الزواج بدون موافقة والدي

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: فقه الزواج والطلاق -
السؤال: أنا فتاة تقدَّم لخطبتي شابٌّ طيب، ولكن أهلي رفضوه، ليس لشيء إلا لشكله؛ فهو قصير القامة، وغير متناسق الجسم! هذا الرجل أنا موافقة عليه، ولم أضع شكله حاجزًا بيني وبينه؛ لأنه رجلٌ يقبله الشرعُ والدينُ، وأحيطكم علمًا بأنه رجلٌ متديِّنٌ، وعلى خُلُقٍ، وليس من الشباب المستهتر، وذو نسب وأخلاق، قليل مَن يتحلَّى بها في أيامنا هذه.
رفض والدي الشابَّ خوفًا من كلام الناس، ويرفض رفضًا نهائيًّا فتْحَ هذا الموضوع؛ لأنني في نظره أستحق خيرًا منه، أما بالنسبة لي فأنا مقتنعةٌ به قناعةً تامةً، ليس لغرض المتعة، بل لأخلاقه, ولأنني أحبه في الله.
أطرح عليكم مشكلتي هذه، وأملي في الله ثم فيكم أن أجِدَ وسيلة لحلِّها، وأرجو أخذ مشكلتي هذه بعين الاعتبار، فهل يجوزُ لي شرعًا الزواج حتى بدون موافقته؟ هل للفتاة في الشرع الحق في اختيار شريكها، حتى وإن رفض الأهلُ؟
الإجابة: الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فقد أباح الشَّارعُ الحكيمُ للمرأة النَّظر إلى الخاطب، وأعطاها حقَّ الاختيار؛ تقبلُ مَن تشاء، وترفضُ مَن تشاء، ولم يقُل أحدٌ من أهْل العِلم: إنَّ المرأة تُجْبَر على زواج معين، والجمالُ من حيثُ هو محبوبٌ للنُّفوس، سواء كان في الرجال أو النساء، ولا ينكِر هذا إلاَّ مكابر، ولكنَّ الإسلام قد وضع أُطرًا عامَّة، وأسسًا قويَّة؛ لصلاح الدُّنيا والدِّين في الاختيار؛ فقال: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خلقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائهم" [رواه أحمد والترمذي].
قال صلَّى الله عليْه وسلَّم: "إذا خَطَبَ إليْكُم مَن ترضَون دينَه وخلُقَه فزوِّجوه، إلاَّ تفْعلوا تكُن فتنةٌ في الأرْض وفسادٌ عَريض" [رواه الترمذي].
فمَن قدَرَتْ على رجُل صالحٍ، فلتعضضْ عليْه بالنَّواجذ، وإن كان قبيح المنظر.
ولكن أكثرنا مجْبولٌ على حبِّ العاجِلة؛ ومن ثَم بيَّن لنا رسول الله صلَّى الله عليْه وسلَّم ميزانَ الاعتِدال في الحُكْم على الرِّجال؛ ففي الصَّحيحَين عن سهل بن سعد قال: مرَّ رجُل على رسولِ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم فقال: "ما تقولون في هذا؟ قالوا: حريٌّ إن خطَبَ أن يُنكَح، وإن شفَع أن يُشفَّع، وإن قال أن يُسمَع، قال: ثمَّ سكت، فمرَّ رجُل من فقراء المسلمين، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حريٌّ إن خطب ألا يُنكَح، وإن شفع ألا يشفَّع، وإن قال ألا يُسمَع، فقال رسولُ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم: هذا خيرٌ مِن ملْء الأرض مثلَ هذا".
وروى مسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رُب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره"، وفي رواية: "رب أشعث أغبر ذي طمرين تنبو عنه أعين الناس، لو أقسم على الله لأبره".

فهذا على الحقيقة معنى الجَمال الأصلي؛ فضلًا عن أن القُبح والجمال مسألةٌ نسبيَّة؛ فكما أنَّ الرَّجُل سليمُ الفِطرة يرى المرأة البارعةَ الجمال السيِّئةَ الخلُق؛ يراها شوهاءَ المنظر، فعلى العَكْس تمامًا يرى الأطفالُ مثلًا أمَّهم الشَّوهاء أجملَ النَّاس في وصف نفوسهم، وكذلك تراهم الأم.
فما دام هذا الشابُّ مرضيَّ الدين، ومستقيم الأخلاق، فابذلي كلَّ ما في وسعك، واسْعَيْ في إقناعِ الوالدين بالموافقةِ على زواجِكِ منه، ولْتستعِيني في ذلك بمن له تأثيرٌ عليهما من إِخْوانك، أو الأقارِب، أو مَن تثِقين به من أصدقاء الوالد، أو بعض أهل العِلْم والصَّلاح؛ لينصحَه، ويبيِّن له أنَّ الزَّوج المرضيَّ في الدين والخلُق مما يَجب الظَّفر به، لا سيَّما في هذه الأزْمان المتأخِّرة، التي كثُر فيها الخبثُ، وعمَّ الفساد؛ ولتستعيني بالله عليهما في تليين قلبِهما؛ فتوجهي بالدُّعاء والتضرُّع: أن يُلْهِمَهما رُشْدهما، ويَهْدِيَهما، ويوفِّقَهما للقبول، فالقلوب بِيَد الله تعالى يُقلِّبها كيف يشاء.
ولْتكثِري من العمل الصَّالح، ولتبتعدي عن المعاصي؛ فالزَّوج الصَّالح رِزقٌ من الله تعالى، والرِّزْق لا يُنال بِمعصية الله، وإنَّما يُنال بطاعته، ومِن أعظم الطَّاعات برُّ الوالدين، والإحسان إليْهِما؛ قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء: 23].
ولكن إن أصرَّ على رفضه، فلا سبيلَ للزواج إلا بولي، واحذري الإقدام على مخالفةِ أهلِك، أو الزواجِ بغيرِ رضاهم؛ فتزويج الفتاة لنفسها لا يجوز في شريعتنا، وهو زواج باطلٌ؛ لأن وليَّ المرأة وهو الأبُ ركنٌ، أو شرط في صحة النكاح؛ لقولِهِ صلى الله عليه وسلم: "أيُّما امرأةٍ نُكِحَتْ بغيرِ إذنِ وليِّها، فنكاحُها باطلٌ، فنكاحُها باطلٌ، فنكاحُها باطلٌ، فإن دخلَ بها، فلها المهرُ بما استَحلَّ من فرجِها، فإن اشتَجَروا، فالسلطانُ وليُّ من لا وليَّ له" [رواهُ أحمدُ، وأبو داودَ، والترمذيُّ، وابنُ ماجه، عن عائشةَ، وصحَّحَهُ الألبانيُّ]، وقالَ صلى الله عليه وسلم: "لا نكاحَ إلا بوليٍّ، وشاهدَيْ عدلٍ" [رواهُ ابنُ حبانَ في "صحيحه" (1247 - موارد)، والدارقطنيُّ (383، 384)، والبيهقيُّ عن عِمرانَ وعائشةَ].

وقد وَرَدَ وعيدٌ شديدٌ في حقِّ المرأةِ تُزَوِّجُ نفسَها؛ فقال صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّم: "لا تُزَوِّجُ المَرْأَةُ المَرْأَةَ، ولا تُزَوِّجُ المَرْأَةُ نَفْسَهَا، فإِنَّ الزَّانِيَةَ هي الَّتي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا" [رواهُ ابنُ ماجه، عن أبي هريرةَ].

فالمرأةُ لا تملِكُ أن تُزَوِّجَ نفسَها، ولا غيرَها، ولا أن تُوَكِّلَ غيرَ ‏وَلِيِّها؛ لقولِهِ تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]، وقولِهِ تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221]، وقولِهِ: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]، فخاطبَ الرجالَ بتزويجِ النساءِ، ولو كان لها أن تُزَوِّجَ نَفْسَهَا لما ثَبَتَ في حقِّها ‏العَضْلُ من قِبَل وَلِيِّها.
وهذا قول جماهير أهلِ العلمِ؛ منهم: مالكٌ، والشافعيُّ، وأحمدُ، وأهلُ الظاهرِ، ويُرْوَى أيضًا عن عمرَ، وعليٍّ، وابنِ عباسٍ، وأبي هريرةَ، وغيرِهم ‏رضي الله عنهم أجمعين وهو الحقُّ ‏الذي لا يجوزُ العُدُولُ عنهُ بحالٍ.
كما أنَّ الزواجَ بغيرِ رضا الأهل فضلًا عن كونه باطلًا فهو محفوفٌ بالمخاطرِ دائمًا، ويشهدُ على هذا الواقعُ الذي نحياهُ؛ فكم من امرأةٍ خرجَتْ عن طوعِ أهلِها، وتزوَّجَتْ بغيرِ رغبتِهم، فلمْ تَجْنِ إلا الخسَارَةَ.
فإن أبيت إلا الزواج منه، وكان كُفئًا لك - كما ذكرتِ - فيكونُ عن طريق أحدِ أوليائك الأدنَيْنَ؛ لأن الفقهاء نصُّوا على أنَّ: الولي إنْ عضل المرأة من التَّزويج بكفْئِها، إذا طلبت منه ذلك، ورغِب كلُّ واحدٍ بصاحبِه - أنَّه يَفسُق بالعضْل، وتنتقل الولاية إلى الولِيِّ الأبعد؛ فقد روى البُخاريُّ عن معقِل بن يسار: قال: "زوَّجتُ أُختًا لي من رجُلٍ فطلَّقها، حتَّى إذا انقضتْ عدَّتُها جاء يَخطبها، فقلتُ له: زوَّجتُك، وفرشتُك، وأكرمتُك، فطلَّقْتَها، ثم جِئتَ تَخطبها، لا والله لا تعودُ إليك أبدًا، وكان رجلًا لا بأس به، وكانت المرأة تريدُ أن ترجِع إليه، فأنزل الله هذه الآية: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ}، فَقُلت: الآن أفعلُ يا رسول الله، قال: فزوَّجها إيَّاه".
قال ابن قُدامة في "المغني": "إذا عضلها وليُّها الأقْرب، انتقلت الولاية إلى الأبْعد، نصَّ عليْه أحْمد، وعنْه رواية أُخرى: تنتقِل إلى السلطان، وهو اختِيارُ أبي بكر، وذُكِر ذلك عن عثمان بن عفَّان رضي الله عنْه وشريحٍ، وبه قال الشَّافعي؛ لقوْلِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "فإنِ اشتجروا، فالسُّلطان وليُّ مَن لا وليَّ له".
ولأنَّ ذلك حقٌّ عليْه امتنع من أدائه، فقام الحاكم مَقامَه، كما لو كان عليه دَيْنٌ، فامْتنع من قضائِه، ولنا: أنَّه تعذَّر التَّزويج من جهة الأقرب، فملكه الأبعدُ، كما لو جُنَّ؛ ولأنَّه يَفسُق بالعضْل، فتنتقِل الولاية عنْه، كما لو شرب الخمر، فإن عَضَلَ الأوْلِياء كلُّهم، زوَّجَ الحاكمُ". اهـ.

وأُوصِي ذلك الوالد أن يتَّقيَ الله تعالى في ابنتِه، وأن يُراعيَ الأصلح لها في دينها ودُنياها، وهذا هو الألْيقُ بالأبِ دائمًا أن يسعى لإسعاد أبْنائِه، وأنا أعلم يقينًا أنك لا تفعلُ هذا إلا لإرادة الخير لابنتك، وأنك لا تتمسَّك برأْيك عن هوًى وتسلُّط، ولكن أُوصيك بإنعام النظر فيما تظنُّه مانعًا؛ فالولي ولا سيَّما الأبُ ينظر فيما أُنيطَ به من كفاءة الخاطب لابنته، أما مسألةُ المنظر فهي تعود للبُنَيَّة، والشَّرعُ الحنيفُ وضَعَ قواعدَ ظاهرةً واضحةً مثلَ الشَّمس؛ حتَّى لا يكون مردُّ الأمور للاسْتِحْسان، وموافقة الأغراض، وهو ما يخطئ كثيرًا، ولسنا بأفضل من سعيد ين المسيب إمام التابعين وأحد أئمة المدينة السبعة حيث زوج ابنته بارعة الجمال، والتي كانت تحمل عِلْم أبيها، إلى أبي وداعة، وكان قبيح المنظر فقيرًا، ومن قبله جليبيب وكان عبدًا قبيح الهيئة، ولم يمنع هذا النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: "هذا مني، وأنا منه، هذا مني، وأنا منه"، وروى الإمام أحمد عن أنس قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم على جليبيب امرأة من الأنصار إلى أبيها، فقال: حتى أستأمر أمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فنَعمْ إذًا، قال: فانطلق الرجل إلى امرأته، فذكر ذلك لها، فقالت: لاها الله - أي: لا والله - إذًا، ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيبًا، وقد منعْناها من فلان وفلان، قال: والجارية في سترها تستمع، قال: فانطلق الرجل يريد أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقالت الجارية: أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم - أمره، إن كان قد رضيه لكم، فأنكحوه".
والله أسأل أن يقدر لكِ الخير حيث كان، ويرضيكِ به، آمين.