لديَّ موهبة التأليف وأتردَّد في نشر أعمال

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: قضايا الشباب - استشارات تربوية وأسرية -
السؤال: أنا شابٌّ طَموح، ولديَّ اطِّلاع جيد في مجالات متعدِّدة، ولديَّ خططٌ لمشاريع وأعمال دعوية وإصلاحيَّة مختلفة، ومن ضمن تلك الأعمال: تأليف كتب، وتكوين فرَق دعوية، ونحو ذلك، لكنني عندما أكتب وأصل إلى 20 أو 30 صفحة في الكتاب أتقاعس وأتكاسل وأتراجع؛ بحجة أني ما زلتُ صغيرًا - صغيرًا على توجيه المجتمع، هكذا أقول - وأنا ابن الـ 20 ربيعًا، وبالتأكيد فإن المفكرين قد أشبعوه بحثًا، وأحيانًا أقول: عليَّ أن أقرأ أكثر وأكثر؛ حتى أكونَ مؤهلًا للكتابة، حين أنظر لأفكاري المتناثرة هنا وهناك، والتي لم يُكتب لها الظهور بهذه الحجج، وحين أرى سِير السابقين من أهل الإصلاح، أخشى أن يكون تأخُّر الطرْح جناية عليَّ وربما على المجتمع، فماذا أفعل؟ هل أقتنع بأن عليَّ أن أقرأ أكثر، وأتبحر في العلم قبل أن أكتب؟ أو أكتب وأنشر مباشرة؟ أو أعرض ما أكتبه على كبار المفكرين؟ كلها خيارات مطروحة، أدور في فلكِها حائرًا.
أمرٌ آخر يقلقني، وهو: أخشى العُجب، خاصة وأني أشعر أني أستحسن بعض أعمالي، سواء في الكتابة أو في مجالات الصوت؛ إذ وهبني ربي صوتًا جميلًا، أفكِّر في تسجيل تلاوات، لكن أتراجع لهذا السبب!
الإجابة: الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فاحمَد الله أن مَنَّ عليك بتلك الموهبة العظيمة، التي تستوجب منك الشُّكر، والعمل الجاد، وهذه الهمةُ على الكتابة والتأليف، تُشكَر عليها، وكونها تنقطع عنك ولا تستمرُّ، فهذا هو المعروفُ عن أكثر الخلق، إلا نوادرَ تستمرُّ معهم همتهم، ومن أسباب انقطاعها؛ أنك ربما تُحمِّل نفسك في فترة الهمة والقوة ما لا تحتمله في تلك الفترة؛ وقد أخبرنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الفتور الذي تشعر به، فقال: "لكل عملٍ شرةٌ، ولكل شرةٍ فترةٌ، فمن كانت فترتُه إلى سنتي فقد أفلح، ومنْ كانت إلى غير ذلك فقد هلك" [رواه أحمد والترمذي، عن عبدالله بن عمرو]، ومعنى الشرة: الحرصُ على الشيء، والنشاطُ والرغبة في الخير أو الشر، والفَترة: الضعفُ والسكونُ.

والحاصل: أن لأيِّ شيءٍ من الأعمال وقتَ نشاطٍ، ووقت فُتورٍ وضعف، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ، وعلاجُ هذا الضعفِ والفتور يكون أولًا بكثرة الاستعاذة بالله من العجز والكسل؛ كما هو مأثور عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من الهمِّ والحزن، والعجز والكسل، والبُخل والجبن، وضلع الدَّين، وغلبة الرجال"، تقولها صباحًا ومساءً، ودُبُرَ الصلاة، ونحوه من الأدعية؛ مثل: "اللهم أعني على ذكْرك وشُكرك وحُسن عبادتك"، "رب أعني ولا تعنْ عليَّ، وانصرني ولا تنصر علي"، وأَكْثِرْ من قول: "لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله".
وما دامتْ نيتُك نفعَ الناس بتلك المَلَكة، فإنَّ الله عز وعلا سيُيَسِّر أمرك؛ فاستعنْ بالله، ولا تعجز، وقوِّ همتك بكثرة القراءة لنماذجَ عاليةِ الهمةِ من المسلمين، ومن غيرهم؛ فهذا أمرٌ مُجرَّب، وهو مِن أعظم الزاد لعُلوِّ الهمة، وفي قمع النفس عن الزهو.

كما أنَّ من أسباب تجدد الهمة: وضوحَ الهدف في العمل الذي يعمله الإنسان، وقناعته به، والابتعاد عن ذوي الإرادات الضعيفة، والهمم الدنيَّة الذاتيَّة.
وكذلك من أسباب علو الهمَّة: تنظيم الوقت، ومحاسبة النفس عند التقصير، واستدراك ما فات، والصبرَ على ذلك؛ فالصبرُ ضياءٌ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ومن يتصبَّر يُصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر" [متفق عليه].
لا تضيِّعْ فرصة اعتدال همتك واشتدادها، واستَغِلَّ تلك الأوقات في تعويد النفس على ما تريد، كما قال الشاعر:

إِذا هَبَّتْ رِياحُكَ فَاغْتَنِمْها *** فَعُقْبَى كُلِّ خافِقَةٍ سُكُونُ
ولا تَغْفل عنِ الإحسانِ فيها *** فلا تَدْرِي السُّكونُ مَتَى يَكُونُ


وفِرَّ من إجابة داعي الكسَل إلى داعي العمل، والتشمير بالجدِّ والاجتهاد، والجدُّ ها هُنا هو صدقُ العملِ وإخلاصُه من شوائب الفتور، ووُعُود التسويف والتهاون، وهو تحت السين، وسوف، وعسى، ولعل؛ فهي أضرُّ شيءٍ على العبد، وهي شجرةٌ ثمرُها الخسران والندامات، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بتلقِّي أوامره بالعزم والجد، فقال: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63]، وقال: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 145]، وقال: {يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]؛ أي: بجِدٍّ، واجتهادٍ، وعزمٍ، لا كمن يأخذ ما أمر به بتردُّد وفتور؛ قاله ابن القيم في "مدارج السالكين" بتصرُّف يسير مختصرًا.

أمَّا علاج الرياء فيكون أولًا بمُجاهدة النفس على تحصيل الإخلاص لله في الأمر كله؛ فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، مع اليقين بأن كلَّ من كان قصدُه ابتغاءَ وجهِ ربِّه الأعلى استَحَق الثواب، ومن كان قصدُه رياءَ الناس ومدحَهم، وتعظيمَهم له، وطلبَ الجاهِ عندهم، ولم يقصدْ وجهَ الله، استَحَق العذاب؛ كما رَوى مسلمٌ والنَّسائي عن أبي هُريرة، قال: سَمِعْتُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه: رجلٌ استشهد، فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريءٌ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجلٌ تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم؛ ليقال: عالمٌ، وقرأت القرآن؛ ليقال: هو قارئٌ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجلٌ وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيلٍ تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت؛ ليقال: هو جوادٌ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار".
ثانيًا: الاستعانةُ بالدعاءِ: أنْ يُحْييَ اللهُ قلبَكَ، ويشرحَ صدرَك، ويُلْهمَكَ رُشدَك، ويكفيَك شرَّ الشيطان، وشرَّ نفسِك، ويوفقك للإخلاصِ، وبالدعاءِ المأثورِ: "اللهُمَّ إنَّا نعوذُ بكَ من أنْ نُشركَ بكَ شيئًا نعلمُه، ونستغفرُكَ لما لا نعلمُه"، و"اللهُمَّ إِنِّي أعوذُ بِكَ مِن عِلمٍ لا ينفَعُ، وعملٍ لا يُرفعُ، ودُعاءٍ لا يُسمَعُ"، ومَن دُعائِه صلى الله عليه وسلم: "اللهُمَّ حجَّةً لا رِياء فيها، ولا سُمعة".
ثالثًا: اتِّخاذ رُفقةٍ صالحةٍ مؤمنةٍ؛ فإنَّ صحبةَ الصالحينَ تُغري بالصلاحِ.
رابعًا: الإكثار من العمل في السرِّ أكثرَ من العلانية؛ لأن عمل السر منبعُ الإخلاص.
خامسًا: قال الإمام الغزاليُّ رحمه الله تعالى في علاج الرياء، قال: "وفي علاجه مقامان:
أحدُهما: قلعُ عُروقِهِ وأصوله التي منها انشعابُه.
والثاني: دفعُ ما يَخطُر منه في الحال"، وذَكَرَ أن أصله حبُّ المنزلةِ والجاه، وإذا فضل، رَجَعَ إلى لذة المحمدة، والفرار من ألم الذَّمِّ، والطمعِ فيما في أيدي الناس، ويَشهَدُ لما قاله هنا ما روى أبو موسى: أن أعرابيًّا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله، الرجل يقاتِلُ حميَّة، - ومعناه: أنه يأنف أن يقهر، ويذم بأنه مقهور - وقال: والرجل يقاتل ليُرى مكانُه - وهذا هو طلب لذة الجاه، والقدر في القلوب - والرجل يقاتل للذكر - وهذا هو الحمد باللسان – فقال صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ" [متفق عليه].
وأما دفعُ ما يخطُر منه في الحال، فيكونُ بمُجاهدة النفس، وقَلعِ مغارس الرياء من قلبه بالقناعة، وقطعِ الطمع، وإسقاطِ نفسه من أعين المخلوقين، واستحقار ذم المخلوقين، ومدحهم.
والله أسأل أن يرزقنا وإياك همة عالية، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، آمين.