أبي ومواقع التعارف بين الجنسين

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: مساوئ الأخلاق - الأدب مع الوالدين - استشارات تربوية وأسرية -
السؤال:

أبي في أواخر الخمسين، أرمل منذ سنوات، بدأ منذ مدة في دخول مَواقع التعارف بين الجنسين؛ كمواقع الزواج، وغيرها، وتعرَّف إلى عدة فتيات، وبعضهنَّ نساءٌ كبيراتٌ نسبيًّا، ويَعِدهن بالزواج، والغريبُ أنهن كثيرات؛ لذلك لا أظنُّه صادقًا في وعْدِه، ولا أظنهنَّ كذلك!

يطلُبْنَ منه تحويل أموال لهنَّ؛ لظروفٍ طرأتْ عليهنَّ فجأة! إما ابن مريض، أو مشروع تجاري صغير... إلخ، المشكلة أنه يُصدِّقهن، ويحوِّل الأموال، فهو صرافٌ آلي لهنَّ!

حاولتُ التلميح له بأنني وإخوتي نعلم أمره، ولا أستطيع الحديث له مباشرة عن الموضوع، ولا إخوتي يستطيعون، وأُفَكِّر في إرسال رسالة إلكترونية له تُفيده بمعرفتنا، دون الإفصاح عن أينا كتبَها، آمل أن أجد لديكم الحل المناسب!

طلَبْنا منه أن يتزوَّج منذ وفاة أمي، لكنه رفض، فأشيروا علينا ماذا نفعل؟

الإجابة:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعدُ:

فشكر الله لك -أيها الابن الكريم- غَيْرتك على مصلحة أبيك، وحرصك على طاعته، وعدم وقوعه في المعصية.

ولا يخفى عليك ما للأب مِن حقٍّ عظيمٍ في البر والإحسان، والطاعة في المعروف؛ ولهذا ينبغي أن تسعى في نجاته مما وقع فيه بكلِّ السبُل، حسب استطاعتك، برِفْقٍ ولينٍ وأدبٍ جمٍّ؛ استجابةً لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَن رأى منكم منكرًا فلْيُغَيِّره بيده، فإن لم يستطعْ فبِلسانه، فإن لم يستطعْ فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان» (رواه مسلم).

ويجب أن يكونَ الحاملُ على إنكارك عليه هو الرحمة به، والإشفاق عليه - كما يظهر مِن كلامك - ولا أنصحك أن تُصارحه بما علمت، ولو - على الأقل - في البداية؛ لما يترتب عليه مِن آثارٍ سلبيةٍ في علاقتكما، فكل أبٍ يحرص على بقاء صورته بيضاء نقيةً أمام أبنائه، كما يحرص على عدم انتهاك الحشمة بينه وبين أبنائه؛ لذلك يمكنك نُصحه بطريقةٍ غير مباشرةٍ؛ كرسالةٍ إلكترونيةٍ كما ذكرتَ، وبيِّن له خطورة تلك المواقع، وأنها مجرد فخوخٍ لاصطياد كل مَن يثق بالآخر!

وتذكَّر أن القلوب بين إصبعين مِن أصابع الرحمن سبحانه، يُقلِّبها كيف يشاء؛ كما ثبت في الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويمكن أن ألخص لك بعض الخطوات العملية:

أولًا: الإكثار من الدعاء له بظاهر الغيب بصِدقٍ وإخلاصٍ، ورغبةٍ صادقةٍ في نجاته، وتحري أوقات وأحوال الإجابة؛ فللدُّعاء سِرٌّ عجيبٌ في الهداية.

ثانيًا: يُمكنك وضْع بعض المواد المقروءة، والمسموعة، والمشاهدة؛ عن عقوبة وعاقبة ما يقوم به.

ثالثًا: استغلال المواقف والأحداث التي يكون أدعى فيها للاستجابة، وذِكْر بعض كلام أهل العلم في شُؤم المعاصي، وفي رفع الستر عن المتمادي، وحتى إن شعر بشيء فلا تهتم بذلك؛ لأن المحذور فقط هو المواجَهة التي ترفع الحشمة بين الأب وابنه.

رابعًا: تجنب الإحراج، أو جرح المشاعر، أو الأساليب الاستفزازية؛ فمردودُها شديدٌ.

خامسًا: راع في النصح غير المباشر الحالة النفسية؛ امتثالًا لقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل: 125].

فإذا لمستَ منه نفرةً في بعض الأوقات أو تأففًا، فيجب الكفُّ كما فعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مع الرجل الذي غضب عنده، واحمرَّ وجهه، وسبّ صاحبه؛ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إني لأعلم كلمةً، لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» (رواه البخاري ومسلم)، ولم يأمرْه -صلى الله عليه وسلم- بقولها؛ مراعاةً لما هو عليه من الغضب.

سادسًا: نُوصيك بالأسلوب الحاني الشفيق، الذي اتبعه خليلُ الرحمن إبراهيم -عليه السلام- في دعوة أبيه المشرِك؛ فقد كان معه غايةً في الأدب، ولين الجانب، وإظهار الخوف عليه من عذاب الله تعالى، مُكَرِّرًا لفظة: {يَا أَبَتِ}؛ وهي لفظةٌ تدل على تأدب إبراهيم -عليه السلام- في خطابه لأبيه، وتذكر الأب بعلاقة الرحم التي بينه وبين ابنه؛ قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 41 - 45]، ولما رفض أبوه الاستجابة له، وعنَّفه وهدَّده، ما كان منه إلا أن قال: {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47].

سابعًا: حاولْ أنت أو بعض إخوتك الجلوس والوجود معه في أوقات جلوسه على الحاسوب؛ كعملٍ وقائي؛ ليستحي منكم.

ثامنًا: إن شعرتَ -بعد تلك المحاوَلات- بعدم الاستجابة، فيمنكم أن تصارحوه، ولكن بحكمةٍ؛ تجنبًا لوقوعه في العِناد أو المكابَرة، فيكون الكلام معه بأسلوبٍ هادئٍ ولطيفٍ؛ لأن مَقام الأبوة عظيمٌ، فإن استجاب صلح حاله، وإلا فلا مانع من الاستعانة ببعض الأقارب، أو الأصدقاء المؤثرين؛ لإقناعه بالعدول عن علاقاته.

ونسأل الله أن يتوبَ على والدك، وأن يهديه لطريق الحقِّ والهدى إنه سميعٌ مجيبٌ.