هل النجاح والتفوق في الدنيا فريضة؟

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: طلب العلم - الإسلام والعلم -
السؤال:

هل النجاح والتفوُّق في الدنيا فريضة دينية كالصلاة مثلًا؟ وإذا كانتْ كذلك فما ترتيبها؟ بمعنى آخر: هل يُعدُّ التفوُّق أهم مِن العبادات بعد الأركان الخمسة؟

الإجابة عن هذا السؤال لها أهمية عظيمة جدًّا بالنسبة لي؛ فإذا كان الجواب بالإيجاب، فإن هذا سوف يُغَيِّر -كثيرًا- من حياتي؛ فأنا عندما أسمع أمرًا من أوامر الله -عز وجل- تنبعث طاقاتي وتتفجر، ومهما بذلتُ مِن جهدٍ في ذلك الأمر فإنه يسيرٌ وسهلٌ، أنا أعلم أن الإنسانَ خُلِقَ ليعبد الله، وبعضُهم قال: بل خُلِقَ الإنسان -أيضًا- لإعمار الأرض وقضية الاستخلاف، والأخيران هما أمر النجاح في الدنيا، ولكن -الحقيقة- هذه الزاوية من الدين غامضةٌ بعض الشيء لديَّ.

أرجو إجابتي بإقناعٍ، وأتمنى أن تكونَ هناك أدلةٌ شرعيةٌ على ذلك.

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:

فقبل الجواب عن سؤالك -أخي الكريم- أُقَدِّم مسألةً ينكشف بها سرُّ الجواب، وهو معنى العبادة، التي قال الله تعالى فيها: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ* أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}[هود: 1، 2]، وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: 56].

والمنهجُ الإسلاميُّ كلُّه غايتُه تحقيقُ معنى العبادة، وليستْ هي قاصِرَةً على مجرد الشعائر، كما يظن البعضُ أن المسلمَ متى قدَّم الشعائر لله وحدَه، فقد عبَد اللهَ وحده؛ ونسي أن الشعائر ما هي إلا مظهرٌ واحدٌ مِن مظاهر الدينونة، والخضوع لله سبحانه، لا يستغرق كل حقيقة الدينونة، ولا كل مَظاهرها؛ فالعبادةُ تشمل كلَّ جهدٍ يُنفقه مَن يدينون لله وحده في عمارة الأرض، وترقيتها، وترقية الحياة فيها، واستغلال ثرواتها، والانتفاع بطاقاتها، والنهوض بتكاليف خلافة الإنسان في الأرض، فمِن سُنَّة الله الكونية أنَّ مَن يستخلفهم في الأرض مَن يجمعون بين الإيمان والعمل الصالح والإبداع في الأرض؛ لعمارتها، وحيثما اجتمع إيمانُ القلب ونشاطُ العمل في أمةٍ فهي الوارثةُ للأرض في أي فترةٍ مِن فترات التاريخ.

ولكن في عُصور الانحطاط، وبفِعْل الطوائف المُنْحَرِفة، انْحَسَر مفهومُ العبادة، حتى صار قاصرًا على الشعائر وحسب، حتى تخلَّف المسلمون، وصاروا في ذَيْل الأمم؛ يَتَسَوَّلون منهم التكنولوجيا والتقنيات الحديثة، فتأرْجَح ميزان القوى؛ لعدم أخْذِنا بالوسائل المادية، ونسينا أن الإيمانَ الصحيحَ يدفع إلى العمل الصالح، وإلى عمارة الأرض، والقيام بتكاليف الخلافة التي وكَلها الله إلينا، ولا يكون الاسْتِخْلاف إلا بالنشاط الإنساني.

ولو تأملتَ -أيها الحبيب- سُنَّة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسنة الخلفاء الراشدين، وقرأتَ في تاريخ عُصور الإسلام المزْدَهِرة، لعلمتَ أنَّ ما أقوله كان بدَهيًّا عندهم، والأئمة المُتَّبَعون نصُّوا على وُجوب تعلُّم العلوم الدنيوية بجانب العلوم الشرعية، وعلى وُجوب تعلُّم الصناعات... إلى آخره؛ فالفارقُ بين إبداع المسلم وإبداع غيره هو أن المسلمَ يفعل ذلك عبادةً لله، واستجابةً لأمره باستِخْلاف الإنسان في الأرض، والذي يلزم منه الإبداع والتفنُّن فيها، فيكون كلُّ هذا مِن المعنى الشامل للعبادة.

أمرٌ آخر لا يخفى على مثلك -رعاك الله-: ما حضَّ عليه دينُنا العظيم مِن طلَب العلم، وجعله عبادةً؛ كما قال معاذ بن جبلٍ -رضي الله عنه-: "طلَب العلم -عندنا- عبادةٌ، ومذاكرةُ العلم -عندنا- تسبيحٌ، وبذْلُ العلم -عندنا- صدقةٌ، والسعي والسهَر والسفر مِن أجل العلم جهادٌ، ومَن أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومَن أراد الآخرة فعليه بالعلم، ومَن أراد الدنيا والآخرة فعليه بالعلم".

والإسلامُ دينٌ يحضُّ على العلم في كل مجالاته وميادينه، ويضمن الثواب والفلاح للمخلصين في طلَبِهم للعلم، الحريصين على نفْع البلاد والعباد.

ولا شك أن المسلم الحقَّ لا يعمل إلا بنيةٍ، بل إنه يجتهد في أن تكونَ النيةُ خالصةً وصادقةً، ومِن فقهه أن يكون له عددٌ من النيات الصالحة؛ وقد جاء في الصحيح: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى»(رواه البخاري).

والمسلمُ الحق يجعل رضوان الله هو الغاية، ويستطيع أن يحتسبَ حياته كلها لله؛ كما قال معاذٌ -رضي الله عنه-: "والله إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي"؛ يعني: أجرًا وثوابًا على نومه وقيامه؛ لأنه لا يفعل شيئًا إلا بنيةٍ وهدفٍ.

وفق الله المسلمين للتفوق في أمور الدنيا والآخرة.