أمي تقدم وظيفتي على زواجي

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: فقه الزواج والطلاق - استشارات تربوية وأسرية -
السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مشكلتي تتمثَّل في أنَّ شخصًا يُريد التقدُّم لخِطْبَتي والزواج مني، وهو شخصٌ والحمد الله مُلتزمٌ، ومحافظٌ على صلواته وصيامِه.
المشكلة: أنَّ أمي تُفَضِّل وظيفتي على الزواج مِنْ هذا الشخص؛ بحجَّة أنه مِنْ دولة أخرى، وتختلف عاداتنا وتقاليدنا عنه، ونَسِيَتْ أننا كلنا مسلمون، وكلنا سواسية عند الله.
قَبِلتْ بالأمر في البداية، ولكن بشرط أن يكونَ بعد الحصول على الوظيفة؛ ثم غيَّرتْ رأيَها، وفضَّلت الوظيفةَ؛ مِنْ منطلق أنَّ هذا الزواج سوف يَفشَل، وبذلك أكون ضيَّعتُ وظيفتي وحياتي!
أنا حائرة؛ فقلبي يميل لهذا الشخص، فهل يجوز لي أن أجادلَ أمي في هذا الموضوع، وأحاول أن أقنعها؟
وأرجو أن تمدني بأدلةٍ شرعيةٍ أُعَزِّز بها موقفي.
وأسألكم الدعاء، وجزاكم الله خيرًا.

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فأسألُ اللهَ أن يُقَدِّر لكِ الخير حيثُ كان، وأن يلهمكِ رشدَكِ، ويوفِّقكِ لحسن الاختيار آمين، وبعدُ:
فإن كنتِ حقًّا راغبةً في الزواج مِن الشابِّ المذكور، وكان ظاهرُه وفقه الله الالتزام والتدين والخُلُق الرفيع؛ فعليكِ ببذل الوسع، ومحاولة الجهد، وتوظيف كل الإمكانات المتاحة في إقناع والدتكِ بذلك الزوج، فللأبناء تأثيرٌ ملحوظ على الوالدين، واستعيني بمَن يُساعدكِ مِن إخوانكِ أو أقاربك وكل مَن تثقين به؛ مِنْ صديقات، أو بعض أهل العلم والصلاح؛ لينصحها ويوجهها، ويبيِّن لها أنَّ الزوج المَرْضِي في الدين والخلق مما يَجِبُ الظفر به، لا سيما في هذا الزمان، الذي كثُر فيها الخَبَث، وعمَّ الفساد، وقلَّ أهل الخير؛ ولذلك رغَّب النبي صلى الله عليه وسلم في قبوله دونما أي اعتبارات أخرى؛ كما روى الترمذيُّ وابن ماجهْ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتاكم مَن ترضون خُلُقَه ودِينَه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عَرِيض" [صححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"]، وفي رواية عند الترمذي من حديث أبي حاتم المزَني قالوا: "يا رسول الله، وإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكم مَن ترضون دِينَه وخُلُقَه، فأنكحوه" ثلاث مرات.
ولتستعيني على تليينِ قلبها بالله تعالى، فتتوجَّهي إليه سبحانه بالدعاء والتضرع: أن يلهمَها رشدها، ويهديَها، ويوفِّقها للقبول؛ فالقلوبُ بيد الله تعالى يقلِّبها كيف يشاء.
ولتُكثري مِنَ العمل الصالح، ولتبتعدي عنِ المعاصي؛ فالزوجُ الصالحُ رزقٌ مِنَ الله تعالى، والرزقُ لا ينال بمعصية الله، وإنما يُنال بطاعته، ومِن أعظم الطاعات برُّ الوالدين، والإحسان إليهما؛ قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].
ولكن إن أصرَّتْ أمكِ على رفضها لا قدَّر الله ذلك ولم ينفعْ معها ما أسلفنا، وأبتْ إلا العَضْل؛ فلا يلزمكِ طاعتها، ويجوز لكِ الزواج دون موافقتِها، ما دام وليُّك وهو الأب، أو مَن يقوم مقامه مِن العصبة مُوافقًا على الزواج، وإتمامُ الزواج في تلك الحال ليس مِنَ العقوق؛ لأن رفضَها والحال كما ذكرتِ محضُ تعنُّت، وكونه غريبًا عن بلدكم ليس بسببٍ يمنع الزواج، وقد نصَّ الفقهاءُ على أن الولي من الرجال إن عَضَل المرأة مِن التزويج بكفئها، إذا طلبت منه ذلك، ورغب كل واحد بصاحبه أنه يفسق بالعَضْل، وتنتقل الولاية إلى الولي الأبعد؛ فقد روى البخاري عن مَعْقِل بن يسار، قال: زوَّجت أختًا لي مِنْ رجُلٍ فطلَّقها، حتى إذا انقضتْ عدَّتُها، جاء يخطبها، فقلتُ له: زوَّجتُك، وفرشتُك، وأكرمتُك؛ فطلقتها، ثم جئتَ تخطبها؟ لا والله، لا تعود إليك أبدًا، وكان رجلًا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجعَ إليه، فأنزل الله هذه الآية: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232]، فقلت: الآن أفعل، يا رسول الله، قال: فزوجها إيَّاه.
قال ابن قدامة في "المغني": "إذا عَضَلها وليُّها الأقرب، انتقلت الولاية إلى الأبعد؛ نصَّ عليه أحمدُ، وعنه رواية أخرى: تنتقل إلى السلطان، وهو اختيار أبي بكر، وذكر ذلك عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وشريح، وبه قال الشافعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن اشتجروا، فالسلطان وليُّ مَن لا وليَّ له".
ولأن ذلك حقٌّ عليه امتنع مِن أدائه، فقام الحاكمُ مقامه، كما لو كان عليه دَيْن فامتنع مِن قضائه، ولنا أنه تعذر التزويج مِن جهة الأقرب، فملكه الأبعد، كما لو جن؛ ولأنه يفسق بالعَضْل، فتنتقل الولاية عنه، كما لو شَرِب الخمر، فإن عضل الأولياء كلهم، زوج الحاكم". اهـ.
فإن كان هذا في حق الولي الذي لا يصح النكاح إلا به، ففي حق الأم أولى وأحرى، ولكن مع مُواصلة البِرِّ بها والإحسان إليها، ولا يحملكِ غضبُ الأم على هجرِها أو مقاطعتها؛ فإن ذلك من أقبح الذنوب، وأعظم العقوق، وأكبر الفسوق.
نعم، نحن نُدرِك أن الغالب مِن حال الأمهات أنهن لا يُرِدْن إلا الخير لأبنائهن، وأنهن أكثر عاطفةً، وأنها لا تتمسك برأيها عن هوًى وتسلُّط، وأنه يمنعها من الموافقة ما تظنه مانعًا؛ ولكن لا يعني هذا أنهن مصيباتٌ دائمًا، ومن ثَمَّ وضَع لنا الشرعُ قواعد ظاهرةً واضحةً مثل الشمس؛ حتى لا يكون مَرَدُّ الأمور للاستحسان، الذي كثيرًا ما يخطئ.
ووفَّقكِ الله لكل خير.