّك فرجًا وسرورًا، وبلاءك عافية، ومَرَضَكَ شِفاءً، وحُزنَكَ فرحًا وسعادة دائمة، وتَضَجُّرَكَ رِضًا، وراجعي للأهمية فتوى: "كيف يُستجابُ دعائي".

هذا؛ وقد سبق أن ذكرنا في فتوى: "من علاج الوَسْوَاس": أن الوسواس نوعان: نوع مِن عمل الشَّيطان، وهو ما ذكرناه، ونوعٌ طِبِّيٌّ، ويُراجع فيه الأطبَّاء النَّفسيون، بشرط حسن الاختيار؛ ولذلك ننصح السائلة الكريمة بعرض نفسها على طبيبة نفسية ماهرة لمساعدتها، فإن تعذَّر وجود طبيبة، فعلى طبيب مسلم ديِّن، ويفضل أن يكون كبيرَ السن، ولتحرصي على اصطحاب أحد محارمك.

ورهبتك من الطب النفسي هو من جراء ميراث العادات والتقاليد الموروثة التي أحاطته بكثير من الشكوك والاتهام، وكذلك نظرة الناس الظالمة لمن يرتادون عيادات الطب النفسي، ويمكن التغلب على هذا بلزوم السرية في الأمر.

ونسأل الله أن يُعيذك من شر نفسك، ومن شر الشيطان وشَرَكه، وأن يلهمك رشدك، ويعيذك من شر نفسك، وأن يَشْفِيَكِ شفاءً لا يُغادِرُ سَقَمًا، وأن يُذْهِبَ عنْكِ ما أنْتِ فيه، آمين.