تأويل قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ}
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: القرآن وعلومه - التفسير -
هل يَصِحُّ تأويل قوله تعالى: ﴿ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ﴾ [الدخان: 25 - 29] على حال الغانيات والمشاهير والراقصات الذين شغلتْهم الدنيا وزينتها عن الآخرة، وذلك في دروس الوعظ والترغيب في الآخرة، دون ذِكْر اسم أحدٍ مُعينٍ.
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ عَلَى رسولِ اللهِ، وعَلَى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فقد ذَكَر اللهُ تعالى في تلك الآيات الكريماتِ هَلاكَ قومٍ عصوا الله تعالى، فلم تبكِ عليهمُ السماء والأرضُ؛ أي: لم يُحْزَن عليهم، ولم يُؤْسَ على فراقِهم، بل كلٌّ استبشر بهلاكِهم وتلَفِهم، حتى السماء والأرض؛ لأنهم ما خَلَّفوا مِن آثارهم إلا ما يُسَوِّد وُجوههم، ويُوجِب عليهم اللعنةَ والمَقْتَ مِن العالمين، فهذه هي علةُ ذلك الحكم أنهم أَبَوْا أن يسمعوا مِن رسولهم؛ فكان مَصْرَعُهم في هَوانٍ بعد الاستِعلاء والاستكبار، واللهُ تعالى العليمُ الحكيمُ قد ذكَر لنا في كتابه العظيمِ ذلك؛ لإيقاظِ ما رَكَزَهُ في قلوبنا وفِطَرِنا وعُقولنا مِن التسْوية بين المتماثلَيْنِ في الحكم؛ فنُدرك أنه عذَّب أولئك لعصيانهم، وأنَّ كل مَن عصاه ناله العذابُ، فالحكمُ عامٌّ شاملٌ على مَن سلَك سبيلهم، واتَّصَف بصِفَتِهم، فنَبَّه سبحانه عبادَه على نفس هذا الاستدلال، وتعدية الحكم الخاص إلى العموم لعموم العلة؛ كما قال تعالى عقيب إخباره عن عقوبات الأمم المكذِّبة لرُسُلِهم وما حل بهم: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 43]، وقال عقيب إخباره عن عقوبة قوم عادٍ حين رأَوا العارضَ في السماء فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24]، فقال تعالى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[الأحقاف: 24- 26].
فحكمُنا هو حكمُهم، فإذا أهْلَكَهُم اللهُ بمَعصيتهم، ولم يدفعْ عنهم ما مُكِّنُوا فيه مِن أسباب الدنيا، فنحن كذلك؛ وهذا مَحْضُ عدْلِ الله بين عبادِه.
هذا؛ ومِن هذا الباب أنَّ الله تعالى أَمَرَنا بالتأمُّل في كتابه المنظور والمأثور والمقروء لنفس لتلك العلة فقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10]، فأخبر أنَّ حكم الشيء حُكم مثله؛ لنحذرَ أن يَحُلَّ بنا ما حلَّ بأولئك، بالاعتبار بما حلَّ بالمكذبين، ولِنُدْرِكَ أن الحياة فتنة وابتلاء، وأن الإملاءَ للعصاة فترةً مِن الزمان، وهم يستكبرون على الله، ويُؤذون المؤمنين - فتنةٌ وابتلاء كذلك، وأن وراء ذلك الأخْذ الأليم، والبطش الشديد.
ومن أروع ما قيل في آيات سورة الدخان ما "في ظلال القرآن" (5/ 3214):
"ويبدأ المشهدُ بصور النعيم الذي كانوا فيه يرفلون؛ جنات، وعيون، وزروع، ومكان مرموق، ينالون فيه الاحترامَ والتكريم، ونعمة يلْتَذُّونها ويطعمونها، ويعيشون فيها مسرورين محبورين، ثم يُنْزَع هذا كله منهم، أو يُنزعون منه، ويَرِثه قومٌ آخرون.
وفي موضعٍ آخر قال: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 59]، وبنو إسرائيل لم يَرِثوا مُلكَ فرعون بالذات، ولكنهم ورثوا مُلكًا مثله في الأرض الأخرى، فالمقصودُ إذًا هو نوعُ الملك والنعمة، الذي زال عن فرعونَ ومَلَئِه، وورثه بنو إسرائيل! ثم ماذا؟ ثم ذهب هؤلاءِ الطغاةُ الذين كانوا ملء الأعين والنفوس في هذه الأرض، ذهبوا فلم يأسَ على ذَهابهم أحدٌ، ولم تشعرْ بهم سماءٌ ولا أرضٌ، ولم يُنْظَروا أو يُؤَجَّلوا عندما حَلَّ الميعاد: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29].
وهو تعبيرٌ يُلقي ظلالَ الهوان، كما يُلقي ظلال الجفاء، فهؤلاءِ الطغاةُ المتعالون لم يشعرْ بهم أحدٌ في أرضٍ ولا سماء، ولم يأسَفْ عليهم أحدٌ في أرضٍ ولا سماء، وذهبوا ذهاب النِّمال، وهم كانوا جبَّارين في الأرض، يطَؤُون الناسَ بالنِّعال! وذهبوا غير مأسوفٍ عليهم، فهذا الكونُ يَمْقُتُهم لانفصالهم عنه، وهو مؤمنٌ بربه، وهم به كافرون! وهم أرواحٌ خبيثةٌ شريرةٌ منبوذة مِن هذا الوجود وهي تعيش فيه! ولو أحَسَّ الجبَّارون في الأرض ما في هذه الكلمات مِن إيحاءٍ؛ لأدْركوا هوانهم على الله، وعلى هذا الوجود كله، ولأدركوا أنهم يعيشون في الكونِ مَنبوذين منه، مَقْطوعين عنه، لا تربطهم به آصِرَةٌ، وقد قطعتْ آصرة الإيمان". اهـ.
والحاصلُ أنه يمكنك أن تخوِّفَ هؤلاءِ العصاةَ بتلك الآيات الكريمات، وتأويلها عليهم، لا سيما إن كانوا مُصِرِّين على تلك الكبائر، ولتذكرهم بكلام شيخ الإسلام ابن القيم في "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" (1/ 336) تعليقًا على الحديث القدسي: «
»، قال: "فاعلمْ أن هذا النفيَ العام للشرك -ألا يشركَ بالله شيئًا ألْبَتَّة- لا يَصْدُر مِن مُصِرٍّ على مَعصيةٍ أبدًا، ولا يُمْكِن مُدمنَ الكبيرة والمُصِرَّ على الصغيرة أن يصفُوَ له التوحيد، حتى لا يشركَ بالله شيئًا، هذا من أعظم المُحال، ولا يلتفت إلى جَدَلِيٍّ لا حَظَّ له مِن أعمال القلوب، بل قلبُه كالحجر أو أقسى، يقول: وما المانع؟ وما وجه الإحالة؟ ولو فُرِض ذلك واقعًا لم يلزمْ منه مُحالٌ لذاتِه!فدعْ هذا القلب المفتون بجدَلِه وجَهْلِه، واعلمْ أن الإصرارَ على المعصية يُوجِب من خوف القلب مِن غير الله، ورجائه لغير الله، وحبه لغير الله، وذُلِّه لغير الله، وتوكُّلِه على غير الله ما يَصير به مُنْغَمِسًا في بِحار الشرك، والحاكمُ في هذا ما يعلمه الإنسانُ مِن نفسه، إن كان له عقلٌ، فإن ذُلَّ المعصية لا بد أن يقومَ بالقلب، فيورثه خوفًا مِن غير الله، وذلك شركٌ، ويورثه محبة لغير الله، واستعانةً بغيره في الأسباب التي تُوَصِّله إلى غرَضِه، فيكون عمله لا بالله ولا لله، وهذا حقيقةُ الشرك.
نعم قد يكون معه توحيدُ أبي جهل، وعُبَّادُ الأصنام، وهو توحيدُ الربوبية، وهو الاعترافُ بأنه لا خالق إلا الله، ولو أنجى هذا التوحيد ُوحده لأنجى عُبَّاد الأصنام، والشأن في توحيد الإلهية الذي هو الفارقُ بين المشركين والمُوَحِّدين.
والمقصودُ أن مَن لم يشركْ بالله شيئًا يستحيل أن يلقى الله بقُراب الأرض خطايا، مُصِرًّا عليها، غير تائبٍ منها، مع كمال توحيده الذي هو غاية الحبِّ والخضوع، والذُّل والخوف والرجاء للرب تعالى".
غفر الله لنا ولجميع العُصاة.