هل يشعر الأموات بنا؟

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: الموت وما بعده -
السؤال:

هل الأموات يشْعُرون بنا ويستمعون لدعواتنا؟ وهل يَشْعرون بالوَحْدة، وبوَحْشَة القبر؟ وهل تعود الأرواحُ إلى أجسادِهم بعد خروجِها قبل يوم البَعْث؟

الإجابة:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعدُ:

فإنَّ ما يتعلق بالبَعْث والنُّشور وأحوالِ البَرْزَخ وما يشعُر به الأمواتُ، وسماعهم مِن عدمه، وغير ذلك مِن الغيب الذي يجب الإيمانُ به، وترْك الخوض فيه إلا بدليلٍ شرعي صريحٍ من الكتاب أو السنة الصحيحة، وقد ثبت أن الأموات يسمعون كلام الأحياء؛ وهو قولُ أكثر العلماء، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال عن الميت: «إنه ليسمع خفق نعالهم إذا انصرفوا»، وبخطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لقتلى بدرٍ من المشركين -بعد أن ترَكَهُم ثلاثة أيامٍ-: «يا أبا جهل بن هشامٍ، يا أمية بن خلَفٍ، يا عُتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقًّا؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقًّا»، فسمع عمرُ قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، كيف يسمعوا، وأنى يجيبوا، وقد جيَّفوا؟ قال: «والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا»، ثم أمر بهم فسحبوا، فأُلْقوا في قليب بدرٍ. (متفقٌ عليه)

وأما تفصيلات ذلك السماع فلا نعرفه؛ لعدم ورود الأدلة في كيفية ذلك السماع؛ ولذلك قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة -رحمه الله- لما سئل: هل الميت يسمع كلام زائره؟ فأجاب: "نعم يسمع الميت في الجملة"، ثم قال: بعد ذكر أدلة سماع الأموات: "فهذه النصوصُ وأمثالُها تُبَيِّن أن الميت يسمع في الجملة كلام الحي، ولا يجب أن يكون السمعُ له دائمًا، بل قد يسمع في حالٍ دون حالٍ، كما قد يعرض للحي، فإنه قد يسمع أحيانًا خطاب مَن يخاطبه، وقد لا يسمع لعارضٍ يعرض له، وهذا السمع سمع إدراكٍ ليس يترتب عليه جزاءٌ". ا.هـ مِن مجموع الفتاوى (24/ 364).

والحقُّ الذي لا مراء فيه أنَّ الميتَ يشعُر ويسمع كلام الحي في الجملة، ولا يجب أن يكونَ السمعُ له دائمًا، بل قد يسمع في حالٍ دون حالٍ؛ كما قرَّره شيخُ الإسلام ابن تيميَّة.

وإن كنت أُذَكِّر الأخت الكريمة بأن العلمَ بشعور الميت وسماعه لغيره لا ينفع في شيءٍ غير الإيمان بذلك، والتصديق بخبر الصادق المصدوق، وعلينا - جميعًا - أن نشغلَ أنفُسنا بتعلُّم ما يُقَرِّبنا إلى الله، وجنته، ونعيمه، وما يُبعده عن غضب ربه.

وأما السؤال عما إذا كان الميت يشعُر بالوحدة، أو وحشة القبر؟

فالذي يظهر مِن عموم الأدلة -في هذا الباب- أن ذلك يختلف باختلاف الأموات؛ كما في حديث البراء بن عازبٍ الطويل: «إنَّ العبد المؤمن إذا كان في انقطاعٍ مِن الدنيا، وإقبالٍ مِن الآخرة، نزل إليه مِن السماء ملائكةٌ بيض الوجوه، كأنَّ وُجوههم الشمس، حتى يجلسون منه مد البصر، معهم كفنٌ مِن أكفان الجنة، وحنوطٌ مِن حنوط الجنة، ثم يجيء ملكُ الموت، فيقعد عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوانٍ، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فإذا أخذوها لم يدعوها في يده طرفة عينٍ، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفَن، وذلك الحنوط، فيخرج منها كأطيب نفحة مسكٍ وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملكٍ من الملائكة، إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: هذا فلان بن فلانٍ؛ بأحسن أسمائه التي كان يُسمى بها في الدنيا، حتى ينتهون بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح، فيفتح لهم، فيستقبله من كل سماءٍ مُقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي به إلى السماء السابعة، قال: فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عليين في السماء الرابعة، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارةً أخرى، فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولان: ما عملك؟ فيقول: قرأتُ كتاب الله، وآمنتُ به، وصدقتُ به، فينادي منادٍ من السماء أنْ صدق عبدي؛ فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، فيأتيه من طيبها، وروحها، ويفسح له في قبره مدّ بصره، ويأتيه رجلٌ حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يَسُرُّك هذا يومك الذي كنت تُوعد، فيقول: ومَن أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملُك الصالح، فيقول: ربّ أقم الساعة، أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي، وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا، وإقبالٍ من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكةٌ سود الوجوه معهم المسوح، حتى يجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: يا أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط الله وغضبه، قال: فتفرق في جسده، قال: فتخرج فينقطع معها العروق والعصب؛ كما تنزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذوها، فإذا أخذوها لم يدعوها في يده طرفة عينٍ، حتى يأخذوها، فيجعلوها في تلك المسوح، فيخرج منها كأنتن ريح جيفةٍ وجدت على ظهر الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملكٍ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلانٍ بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى سماء الدنيا فيستفتحون، فلا يفتح له»، ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، قال: «فيقول الله -عز وجل-: اكتبوا كتاب عبدي في سجينٍ في الأرض السفلى، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارةً أخرى، قال: فتُطرح روحه طرحًا»، قال: ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}[الحج: 31]، قال: «فتعاد رُوحه في جسده، ويأتيه الملكان فيجلسانه، فيقولان له: مَن ربك؟ فيقول: ها ها لا أدري، فيقولان له: وما دينك؟، فيقول: ها ها لا أدري، قال: فينادي منادٍ من السماء: أفرشوا له من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، قال: فيأتيه مِن حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف عليه أضلاعُه، ويأتيه رجلٌ قبيح الوجه، وقبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوءك؛ هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة».

وأما سؤالك: هل تعود الأرواح إلى الأجساد قبل يوم البعث؟

قال ابن القيم في "الروح" (ص: 74): "جعل الله -سبحانه وتعالى- لابن آدم معادين وبعثين يجزي فيهما الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.

فالبعث الأول: مُفارَقة الروح للبدن، ومصيرُها إلى دار الجزاء الأول.

والبعث الثاني: يوم يرد الله الأرواح إلى أجسادها، ويبعثها مِن قبورها إلى الجنة أو النار". انتهى.

وقال في الفوائد (ص: 5): "وتأمَّل كيف دلَّت السورة - صريحًا - على أنَّ الله - سبحانه - يعيد هذا الجسد بعينه الذي أطاع وعصى، فينعمه، ويعذبه، كما ينعم الروح التي آمنت بعينها، ويعذب التي كفرت بعينها". انتهى.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (24/ 365): "وأما قول القائل: هل تُعاد روحه إلى بدنه ذلك الوقت، أم تكون ترفرف على قبره في ذلك الوقت وغيره؟

فإن روحه تُعاد إلى البدن في ذلك الوقت؛ كما جاء في الحديث، وتعاد -أيضًا- في غير ذلك، وأرواح المؤمنين في الجنة كما في الحديث الذي رواه النسائي، ومالكٌ، والشافعي، وغيرهم: «أنَّ نسمة المؤمن طائرٌ يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه»، وفي لفظٍ: «ثم تأوي إلى قناديل معلقةٍ بالعرش»، ومع ذلك فتتصل بالبدن متى شاء الله، وذلك في اللحظة بمنزلة نزول الملك، وظهور الشعاع في الأرض، وانتباه النائم.

هذا وجاء في عدة آثارٍ: أن الأرواح تكون في أفنية القبور؛ قال مجاهدٌ: الأرواح تكون على أفنية القبور سبعة أيامٍ من يوم دفن الميت لا تفارقه، فهذا يكون أحيانًا، وقال مالك بن أنسٍ: بلغني أنَّ الأرواح مُرسَلةٌ تذهب حيث شاءتْ. والله أعلم". اهـ.

رَزَقَنا الله جميعًا صدق الإيمان بالغيب.