من المقصود في هذه الآيات؟
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: التفسير -
السؤال: أرفع إلى فضيلتكم هذه الرسالة التي تحتوي على أسئلةٍ حول آيات الله سبحانه وتعالى حيث أريد أن يتبين لي الحق مِن الباطل، والصِّدق من الكذب، والهدى من الضلال، حول هذه الآيات، وهي كالآتي:
1- قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29]، ما معنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ مَعَهُ}؟ هل يعني الصحابة؟ أو آل بيت رسول الله؟ أو جميعهم؟
2- قوله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62]؛ ما المقصود بالمؤمنين في الآية: هل يعني الصحابة؟ أو آل بيت رسول الله؟ أو جميعهم؟
3- قال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]، ما المقصود بالمهاجرين والأنصار في الآية؟ هل هم آل بيت رسول الله؟ أو الصحابة فقط من غير آل بيت رسول الله؟
4- قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]، ما سبب التنصيص على رضا الله تعالى عن المهاجرين والأنصار في هذه الآية الكريمة؟ هل هو لبيان شرف الصحابة وبيان منزلتهم عند الله؟ أو لحسن اتباعهم للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
5- قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب: 6]، هل تدل هذه الآية على ولاية النبي على الصحابة؟ أو على بيان شرف أمهات المؤمنين زوجات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
6- قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]، ما المقصود بمن سبق بالإيمان؟ هل يعني: آل البيت والصحابة؟ أو يعني: قريشًا؟
7- والسؤال الأخير هو: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو كنتُ متخذًا خليلًا، لاتخذتُ أبا بكر خليلًا، ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله صاحبكم خليلًا"، ما سبب حب النبي لأبي بكر؟ هل لأنه أول مَن آمن به وصدَّقه؟ أو لأنه مِن قريش؟
1- قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29]، ما معنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ مَعَهُ}؟ هل يعني الصحابة؟ أو آل بيت رسول الله؟ أو جميعهم؟
2- قوله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62]؛ ما المقصود بالمؤمنين في الآية: هل يعني الصحابة؟ أو آل بيت رسول الله؟ أو جميعهم؟
3- قال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]، ما المقصود بالمهاجرين والأنصار في الآية؟ هل هم آل بيت رسول الله؟ أو الصحابة فقط من غير آل بيت رسول الله؟
4- قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]، ما سبب التنصيص على رضا الله تعالى عن المهاجرين والأنصار في هذه الآية الكريمة؟ هل هو لبيان شرف الصحابة وبيان منزلتهم عند الله؟ أو لحسن اتباعهم للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
5- قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب: 6]، هل تدل هذه الآية على ولاية النبي على الصحابة؟ أو على بيان شرف أمهات المؤمنين زوجات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
6- قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]، ما المقصود بمن سبق بالإيمان؟ هل يعني: آل البيت والصحابة؟ أو يعني: قريشًا؟
7- والسؤال الأخير هو: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو كنتُ متخذًا خليلًا، لاتخذتُ أبا بكر خليلًا، ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله صاحبكم خليلًا"، ما سبب حب النبي لأبي بكر؟ هل لأنه أول مَن آمن به وصدَّقه؟ أو لأنه مِن قريش؟
الإجابة: الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحْبه ومَن والاه.
أمَّا بعدُ:
قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] الآية.
أثنى الله على رسوله محمد بن عبدالله، ووصفَه بكلِّ وصفٍ جميل، وثَنَّى بالثناء على أصحابه رضي الله عنهم الذين معه، أنهم أشداءُ على الكُفَّار، رُحماء بينهم، فهم مَن اختارهم الله لصُحبة نبيِّه، وبعثه فيهم؛ قال الإمام الطبريُّ في تفسيره "جامع البيان"؛ ت شاكر (22/ 261): "يقول تعالى ذِكْره: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ}، وأتباعُه من أصحابه الذين هم معه على دينه، {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ}؛ غليظة عليهم قلوبهم، قليلة بهم رحمتهم، {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، يقول: رقيقة قلوب بعضهم لبعض، ليِّنة أنفسهم لهم، هيِّنة عليهم لهم".
وقال (22/ 266): "أي: هذا المثل في التوراة، {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} [الفتح: 29]، فهذا مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإنجيل".
وقال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة في "مجموع الفتاوى" (4/ 463 - 464): "فهذا يتناول الذين آمَنوا مع الرسول مُطلقًا، وقد استفاض عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الصحاح وغيرها من غير وجهٍ".
وكذلك عناهم الله عز وجل في قوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]، وقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18].
فالسابقون الذين أسلموا قبل الحديبية كالذين بايَعوا النبي تحت الشجرة، وأنزل الله فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}، وكانوا أكثرَ مِن ألف وأربعمائة، وكلهم مِن أهل الجنة؛ كما في الحديث الذي رواه مسلم: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل النار أحدٌ بايَع تحت الشجرة"، وعناهم الله تعالى بقوله: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]، وبقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72]، إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ . وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 74، 75]، وبقوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 26]، وكانوا من المؤمنين الذين أنزَل الله سكينتَه عليهم مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في غزوة الطائف لما حاصروا الطائف، فهذه الآيات عامَّة في جميع الصحابة؛ سواء منهم آل بيته، أو غيرهم، وقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ . وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 8 - 10]، فهذه الآيات تتناول السابقين الأوَّلين الذين آمنوا مطلقًا، ويدخل فيها كلُّ مَن جاء بعدهم إلى يوم القيامة، فكيف لا يدخل فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أول من آمنوا به وجاهَدوا معه؟!
هذا، وقد استفاض عنِ النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثَ كثيرة الثناءُ عليهم، وبيانُ فضائلهم؛ فعن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قَرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يَلونهم"، وعن أبي سعيد الخدري عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي على الناس زمان، يغزو فِئام من الناس، فيُقال لهم: فيكم مَن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيُفتح لهم، ثم يغزو فئام مِن الناس، فيقال لهم: فيكم مَن رأى من صَحِب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيُفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: هل فيكم من رأى مَن صَحِب مَن صحِب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيُفتح لهم" رواهما مسلم.
وعن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبُّوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفَق مثل أُحُدٍ ذهبًا، ما أدرك مدَّ أحدهم ولا نصيفه" [متفق عليه].
والصُّحبة: اسم جنس، تقع على كلِّ من صَحِب النبي صلى الله عليه وسلم قليلًا أو كثيرًا، ورآه مؤمنًا به، فله من الصُّحبة بقدر ذلك، وفي الصحيحين عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ولو كنتُ متخذًا خليلًا، لاتخذتُ أبا بكر خليلًا، ولكن أخوَّة الإسلام"، وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد كان يكون في الأمم قبلكم مُحدَّثون، فإن يكن في أُمتي منهم أحد، فإن عمر بن الخطاب منهم"، وقوله عن عثمان: "ألا أستحيي مِن رجل تستحيي منه الملائكة" [رواه مسلم]، وقوله كما في الصحيحين: "لأعطينَّ الراية رجلًا يفتح الله على يديه، فقاموا يرجون لذلك أيهم يُعطى، فغدوا وكلهم يرجو أن يُعطى، فقال: أين علي؟"))، وقال صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "لكل نبي حواري، وحواري الزبير".
وقال صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله ليُلين قلوب رجال فيه، حتى تكون ألينَ من اللبن، وإن الله ليشد قلوب رجال فيه، حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال: {مَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، ومثلك يا أبا بكرٍ كمثلِ عيسى قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، وإن مثلك يا عمر كمثل نوح، قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، وإن مثلك يا عُمر كمثل موسى، قال: {رَبِّ اشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88]" [رواه أحمد].
وكانا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وزيريه، وفي الصحيح عن ابن عباس قال: "وُضِع عمر بن الخطاب على سريره، فتكنَّفه الناس يدعون، ويُثنون، ويصلون عليه، قبل أن يُرفع، وأنا فيهم، قال: فلم يَرُعني إلا برجلٍ قد أخذ بمَنكبي من ورائي، فالتفتُّ إليه، فإذا هو علي، فترحَّم على عمر، وقال: ما خلفت أحدًا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك، وأيم الله، إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، وذاك أني كنت كثيرًا أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر"، فإن كنت لأرجو، أو لأظن، أن يجعلك الله معهما" [رواه مسلم].
وفي "صحيح البخاري" في قصة غزوة أُحد لما انهزَم أكثر المسلمين، قال أبو سفيان: "أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يُجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاث مرات، ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ ثلاث مرات، ثم رجع إلى أصحابه، فقال: أمَّا هؤلاء، فقد قُتِلوا، فما ملك عمر نفسه، فقال: كذبت والله يا عدو الله، إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقِي لك ما يسوءُك"، فهذا أبو سفيان قائد الأحزاب، لم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة؛ لعلْمه أنهم رؤوس عسكر المسلمين.
أما مَن عناهم الله تعالى في قوله: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62]؛ أي: إنك بمعونة سماوية، وهو النصر منه الذي لا يقاومه شيء، ومعونة بالمؤمنين بأن قيَّضهم لنصرك، {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: بالأنصار، وإنما أيَّده في حياته بالصحابة.
وقال: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].
فالذي كان معه حين نصره الله، {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا}، هو أبو بكر، وكانا اثنين الله ثالثهما، وكذلك لَمَّا كان يوم بدر، لما صُنِع له عريش، كان الذي دخل معه في العريش دون سائر الصحابة أبا بكر، وكل من الصحابة له في نَصْر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعيٌ مشكور، وعمل مبرور؛ قال الإمام أبو جعفر الطبري كما في تفسيره جامع البيان؛ ت شاكر (14/ 44): "يقول تعالى ذكره: وإن يرد يا محمد هؤلاء الذين أمرتُك بأن تَنبذ إليهم على سواء إن خفت منهم خيانةً، وبمسالمتهم إن جنحوا للسلم - خداعك والمكر بك، {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ}، يقول: فإن الله كَافيكهم، وكافيكَ خِداعَهم إياك؛ لأنه مُتكفِّلٌ بإظهار دينك على الأديان، ومُتَضَمِّنٌ أن يجعل كلمته العليا، وكلمة أعدائه السفلى، {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ}، يقول: اللهُ الذي قَوَّاكَ بنصره إيَّاك على أعدائِه، {وَبِالْمُؤْمِنِينَ}؛ يعني: بالأنصار، ثم رواه عن السُّدي.
أما من قال من الروافض: إن المقصود بالمؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقط، فقد أجاب عن هذا شيخ الإسلام ابن تيميَّة في "منهاج السنة النبوية" من وجوه، فراجِعها (7/ 194 - 200).
وكذلك المقصود بالمهاجرين والأنصار في الآيات: الصحابة عند جميع المفسرين، وهو نصُّ الآية، وهذا ما لا خلاف فيه؛ كما قال عبدالله بن مسعود: "إن الله نظر في قلب محمد، فوجَد قلبه خير قلوب العباد، فاصطفاه لرسالته، ثم نظر في قلوب الناس بعد قلبه، فوجَد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فما رآه المؤمنون حسنًا، فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحًا، فهو عند الله قبيح"، وقال أيضًا: "مَن كان منكم مستنًّا، فليستنَّ بمَن قد مات؛ فإنَّ الحي لا تُؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبرُّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلُّفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيِّه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقَّهم، وتمسَّكوا بهدْيهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم".
فهذه الآية وغيرها مِن الآيات التي ذكرناها والتي سألت عنها تتضمَّن الثناء على المهاجرين والأنصار، وعلى الذين جاؤوا من بعدهم؛ يستغفرون لهم، ويسألون الله ألا يجعل في قلوبهم غِلًّا لهم، ولا شكَّ أن من لا يستغفر لهم، وفي قلوبهم غلٌّ عليهم كالرافضة لا نصيب لهم من ذلك، وكفى به حرمانًا وخِذلانًا!
هذا، ونحن نشهد أن الله تعالى أخبر برضاه عن صحابة نبيِّه، ولحِق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، ومن رضِي الله عنه ورسوله، لا يضره غضب أحد من الخلق عليه كائنًا من كان.
هذا، وقد زعم الرافضة أيضًا أن هذه الآية الكريمة المقصود بها علي بن أبي طالب، ورووا ذلك عن ابن عباس بإسناد باطل، وراجع الجواب على هذا في "منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدَرية"؛ لشيخ الإسلام أبي العباس بن تيمية (7/ 153 - 156).
أما معنى قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]، فقد أوجب الله طاعة نبيِّه، والانقياد لأمره، والتأسي بفعله، وجعَله أولى بالمسلمين من أنفسهم، وذاك من لوازم الرسالة، وأوجَب على الأمة لأجْله احترامَ أزواجه، وجعلهن أُمهات في التحريم والاحترام، ومن المعلوم أن كلَّ واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يقال لها: "أم المؤمنين"، وهنَّ: عائشة، وحفصة، وزينب بنت جحش، وأم سلمة، وسَودة بنت زمعة، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، وصفية بنت حُيي بن أخطب الهارونية رضي الله عنهنَّ وهذا أمر معلوم للأمة علمًا عامًّا، وقد أجمع المسلمون على تحريم نكاح هؤلاء بعد موته على غيره، وعلى وجوب احترامهن، فهن أُمهات المؤمنين في الحرمة والاحترام؛ قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في "مجموع الفتاوى" (1/ 68): "قال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده، والناس أجمعين، وقال له عمر: والله يا رسول الله، لأنت أحب إليَّ من كل أحد، إلا مِن نفسي، فقال: لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال: فأنت أحب إلي من نفسي، قال: الآن يا عمر".
فقد بيَّن الله في كتابه حقوق الرسول من الطاعة له، ومحبَّته، وتعزيره، وتوقيره، ونصره، وتحكيمه، والرضا بحُكمه، والتسليم له، واتِّباعه، والصلاة والتسليم عليه، وتقديمه على النفس والأهل والمال، ورد ما يُتنازع فيه إليه، وغير ذلك من الحقوق، وأخبر أن طاعتَه طاعتُه، فقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} [النساء: 80]، ومُبايعتَه مبايعَتُه، فقال: {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ} [الفتح: 10]، وقَرَن بين اسمه واسْمه في المحبة، فقال: {أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 24]، وفي الأذى، فقال: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57]، وفي الطاعة والمعصية، فقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء: 13]، {وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ} [النساء: 14]، وفي الرضا، فقال: {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]، فهذا ونحوه هو الذي يستحقه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي".
أما سؤالك عن سبب حبِّ النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وتقديمه على سائر الصحابة، وما ورد في فضائله الكثيرة، فهذا مما لا يرتاب فيه مسلمٌ، وأخشى أن تكونَ قرأت ما تقوله الرافضة في شيخ الإسلام والمسلمين الصِّديق الأكبر؛ ففي كلامهم من الأكاذيب والبهت والفِرية، ما لا يعرف مثله لطائفة من طوائف المسلمين، لشَبههم القوي من اليهود؛ فإنهم قومُ بهتٍ، يريدون أن يُطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتمَّ نوره ولو كرِه الكافرون.
وسأنقل لك مختصرًا ردَّ شيخ الإسلام على الروافض في تنقصهم من الصِّديق الأكبر رضي الله عنه، فقال رحمه الله في "منهاج السنة النبوية" (8/ 371 - 428): "وظهور فضائل شيخَي الإسلام أبي بكر وعمر، أظهر بكثير عند كل عاقل من فضل غيرهما؛ فيريد هؤلاء الرافضة قلب الحقائق، ولهم نصيب من قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} [الزُّمَر: 32]، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يُونُسَ: 17]، ونحو هذه الآيات.
فإن القوم من أعظم الفرَق تكذيبًا بالحق، وتصديقًا بالكذب؛ وليس في الأمة مَن يماثلهم في ذلك، ثم قال: إن الفضيلة في الغار ظاهرة بنص القرآن؛ لقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التَّوْبَةِ: 40]، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله معه ومع صاحبه؛ كما قال لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46].
وقد أخرجا في "الصحيحين" من حديث أنس عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: "نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدَميه، لأبصرنا، فقال: يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما؟".
وهذا الحديث مع كونه مما اتَّفق أهل العلم بالحديث على صحته، وتلقِّيه بالقَبول والتصديق، فلم يختلف في ذلك اثنان منهم، فهو مما دلَّ القرآن على معناه؛ يقول: "إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" [التوبة: 40].
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لصِدِّيقه: "إن الله معنا"، يدل على أنه موافق لهما بالمحبة والرضا فيما فعَلاه، وهو مؤيِّد لهما، ومُعين وناصر، وهذا صريح في مشاركة الصديق للنبي في هذه المعيَّة التي اختص بها الصِّديق لم يشركه فيها أحد من الخلْق.
والمقصود هنا: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "إن الله معنا"، هي معية الاختصاص التي تدل على أنه معهم بالنصر والتأييد والإعانة على عدوِّهم، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن الله ينصرني وينصرك يا أبا بكر على عدوِّنا، ويُعيننا عليهم.
ومعلوم أن نصر الله نصر إكرام ومحبة؛ كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غَافِرٍ: 51]، وهذا غاية المدح لأبي بكر؛ إذ دلَّ على أنه ممن شهِد له الرسول بالإيمان المقتضي نصر الله له مع رسوله، وكان متضمنًا شهادة الرسول له بكمال الإيمان المقتضي نصر الله له مع رسوله في مثل هذه الحال التي بيَّن الله فيها غناه عن الخلق، فقال: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التَّوْبَةِ: 40].
ولهذا قال سفيان بن عُيينة وغيره: إن الله عاتب الخلق جميعهم في نبيِّه إلا أبا بكر، وقال: مَن أنكر صحبة أبي بكر، فهو كافر؛ لأنه كذَّب القرآن.
وكذلك قوله: "ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما"، بل ظهر اختصاصهما في اللفظ، كما ظهر في المعنى، فكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم: محمد رسول الله، فلما تولَّى أبو بكر بعده، صاروا يقولون: وخليفة رسول الله، فيضيفون الخليفة إلى رسول الله المضاف إلى الله، والمضاف إلى المضاف مضاف تحقيقًا لقوله: "إن الله معنا"، و"ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما"، ثم لما تولَّى عمر بعده، صاروا يقولون: أمير المؤمنين، فانقطع الاختصاص الذي امتاز به أبو بكر عن سائر الصحابة.
فإذا عُرِف أن الصحبة: اسم جنس، تعمُّ قليل الصحبة وكثيرها، وأدناها أن يَصحبه زمنًا قليلًا، فمعلوم أن الصِّديق في ذِروة سَنام الصُّحبة، وأعلى مراتبها، فإنه صحِبه من حين بعثَه الله إلى أن مات، وقد أجمع الناس على أنه أول مَن آمَن به من الرجال الأحرار، كما أجمعوا على أن أول من آمَن به من النساء خديجة، ومن الصبيان علي، ومن الموالي زيد بن حارثة، وتنازعوا في أول من نطَق بالإسلام بعد خديجة، فإن كان أبو بكر أسلم قبل علي، فقد ثبَت أنه أسبق صُحبةً، كما كان أسبق إيمانًا، وإن كان علي أسلَم قبله، فلا ريب أن صحبة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم كانت أكمل وأنفع له من صحبة علي ونحوه؛ فإنه شارَكه في الدعوة، فأسلم على يديه أكابر أهل الشورى؛ كعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبدالرحمن، وكان يدفع عنه مَن يؤذيه، ويخرج معه إلى القبائل، ويُعينه في الدعوة، وكان يشتري المعذَّبين في الله؛ كبلال وعمَّار وغيرهما، فإنه اشترى سبعةً من المعذَّبين في الله، فكان أنفع الناس له في صُحبته مطلقًا.
ولا نزاع بين أهل العلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أن مصاحبة أبي بكر له كانت أكمل من مصاحبة سائر الصحابة من وجوه:
أحدها: أنه كان أدوم اجتماعًا به ليلًا ونهارًا، وسفرًا وحضرًا؛ كما في "الصحيحين" عن عائشة أنها قالت: "لم أعقل أبوَي قط إلا وهما يَدينان الدين، ولم يَمض علينا يوم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينا فيه طرَفي النهار".
فكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يذهب إلى أبي بكر طرفي النهار، والإسلام إذ ذاك ضعيف، والأعداء كثيرة، وهذا غاية الفضيلة، والاختصاص في الصحبة.
وأيضًا فكان أبو بكر يَسمُر عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد العشاء، يتحدث معه في أمور المسلمين دون غيره من أصحابه.
وأيضًا فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استشار أصحابه، أوَّل مَن يتكلم أبو بكر في الشورى، وربما تكلَّم غيره، وربما لم يتكلَّم غيره، فيعمل برأيه وحْده، فإذا خالفه غيره، اتَّبع رأيه دون رأي مَن يخالفه.
المطلوب أن الصِّديق أكمل القوم وأفضلهم، وأسبقهم إلى الخيرات، وأنه لم يكن فيهم من يساويه، وهذا أمر بيِّنٌ، لا يشك فيه إلا من كان جاهلًا بحالهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم أو كان صاحب هوًى، صده اتِّباع هواه عن معرفة الحق، وإلا فمَن كان له علم وعدل، لم يكن عنده في ذلك شك، كما لم يكن عند أهل العلم والإيمان شك، بل كانوا مُطبقين على تقديم الصِّديق وتفضيله على مَن سواه، كما اتَّفق على ذلك علماء المسلمين وخيارهم من الصحابة، والتابعين وتابعيهم، وهو مذهب مالك وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأحمد وأصحابه، وداود وأصحابه، والثوري وأصحابه، والأوزاعي وأصحابه، والليث وأصحابه، وسائر العلماء الذين لهم في الأمة لسان صدقٍ.
أيضًا ففي المواضع التي لا يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم من أكابر الصحابة إلا واحد، كان يكون هو ذلك الواحد، مثل سفره في الهجرة، ومقامه يوم بدر في العريش؛ فلم يكن معه فيه إلا أبو بكر، ومثل خروجه إلى قبائل العرب يدعوهم إلى الإسلام، كان يكون معه من أكابر الصحابة أبو بكر.
وهذا الاختصاصُ في الصحبة لم يكن لغيره باتفاق أهل المعرفة بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأما من كان جاهلًا أحوال النبي صلى الله عليه وسلم أو كذابًا، فذلك يخاطب خطاب مثله.
فقوله تعالى في القرآن: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ} [التَّوْبَةِ: 40]، لا يختص بمصاحبته في الغار، بل هو صاحبه المطلق الذي كمُل في الصحبة كمالًا لم يشركه فيه غيره، فصار مختصًّا بالأكملية من الصحبة؛ كما في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيها الناس، اعرفوا لأبي بكر حقَّه، فإنه لم يَسؤني قط، أيها الناس إني راضٍ عن عمر وعثمان وعلي، وفلان وفلان".
فقد تبيَّن أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خصَّه دون غيره، مع أنه قد جعل غيره من أصحابه أيضًا، لكن خصَّه بكمال الصحبة؛ ولهذا قال من قال من العلماء: إن فضائل الصديق خصائص لم يشركه فيها غيره.
ومَن أراد أن يعرف فضائلهم ومنازلهم عند النبي صلى الله عليه وسلم فليتدبَّر الأحاديث الصحيحة التي صحَّحها أهل العلم بالحديث، الذين كمُلت خِبرتهم بحال النبي صلى الله عليه وسلم ومحبَّتهم له، وصِدقهم في التبليغ عنه، وصار هواهم تبعًا لما جاء به، فليس لهم غرضٌ إلا معرفة ما قاله، وتمييزه عما يخلط بذلك من كذب الكاذبين، وغلط الغالطين، كأصحاب الصحيح؛ مثل: البخاري، ومسلم، والإسماعيلي، والبرقاني، وأبي نعيم، والدارقطني، ومثل صحيح ابن خزيمة وابن مَنده، وأبي حاتم البستي، والحاكم، وما صححه أئمة أهل الحديث الذين هم أجَل من هؤلاء، أو مثلهم من المتقدمين والمتأخرين؛ مثل: مالك، وشُعبة، ويحيى بن سعيد، وعبدالرحمن بن مهدي، وابن المبارك، وأحمد، وابن مَعين، وابن المَديني، وأبي حاتم وأبي زُرعة الرازيَيْن، وخلائق لا يُحصي عددَهم إلا الله تعالى.
فإذا تدبَّر العاقل الأحاديث الصحيحة الثابتة عند هؤلاء وأمثالهم، عرَف الصدق من الكذب، فإن هؤلاء من أكمل الناس معرفةً بذلك، وأشدهم رغبةً في التمييز بين الصدق والكذب، وأعظمهم ذبًّا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم المهاجرون إلى سُنته وحديثه، والأنصار له في الدين، يقصدون ضبْط ما قاله، وتبليغه للناس، وينفون عنه ما كذبه الكذابون، وغلط فيه الغالطون، ومن شركهم في عِلمهم، علِم ما قالوه، وعلِم بعض قدْرهم، وإلا فليُسلم القوس إلى باريها، كما يُسلِّم إلى الأطباء طبهم، وإلى النحاة نحوَهم، وإلى الفقهاء فِقههم، وإلى أهل الحساب حسابهم، مع أن جميع هؤلاء قد يتَّفقون على خطأ في صناعتهم، إلا الفقهاء فيما يفتون به من الشرع، وأهل الحديث فيما يفتون به من النقل، فلا يجوز أن يتَّفقوا على التصديق بكذبٍ، ولا على التكذيب بصدقٍ، بل إجماعهم معصوم في التصديق والتكذيب بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم كما أن إجماع الفقهاء معصوم في الإخبار عن الفعل بدخوله في أمره أو نَهيه، أو تحليله أو تحريمه.
ومَن تأمَّل هذا وجَد فضائل الصديق التي في الصحاح كثيرةً، وهي خصائص؛ مثل: حديث المخالة، وحديث: "إن الله معنا"، وحديث: إنه أحب الرجال إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث: الإتيان إليه بعده، وحديث: كتابة العهد إليه بعده، وحديث: تخصيصه بالتصديق ابتداءً، والصحبة، وتركه له، وهو قوله: "فهل أنتم تاركو لي صاحبي"، وحديث: دفْعه عنه عقبة بن أبي معيط لما وضَع الرداء في عنقه، حتى خلَّصه أبو بكر، وقال: أتقتلون رجلًا أن يقول: ربي الله؟! وحديث: استخلافه في الصلاة، وفي الحج، وصبْره، وثباته بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وانقياد الأمة له، وحديث: الخصال التي اجتمَعت فيه في يوم، وما اجتمعت في رجل إلا وجَبت له الجنة، وأمثال ذلك.
ثم له مناقب يشركه فيها عمر؛ كشهادته بالإيمان له، ولعمر، وحديث علي؛ حيث يقول: "كثيرًا ما كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "خرجت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر"، وحديث: استقائه من القليب، وحديث: البقرة التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "أُومن بها أنا وأبو بكر وعمر"، وأمثال ذلك.
وأما مناقب علي التي في الصحاح، فأصحُّها قوله يوم خيبر: "لأعطينَّ الراية رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله"، وقوله في غزوة تبوك: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبيَّ بعدي"، ومنها: دخوله في المباهلة، وفي الكساء، ومنها قوله: "أنت مني وأنا منك"، وليس في شيء من ذلك خصائص، وحديث: "لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق"، ومنها ما تقدَّم من حديث الشورى، وإخبار عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو راضٍ عن عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن.
فمجموع ما في الصحيح لعلي نحو عشرة أحاديث، ليس فيها ما يختص به، ولأبي بكر في الصحاح نحو عشرين حديثًا أكثرها خصائص.
وقول مَن قال: صحَّ لعلي من الفضائل ما لم يصحَّ لغيره - كذبٌ، لا يقوله أحمد، ولا غيره من أئمة الحديث، لكن قد يقال: رُوي له ما لم يُرو لغيره، لكن أكثر ذلك مِن نقْل مَن عُلِم كذبُه أو خطؤه؛ ودليل واحد صحيح المقدمات، سليم عن المعارضة - خير من عشرين دليلًا مقدماتها ضعيفة، بل باطلة، وهي معارضة بأصح منها، يدل على نقيضها.
والمقصود هنا: بيان اختصاصه في الصحبة الإيمانية بما لم يشركه مخلوق؛ لا في قدْرها، ولا في صفتها، ولا في نفْعها، فإنه لو أُحصي الزمان الذي كان يجتمع فيه أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم والزمان الذي كان يجتمع فيه عثمان، أو علي، أو غيرهما من الصحابة، لوُجِد ما يختص به أبو بكر أضعافَ ما اختصَّ به واحد منهم، لا أقول: ضِعفه.
وأما المشترك بينهم، فلا يختص به واحد، وأما كمال معرفته ومحبَّته للنبي صلى الله عليه وسلم وتصديقه له، فهو مبرز في ذلك على سائرهم تبريزًا بايَنهم فيه مباينةً لا تَخفى على مَن كان له معرفة بأحوال القوم، ومن لا معرفة له بذلك، لم تُقبل شهادته.
وأما نفعه للنبي صلى الله عليه وسلم ومعاونته له على الدين، فكذلك.
فهذه الأمور التي هي مقاصد الصحبة، ومحامدها التي بها يستحق الصحابة أن يُفضَّلوا بها على غيرهم، لأبي بكر فيها من الاختصاص بقدرها ونوعها، وصفتها وفائدتها، ما لا يشركه فيه أحد، ويدل على ذلك ما رواه البخاري عن أبي الدرداء، قال: كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه، حتى أبدى عن رُكبتَيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما صاحبكم، فقد غامَر، فسلِم"، وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطَّاب شيء، فأسرعت إليه، ثم ندِمت، فسألته أن يغفر لي، فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال: "يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثًا"، ثم إن عمر ندِم، فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثَمَّ أبو بكر؟ قالوا: لا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعَّر حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتَيه، وقال: يا رسول الله، والله، أنا كنت أظلمَ، مرتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبتَ، وقال أبو بكر: صدَق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ مرتين"، فما أُوذي بعدها.
هذا الحديث الصحيح فيه تخصيصه بالصحبة في قوله: "فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟"، وبيَّن فيه من أسباب ذلك: أن الله لما بعَثه إلى الناس، قال: إني رسول الله إليكم جميعًا، قالوا: كذبت، وقال أبو بكر: صدَقت؛ فهذا يبيِّن فيه أنه لم يكذبه قطُّ، وأنه صدَّقه حين كذَّبه الناس طرًّا.
وهذا ظاهر في أنه صدَّقه قبل أن يُصدقه أحد من الناس الذين بلغهم الرسالة، وهذا حقٌّ، فإنه أول مَن بُلِّغ الرسالة، فآمَن، وهذا موافق لِما رواه مسلم عن عمرو بن عبسة، قلت: "يا رسول الله، مَن معك على هذا الأمر؟ قال: حُرٌّ وعبد"؛ ومعه يومئذ أبو بكر وبلال.
وأما خديجة وعلي وزيد، فهؤلاء كانوا من عيال النبي صلى الله عليه وسلم وفي بيته، وخديجة عُرِض عليها أمرُه لما فجَأه الوحي، وصدَّقته ابتداءً قبل أن يُؤمر بالتبليغ، وذلك قبل أن يجب الإيمان به، فإنه إنما يجب إذا بلَّغ الرسالة، فأول من صدَّق به بعد وجوب الإيمان به أبو بكر من الرجال، فإنه لم يجب عليه أن يدعو عليًّا إلى الإيمان؛ لأن عليًّا كان صبيًّا، والقلم عنه مرفوع، والذي في صحيح مسلم موافق لهذا؛ أي: اتَّبعه من المبلغين المدعوين، ثم ذكر قوله: "وواساني بنفسه وماله"، وهذه خاصة لم يشركه فيها أحد.
وقد ذكر هذا النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث المخالة التي هي متواترة عنه؛ كما في "الصحيحين" عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر، فقال: "إن عبدًا خيَّره الله بين أن يُؤتيه من زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده، فبكى أبو بكر، وقال: فديناك بآبائنا وأُمهاتنا"، قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مِن أَمَنِّ الناس عليَّ في صُحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا، لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أُخوة الإسلام، لا يبقينَّ في المسجد خَوخة، إلا خَوخة أبي بكر"، وفي رواية للبخاري: "لو كنت متخذًا خليلًا غير ربي، لاتخذتُ أبا بكر خليلًا، ولكن أُخوة الإسلام ومَودته"، وفي رواية: "إلا خُلَّة الإسلام"، وفيه: قال: فعجِبنا له، وقال الناس: "انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبدٍ خيَّره الله بين أن يُؤتيه الله من زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأُمهاتنا"، وفي رواية: "وبين ما عنده، فاختار ما عنده"، وفيه فقال: "لا تَبْكِ؛ إن أمَنَّ الناس عليّ في صُحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا من أُمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر، ولكن أُخوَّة الإسلام ومَودَّته، لا يَبقينَّ في المسجد باب إلا سُدَّ، إلا باب أبي بكر".
فهذه النصوص كلها تُبيِّن اختصاص أبي بكر من بفضائل الصحبة ومناقبها، والقيام بها وبحقوقها، بما لم يشركه فيه أحد، حتى استوجب أن يكون خليله دون الخلق لو كانت المخالة ممكنة، وهذه النصوص صريحة بأنه أحبُّ الخلق إليه، وأفضلهم عنده؛ كما صرح بذلك في حديث عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثَه على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيتُه، فقلت: "أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قلت: فمن الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم مَن؟ قال: عمر"، وعدَّ رجالًا، وفي رواية للبخاري: قال: "فسكتُّ؛ مخافة أن يَجعلني آخرهم" [ا.هـ؛ موضع الحجة منه مختصرًا].
هذا، وراجع تمام البحث في المنهاج.
أمَّا بعدُ:
قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] الآية.
أثنى الله على رسوله محمد بن عبدالله، ووصفَه بكلِّ وصفٍ جميل، وثَنَّى بالثناء على أصحابه رضي الله عنهم الذين معه، أنهم أشداءُ على الكُفَّار، رُحماء بينهم، فهم مَن اختارهم الله لصُحبة نبيِّه، وبعثه فيهم؛ قال الإمام الطبريُّ في تفسيره "جامع البيان"؛ ت شاكر (22/ 261): "يقول تعالى ذِكْره: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ}، وأتباعُه من أصحابه الذين هم معه على دينه، {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ}؛ غليظة عليهم قلوبهم، قليلة بهم رحمتهم، {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، يقول: رقيقة قلوب بعضهم لبعض، ليِّنة أنفسهم لهم، هيِّنة عليهم لهم".
وقال (22/ 266): "أي: هذا المثل في التوراة، {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} [الفتح: 29]، فهذا مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإنجيل".
وقال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة في "مجموع الفتاوى" (4/ 463 - 464): "فهذا يتناول الذين آمَنوا مع الرسول مُطلقًا، وقد استفاض عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الصحاح وغيرها من غير وجهٍ".
وكذلك عناهم الله عز وجل في قوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]، وقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18].
فالسابقون الذين أسلموا قبل الحديبية كالذين بايَعوا النبي تحت الشجرة، وأنزل الله فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}، وكانوا أكثرَ مِن ألف وأربعمائة، وكلهم مِن أهل الجنة؛ كما في الحديث الذي رواه مسلم: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل النار أحدٌ بايَع تحت الشجرة"، وعناهم الله تعالى بقوله: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]، وبقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72]، إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ . وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 74، 75]، وبقوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 26]، وكانوا من المؤمنين الذين أنزَل الله سكينتَه عليهم مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في غزوة الطائف لما حاصروا الطائف، فهذه الآيات عامَّة في جميع الصحابة؛ سواء منهم آل بيته، أو غيرهم، وقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ . وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 8 - 10]، فهذه الآيات تتناول السابقين الأوَّلين الذين آمنوا مطلقًا، ويدخل فيها كلُّ مَن جاء بعدهم إلى يوم القيامة، فكيف لا يدخل فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أول من آمنوا به وجاهَدوا معه؟!
هذا، وقد استفاض عنِ النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثَ كثيرة الثناءُ عليهم، وبيانُ فضائلهم؛ فعن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قَرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يَلونهم"، وعن أبي سعيد الخدري عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي على الناس زمان، يغزو فِئام من الناس، فيُقال لهم: فيكم مَن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيُفتح لهم، ثم يغزو فئام مِن الناس، فيقال لهم: فيكم مَن رأى من صَحِب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيُفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: هل فيكم من رأى مَن صَحِب مَن صحِب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيُفتح لهم" رواهما مسلم.
وعن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبُّوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفَق مثل أُحُدٍ ذهبًا، ما أدرك مدَّ أحدهم ولا نصيفه" [متفق عليه].
والصُّحبة: اسم جنس، تقع على كلِّ من صَحِب النبي صلى الله عليه وسلم قليلًا أو كثيرًا، ورآه مؤمنًا به، فله من الصُّحبة بقدر ذلك، وفي الصحيحين عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ولو كنتُ متخذًا خليلًا، لاتخذتُ أبا بكر خليلًا، ولكن أخوَّة الإسلام"، وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد كان يكون في الأمم قبلكم مُحدَّثون، فإن يكن في أُمتي منهم أحد، فإن عمر بن الخطاب منهم"، وقوله عن عثمان: "ألا أستحيي مِن رجل تستحيي منه الملائكة" [رواه مسلم]، وقوله كما في الصحيحين: "لأعطينَّ الراية رجلًا يفتح الله على يديه، فقاموا يرجون لذلك أيهم يُعطى، فغدوا وكلهم يرجو أن يُعطى، فقال: أين علي؟"))، وقال صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "لكل نبي حواري، وحواري الزبير".
وقال صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله ليُلين قلوب رجال فيه، حتى تكون ألينَ من اللبن، وإن الله ليشد قلوب رجال فيه، حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال: {مَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، ومثلك يا أبا بكرٍ كمثلِ عيسى قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، وإن مثلك يا عمر كمثل نوح، قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، وإن مثلك يا عُمر كمثل موسى، قال: {رَبِّ اشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88]" [رواه أحمد].
وكانا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وزيريه، وفي الصحيح عن ابن عباس قال: "وُضِع عمر بن الخطاب على سريره، فتكنَّفه الناس يدعون، ويُثنون، ويصلون عليه، قبل أن يُرفع، وأنا فيهم، قال: فلم يَرُعني إلا برجلٍ قد أخذ بمَنكبي من ورائي، فالتفتُّ إليه، فإذا هو علي، فترحَّم على عمر، وقال: ما خلفت أحدًا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك، وأيم الله، إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، وذاك أني كنت كثيرًا أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر"، فإن كنت لأرجو، أو لأظن، أن يجعلك الله معهما" [رواه مسلم].
وفي "صحيح البخاري" في قصة غزوة أُحد لما انهزَم أكثر المسلمين، قال أبو سفيان: "أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يُجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاث مرات، ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ ثلاث مرات، ثم رجع إلى أصحابه، فقال: أمَّا هؤلاء، فقد قُتِلوا، فما ملك عمر نفسه، فقال: كذبت والله يا عدو الله، إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقِي لك ما يسوءُك"، فهذا أبو سفيان قائد الأحزاب، لم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة؛ لعلْمه أنهم رؤوس عسكر المسلمين.
أما مَن عناهم الله تعالى في قوله: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62]؛ أي: إنك بمعونة سماوية، وهو النصر منه الذي لا يقاومه شيء، ومعونة بالمؤمنين بأن قيَّضهم لنصرك، {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: بالأنصار، وإنما أيَّده في حياته بالصحابة.
وقال: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].
فالذي كان معه حين نصره الله، {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا}، هو أبو بكر، وكانا اثنين الله ثالثهما، وكذلك لَمَّا كان يوم بدر، لما صُنِع له عريش، كان الذي دخل معه في العريش دون سائر الصحابة أبا بكر، وكل من الصحابة له في نَصْر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعيٌ مشكور، وعمل مبرور؛ قال الإمام أبو جعفر الطبري كما في تفسيره جامع البيان؛ ت شاكر (14/ 44): "يقول تعالى ذكره: وإن يرد يا محمد هؤلاء الذين أمرتُك بأن تَنبذ إليهم على سواء إن خفت منهم خيانةً، وبمسالمتهم إن جنحوا للسلم - خداعك والمكر بك، {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ}، يقول: فإن الله كَافيكهم، وكافيكَ خِداعَهم إياك؛ لأنه مُتكفِّلٌ بإظهار دينك على الأديان، ومُتَضَمِّنٌ أن يجعل كلمته العليا، وكلمة أعدائه السفلى، {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ}، يقول: اللهُ الذي قَوَّاكَ بنصره إيَّاك على أعدائِه، {وَبِالْمُؤْمِنِينَ}؛ يعني: بالأنصار، ثم رواه عن السُّدي.
أما من قال من الروافض: إن المقصود بالمؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقط، فقد أجاب عن هذا شيخ الإسلام ابن تيميَّة في "منهاج السنة النبوية" من وجوه، فراجِعها (7/ 194 - 200).
وكذلك المقصود بالمهاجرين والأنصار في الآيات: الصحابة عند جميع المفسرين، وهو نصُّ الآية، وهذا ما لا خلاف فيه؛ كما قال عبدالله بن مسعود: "إن الله نظر في قلب محمد، فوجَد قلبه خير قلوب العباد، فاصطفاه لرسالته، ثم نظر في قلوب الناس بعد قلبه، فوجَد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فما رآه المؤمنون حسنًا، فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحًا، فهو عند الله قبيح"، وقال أيضًا: "مَن كان منكم مستنًّا، فليستنَّ بمَن قد مات؛ فإنَّ الحي لا تُؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبرُّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلُّفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيِّه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقَّهم، وتمسَّكوا بهدْيهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم".
فهذه الآية وغيرها مِن الآيات التي ذكرناها والتي سألت عنها تتضمَّن الثناء على المهاجرين والأنصار، وعلى الذين جاؤوا من بعدهم؛ يستغفرون لهم، ويسألون الله ألا يجعل في قلوبهم غِلًّا لهم، ولا شكَّ أن من لا يستغفر لهم، وفي قلوبهم غلٌّ عليهم كالرافضة لا نصيب لهم من ذلك، وكفى به حرمانًا وخِذلانًا!
هذا، ونحن نشهد أن الله تعالى أخبر برضاه عن صحابة نبيِّه، ولحِق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، ومن رضِي الله عنه ورسوله، لا يضره غضب أحد من الخلق عليه كائنًا من كان.
هذا، وقد زعم الرافضة أيضًا أن هذه الآية الكريمة المقصود بها علي بن أبي طالب، ورووا ذلك عن ابن عباس بإسناد باطل، وراجع الجواب على هذا في "منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدَرية"؛ لشيخ الإسلام أبي العباس بن تيمية (7/ 153 - 156).
أما معنى قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]، فقد أوجب الله طاعة نبيِّه، والانقياد لأمره، والتأسي بفعله، وجعَله أولى بالمسلمين من أنفسهم، وذاك من لوازم الرسالة، وأوجَب على الأمة لأجْله احترامَ أزواجه، وجعلهن أُمهات في التحريم والاحترام، ومن المعلوم أن كلَّ واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يقال لها: "أم المؤمنين"، وهنَّ: عائشة، وحفصة، وزينب بنت جحش، وأم سلمة، وسَودة بنت زمعة، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، وصفية بنت حُيي بن أخطب الهارونية رضي الله عنهنَّ وهذا أمر معلوم للأمة علمًا عامًّا، وقد أجمع المسلمون على تحريم نكاح هؤلاء بعد موته على غيره، وعلى وجوب احترامهن، فهن أُمهات المؤمنين في الحرمة والاحترام؛ قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في "مجموع الفتاوى" (1/ 68): "قال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده، والناس أجمعين، وقال له عمر: والله يا رسول الله، لأنت أحب إليَّ من كل أحد، إلا مِن نفسي، فقال: لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال: فأنت أحب إلي من نفسي، قال: الآن يا عمر".
فقد بيَّن الله في كتابه حقوق الرسول من الطاعة له، ومحبَّته، وتعزيره، وتوقيره، ونصره، وتحكيمه، والرضا بحُكمه، والتسليم له، واتِّباعه، والصلاة والتسليم عليه، وتقديمه على النفس والأهل والمال، ورد ما يُتنازع فيه إليه، وغير ذلك من الحقوق، وأخبر أن طاعتَه طاعتُه، فقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} [النساء: 80]، ومُبايعتَه مبايعَتُه، فقال: {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ} [الفتح: 10]، وقَرَن بين اسمه واسْمه في المحبة، فقال: {أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 24]، وفي الأذى، فقال: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57]، وفي الطاعة والمعصية، فقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء: 13]، {وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ} [النساء: 14]، وفي الرضا، فقال: {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]، فهذا ونحوه هو الذي يستحقه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي".
أما سؤالك عن سبب حبِّ النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وتقديمه على سائر الصحابة، وما ورد في فضائله الكثيرة، فهذا مما لا يرتاب فيه مسلمٌ، وأخشى أن تكونَ قرأت ما تقوله الرافضة في شيخ الإسلام والمسلمين الصِّديق الأكبر؛ ففي كلامهم من الأكاذيب والبهت والفِرية، ما لا يعرف مثله لطائفة من طوائف المسلمين، لشَبههم القوي من اليهود؛ فإنهم قومُ بهتٍ، يريدون أن يُطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتمَّ نوره ولو كرِه الكافرون.
وسأنقل لك مختصرًا ردَّ شيخ الإسلام على الروافض في تنقصهم من الصِّديق الأكبر رضي الله عنه، فقال رحمه الله في "منهاج السنة النبوية" (8/ 371 - 428): "وظهور فضائل شيخَي الإسلام أبي بكر وعمر، أظهر بكثير عند كل عاقل من فضل غيرهما؛ فيريد هؤلاء الرافضة قلب الحقائق، ولهم نصيب من قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} [الزُّمَر: 32]، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يُونُسَ: 17]، ونحو هذه الآيات.
فإن القوم من أعظم الفرَق تكذيبًا بالحق، وتصديقًا بالكذب؛ وليس في الأمة مَن يماثلهم في ذلك، ثم قال: إن الفضيلة في الغار ظاهرة بنص القرآن؛ لقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التَّوْبَةِ: 40]، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله معه ومع صاحبه؛ كما قال لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46].
وقد أخرجا في "الصحيحين" من حديث أنس عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: "نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدَميه، لأبصرنا، فقال: يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما؟".
وهذا الحديث مع كونه مما اتَّفق أهل العلم بالحديث على صحته، وتلقِّيه بالقَبول والتصديق، فلم يختلف في ذلك اثنان منهم، فهو مما دلَّ القرآن على معناه؛ يقول: "إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" [التوبة: 40].
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لصِدِّيقه: "إن الله معنا"، يدل على أنه موافق لهما بالمحبة والرضا فيما فعَلاه، وهو مؤيِّد لهما، ومُعين وناصر، وهذا صريح في مشاركة الصديق للنبي في هذه المعيَّة التي اختص بها الصِّديق لم يشركه فيها أحد من الخلْق.
والمقصود هنا: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "إن الله معنا"، هي معية الاختصاص التي تدل على أنه معهم بالنصر والتأييد والإعانة على عدوِّهم، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن الله ينصرني وينصرك يا أبا بكر على عدوِّنا، ويُعيننا عليهم.
ومعلوم أن نصر الله نصر إكرام ومحبة؛ كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غَافِرٍ: 51]، وهذا غاية المدح لأبي بكر؛ إذ دلَّ على أنه ممن شهِد له الرسول بالإيمان المقتضي نصر الله له مع رسوله، وكان متضمنًا شهادة الرسول له بكمال الإيمان المقتضي نصر الله له مع رسوله في مثل هذه الحال التي بيَّن الله فيها غناه عن الخلق، فقال: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التَّوْبَةِ: 40].
ولهذا قال سفيان بن عُيينة وغيره: إن الله عاتب الخلق جميعهم في نبيِّه إلا أبا بكر، وقال: مَن أنكر صحبة أبي بكر، فهو كافر؛ لأنه كذَّب القرآن.
وكذلك قوله: "ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما"، بل ظهر اختصاصهما في اللفظ، كما ظهر في المعنى، فكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم: محمد رسول الله، فلما تولَّى أبو بكر بعده، صاروا يقولون: وخليفة رسول الله، فيضيفون الخليفة إلى رسول الله المضاف إلى الله، والمضاف إلى المضاف مضاف تحقيقًا لقوله: "إن الله معنا"، و"ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما"، ثم لما تولَّى عمر بعده، صاروا يقولون: أمير المؤمنين، فانقطع الاختصاص الذي امتاز به أبو بكر عن سائر الصحابة.
فإذا عُرِف أن الصحبة: اسم جنس، تعمُّ قليل الصحبة وكثيرها، وأدناها أن يَصحبه زمنًا قليلًا، فمعلوم أن الصِّديق في ذِروة سَنام الصُّحبة، وأعلى مراتبها، فإنه صحِبه من حين بعثَه الله إلى أن مات، وقد أجمع الناس على أنه أول مَن آمَن به من الرجال الأحرار، كما أجمعوا على أن أول من آمَن به من النساء خديجة، ومن الصبيان علي، ومن الموالي زيد بن حارثة، وتنازعوا في أول من نطَق بالإسلام بعد خديجة، فإن كان أبو بكر أسلم قبل علي، فقد ثبَت أنه أسبق صُحبةً، كما كان أسبق إيمانًا، وإن كان علي أسلَم قبله، فلا ريب أن صحبة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم كانت أكمل وأنفع له من صحبة علي ونحوه؛ فإنه شارَكه في الدعوة، فأسلم على يديه أكابر أهل الشورى؛ كعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبدالرحمن، وكان يدفع عنه مَن يؤذيه، ويخرج معه إلى القبائل، ويُعينه في الدعوة، وكان يشتري المعذَّبين في الله؛ كبلال وعمَّار وغيرهما، فإنه اشترى سبعةً من المعذَّبين في الله، فكان أنفع الناس له في صُحبته مطلقًا.
ولا نزاع بين أهل العلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أن مصاحبة أبي بكر له كانت أكمل من مصاحبة سائر الصحابة من وجوه:
أحدها: أنه كان أدوم اجتماعًا به ليلًا ونهارًا، وسفرًا وحضرًا؛ كما في "الصحيحين" عن عائشة أنها قالت: "لم أعقل أبوَي قط إلا وهما يَدينان الدين، ولم يَمض علينا يوم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينا فيه طرَفي النهار".
فكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يذهب إلى أبي بكر طرفي النهار، والإسلام إذ ذاك ضعيف، والأعداء كثيرة، وهذا غاية الفضيلة، والاختصاص في الصحبة.
وأيضًا فكان أبو بكر يَسمُر عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد العشاء، يتحدث معه في أمور المسلمين دون غيره من أصحابه.
وأيضًا فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استشار أصحابه، أوَّل مَن يتكلم أبو بكر في الشورى، وربما تكلَّم غيره، وربما لم يتكلَّم غيره، فيعمل برأيه وحْده، فإذا خالفه غيره، اتَّبع رأيه دون رأي مَن يخالفه.
المطلوب أن الصِّديق أكمل القوم وأفضلهم، وأسبقهم إلى الخيرات، وأنه لم يكن فيهم من يساويه، وهذا أمر بيِّنٌ، لا يشك فيه إلا من كان جاهلًا بحالهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم أو كان صاحب هوًى، صده اتِّباع هواه عن معرفة الحق، وإلا فمَن كان له علم وعدل، لم يكن عنده في ذلك شك، كما لم يكن عند أهل العلم والإيمان شك، بل كانوا مُطبقين على تقديم الصِّديق وتفضيله على مَن سواه، كما اتَّفق على ذلك علماء المسلمين وخيارهم من الصحابة، والتابعين وتابعيهم، وهو مذهب مالك وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأحمد وأصحابه، وداود وأصحابه، والثوري وأصحابه، والأوزاعي وأصحابه، والليث وأصحابه، وسائر العلماء الذين لهم في الأمة لسان صدقٍ.
أيضًا ففي المواضع التي لا يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم من أكابر الصحابة إلا واحد، كان يكون هو ذلك الواحد، مثل سفره في الهجرة، ومقامه يوم بدر في العريش؛ فلم يكن معه فيه إلا أبو بكر، ومثل خروجه إلى قبائل العرب يدعوهم إلى الإسلام، كان يكون معه من أكابر الصحابة أبو بكر.
وهذا الاختصاصُ في الصحبة لم يكن لغيره باتفاق أهل المعرفة بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأما من كان جاهلًا أحوال النبي صلى الله عليه وسلم أو كذابًا، فذلك يخاطب خطاب مثله.
فقوله تعالى في القرآن: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ} [التَّوْبَةِ: 40]، لا يختص بمصاحبته في الغار، بل هو صاحبه المطلق الذي كمُل في الصحبة كمالًا لم يشركه فيه غيره، فصار مختصًّا بالأكملية من الصحبة؛ كما في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيها الناس، اعرفوا لأبي بكر حقَّه، فإنه لم يَسؤني قط، أيها الناس إني راضٍ عن عمر وعثمان وعلي، وفلان وفلان".
فقد تبيَّن أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خصَّه دون غيره، مع أنه قد جعل غيره من أصحابه أيضًا، لكن خصَّه بكمال الصحبة؛ ولهذا قال من قال من العلماء: إن فضائل الصديق خصائص لم يشركه فيها غيره.
ومَن أراد أن يعرف فضائلهم ومنازلهم عند النبي صلى الله عليه وسلم فليتدبَّر الأحاديث الصحيحة التي صحَّحها أهل العلم بالحديث، الذين كمُلت خِبرتهم بحال النبي صلى الله عليه وسلم ومحبَّتهم له، وصِدقهم في التبليغ عنه، وصار هواهم تبعًا لما جاء به، فليس لهم غرضٌ إلا معرفة ما قاله، وتمييزه عما يخلط بذلك من كذب الكاذبين، وغلط الغالطين، كأصحاب الصحيح؛ مثل: البخاري، ومسلم، والإسماعيلي، والبرقاني، وأبي نعيم، والدارقطني، ومثل صحيح ابن خزيمة وابن مَنده، وأبي حاتم البستي، والحاكم، وما صححه أئمة أهل الحديث الذين هم أجَل من هؤلاء، أو مثلهم من المتقدمين والمتأخرين؛ مثل: مالك، وشُعبة، ويحيى بن سعيد، وعبدالرحمن بن مهدي، وابن المبارك، وأحمد، وابن مَعين، وابن المَديني، وأبي حاتم وأبي زُرعة الرازيَيْن، وخلائق لا يُحصي عددَهم إلا الله تعالى.
فإذا تدبَّر العاقل الأحاديث الصحيحة الثابتة عند هؤلاء وأمثالهم، عرَف الصدق من الكذب، فإن هؤلاء من أكمل الناس معرفةً بذلك، وأشدهم رغبةً في التمييز بين الصدق والكذب، وأعظمهم ذبًّا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم المهاجرون إلى سُنته وحديثه، والأنصار له في الدين، يقصدون ضبْط ما قاله، وتبليغه للناس، وينفون عنه ما كذبه الكذابون، وغلط فيه الغالطون، ومن شركهم في عِلمهم، علِم ما قالوه، وعلِم بعض قدْرهم، وإلا فليُسلم القوس إلى باريها، كما يُسلِّم إلى الأطباء طبهم، وإلى النحاة نحوَهم، وإلى الفقهاء فِقههم، وإلى أهل الحساب حسابهم، مع أن جميع هؤلاء قد يتَّفقون على خطأ في صناعتهم، إلا الفقهاء فيما يفتون به من الشرع، وأهل الحديث فيما يفتون به من النقل، فلا يجوز أن يتَّفقوا على التصديق بكذبٍ، ولا على التكذيب بصدقٍ، بل إجماعهم معصوم في التصديق والتكذيب بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم كما أن إجماع الفقهاء معصوم في الإخبار عن الفعل بدخوله في أمره أو نَهيه، أو تحليله أو تحريمه.
ومَن تأمَّل هذا وجَد فضائل الصديق التي في الصحاح كثيرةً، وهي خصائص؛ مثل: حديث المخالة، وحديث: "إن الله معنا"، وحديث: إنه أحب الرجال إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث: الإتيان إليه بعده، وحديث: كتابة العهد إليه بعده، وحديث: تخصيصه بالتصديق ابتداءً، والصحبة، وتركه له، وهو قوله: "فهل أنتم تاركو لي صاحبي"، وحديث: دفْعه عنه عقبة بن أبي معيط لما وضَع الرداء في عنقه، حتى خلَّصه أبو بكر، وقال: أتقتلون رجلًا أن يقول: ربي الله؟! وحديث: استخلافه في الصلاة، وفي الحج، وصبْره، وثباته بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وانقياد الأمة له، وحديث: الخصال التي اجتمَعت فيه في يوم، وما اجتمعت في رجل إلا وجَبت له الجنة، وأمثال ذلك.
ثم له مناقب يشركه فيها عمر؛ كشهادته بالإيمان له، ولعمر، وحديث علي؛ حيث يقول: "كثيرًا ما كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "خرجت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر"، وحديث: استقائه من القليب، وحديث: البقرة التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "أُومن بها أنا وأبو بكر وعمر"، وأمثال ذلك.
وأما مناقب علي التي في الصحاح، فأصحُّها قوله يوم خيبر: "لأعطينَّ الراية رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله"، وقوله في غزوة تبوك: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبيَّ بعدي"، ومنها: دخوله في المباهلة، وفي الكساء، ومنها قوله: "أنت مني وأنا منك"، وليس في شيء من ذلك خصائص، وحديث: "لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق"، ومنها ما تقدَّم من حديث الشورى، وإخبار عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو راضٍ عن عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن.
فمجموع ما في الصحيح لعلي نحو عشرة أحاديث، ليس فيها ما يختص به، ولأبي بكر في الصحاح نحو عشرين حديثًا أكثرها خصائص.
وقول مَن قال: صحَّ لعلي من الفضائل ما لم يصحَّ لغيره - كذبٌ، لا يقوله أحمد، ولا غيره من أئمة الحديث، لكن قد يقال: رُوي له ما لم يُرو لغيره، لكن أكثر ذلك مِن نقْل مَن عُلِم كذبُه أو خطؤه؛ ودليل واحد صحيح المقدمات، سليم عن المعارضة - خير من عشرين دليلًا مقدماتها ضعيفة، بل باطلة، وهي معارضة بأصح منها، يدل على نقيضها.
والمقصود هنا: بيان اختصاصه في الصحبة الإيمانية بما لم يشركه مخلوق؛ لا في قدْرها، ولا في صفتها، ولا في نفْعها، فإنه لو أُحصي الزمان الذي كان يجتمع فيه أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم والزمان الذي كان يجتمع فيه عثمان، أو علي، أو غيرهما من الصحابة، لوُجِد ما يختص به أبو بكر أضعافَ ما اختصَّ به واحد منهم، لا أقول: ضِعفه.
وأما المشترك بينهم، فلا يختص به واحد، وأما كمال معرفته ومحبَّته للنبي صلى الله عليه وسلم وتصديقه له، فهو مبرز في ذلك على سائرهم تبريزًا بايَنهم فيه مباينةً لا تَخفى على مَن كان له معرفة بأحوال القوم، ومن لا معرفة له بذلك، لم تُقبل شهادته.
وأما نفعه للنبي صلى الله عليه وسلم ومعاونته له على الدين، فكذلك.
فهذه الأمور التي هي مقاصد الصحبة، ومحامدها التي بها يستحق الصحابة أن يُفضَّلوا بها على غيرهم، لأبي بكر فيها من الاختصاص بقدرها ونوعها، وصفتها وفائدتها، ما لا يشركه فيه أحد، ويدل على ذلك ما رواه البخاري عن أبي الدرداء، قال: كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه، حتى أبدى عن رُكبتَيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما صاحبكم، فقد غامَر، فسلِم"، وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطَّاب شيء، فأسرعت إليه، ثم ندِمت، فسألته أن يغفر لي، فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال: "يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثًا"، ثم إن عمر ندِم، فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثَمَّ أبو بكر؟ قالوا: لا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعَّر حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتَيه، وقال: يا رسول الله، والله، أنا كنت أظلمَ، مرتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبتَ، وقال أبو بكر: صدَق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ مرتين"، فما أُوذي بعدها.
هذا الحديث الصحيح فيه تخصيصه بالصحبة في قوله: "فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟"، وبيَّن فيه من أسباب ذلك: أن الله لما بعَثه إلى الناس، قال: إني رسول الله إليكم جميعًا، قالوا: كذبت، وقال أبو بكر: صدَقت؛ فهذا يبيِّن فيه أنه لم يكذبه قطُّ، وأنه صدَّقه حين كذَّبه الناس طرًّا.
وهذا ظاهر في أنه صدَّقه قبل أن يُصدقه أحد من الناس الذين بلغهم الرسالة، وهذا حقٌّ، فإنه أول مَن بُلِّغ الرسالة، فآمَن، وهذا موافق لِما رواه مسلم عن عمرو بن عبسة، قلت: "يا رسول الله، مَن معك على هذا الأمر؟ قال: حُرٌّ وعبد"؛ ومعه يومئذ أبو بكر وبلال.
وأما خديجة وعلي وزيد، فهؤلاء كانوا من عيال النبي صلى الله عليه وسلم وفي بيته، وخديجة عُرِض عليها أمرُه لما فجَأه الوحي، وصدَّقته ابتداءً قبل أن يُؤمر بالتبليغ، وذلك قبل أن يجب الإيمان به، فإنه إنما يجب إذا بلَّغ الرسالة، فأول من صدَّق به بعد وجوب الإيمان به أبو بكر من الرجال، فإنه لم يجب عليه أن يدعو عليًّا إلى الإيمان؛ لأن عليًّا كان صبيًّا، والقلم عنه مرفوع، والذي في صحيح مسلم موافق لهذا؛ أي: اتَّبعه من المبلغين المدعوين، ثم ذكر قوله: "وواساني بنفسه وماله"، وهذه خاصة لم يشركه فيها أحد.
وقد ذكر هذا النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث المخالة التي هي متواترة عنه؛ كما في "الصحيحين" عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر، فقال: "إن عبدًا خيَّره الله بين أن يُؤتيه من زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده، فبكى أبو بكر، وقال: فديناك بآبائنا وأُمهاتنا"، قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مِن أَمَنِّ الناس عليَّ في صُحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا، لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أُخوة الإسلام، لا يبقينَّ في المسجد خَوخة، إلا خَوخة أبي بكر"، وفي رواية للبخاري: "لو كنت متخذًا خليلًا غير ربي، لاتخذتُ أبا بكر خليلًا، ولكن أُخوة الإسلام ومَودته"، وفي رواية: "إلا خُلَّة الإسلام"، وفيه: قال: فعجِبنا له، وقال الناس: "انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبدٍ خيَّره الله بين أن يُؤتيه الله من زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأُمهاتنا"، وفي رواية: "وبين ما عنده، فاختار ما عنده"، وفيه فقال: "لا تَبْكِ؛ إن أمَنَّ الناس عليّ في صُحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا من أُمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر، ولكن أُخوَّة الإسلام ومَودَّته، لا يَبقينَّ في المسجد باب إلا سُدَّ، إلا باب أبي بكر".
فهذه النصوص كلها تُبيِّن اختصاص أبي بكر من بفضائل الصحبة ومناقبها، والقيام بها وبحقوقها، بما لم يشركه فيه أحد، حتى استوجب أن يكون خليله دون الخلق لو كانت المخالة ممكنة، وهذه النصوص صريحة بأنه أحبُّ الخلق إليه، وأفضلهم عنده؛ كما صرح بذلك في حديث عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثَه على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيتُه، فقلت: "أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قلت: فمن الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم مَن؟ قال: عمر"، وعدَّ رجالًا، وفي رواية للبخاري: قال: "فسكتُّ؛ مخافة أن يَجعلني آخرهم" [ا.هـ؛ موضع الحجة منه مختصرًا].
هذا، وراجع تمام البحث في المنهاج.