نحسن إلى الناس ويسيئون إلينا

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: محاسن الأخلاق - الطريق إلى الله -
السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أكرمني الله بعائلةٍ مُحِبَّة للخير، تنسى الإساءة، وتُكرم الضيف، وتُحسن إلى اليتيم وتَصِل الرَّحِم، لكن للأسف كلُّ هذا يقابَل بالإساءة من الآخرين، ولا نجد مَن، يعترف بالجميل، بل قد يصل الأمر إلى الظلم والعنف والإساءة للسمعة والتجريح!

هذه المشكلةُ تُعاني منها عائلتي كلها - بكل أسف - وهنا السؤال:

هل نحن مخطئون بكثرة الإحسان لغيرنا؟ أو أن ما يحدث لنا قد يكون بسبب ذنوبنا؟ وماذا عسانا أن نفعلَ؟

الإجابة:

الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ عَلَى رسولِ اللهِ، وعَلَى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أمَّا بعدُ:

عظيمٌ أن يُرْجِعَ المسلم ما يَمُرُّ به من ابتلاءاتٍ إلى ذنوبه؛ فيدفعه هذا إلى التوبة العامة والخاصة؛ أعني: التوبة من الذنوب عامة، ومما اقترف مِن سيئة معينةٍ.

أما شكْواك مِن نكران الناس للمعروف، وجميل الصفات؛ فهذا كثيرٌ في الخلْق، إلا ما ندر، وهو اختبارٌ وامتحان للعبد فيما أنعم الله عليه مِن نِعَمٍ، وهذه حكمةُ الله في خلْقِه؛ خَلَقَ ليبتلِيَ ويمتحنَ ويختبرَ، فيظهر في العيان وواقع الناس ما كان مكنونًا داخل النفس، ومِن ثَم يترتب عليه آثارُه المقَدَّرة في كيان الوجود، وفق ما يظهر مِن نتائج ابتلائه.

فالحياةُ كلها - أيتها الفاضلة - ابتلاءٌ وامتحانٌ؛ كما قال الله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2]، فالاختبارُ محكُّ الإيمانِ، ويتبين به الصادقُ مِن الكاذب، والمؤمنُ مِن المنافق، والطيبُ مِن الخبيث، فمَن صبر نجا مِن فتنة أعظم منها، ومَن لم يَصْبِرْ عليها وقَع في فتنة أشد منها.

فالفتنةُ في كل شيءٍ لا بد منها في الدنيا؛ ليعلمَ الصادق مِن الكاذب، لا سيما إن كان في الأعمال المتعدِّية للغير؛ كالصدقة، ليظهر هل يفعله لله فيصبر ويحتسب ويستمر؟ أو فعَلَهُ لغير الله؛ كحبّ الصيت، فيتحسر ويترك العمل.

فالعلاجُ الناجعُ لشكواكِ - أيتها الابنة الكريمة - هو إخلاص العمل لله، ومراقبته، واحتساب الأجر عنده سبحانه، وتحمُّل الأذى فيه، وهذا يتطلَّب استعانةً عظيمةً بالله.

واعلمي - أيتها الفاضلة - أنَّ الله تعالى امتحن عبادَهُ بعضهم ببعض؛ كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20].

وهذا عامٌّ في جميع الخلْقِ، امتحن بعضهم ببعض، فامتحن الرسلَ بالمرسل إليهم ودعوتهم إلى الحق والصبر على أذاهم، وتحمُّل المشاقّ في تبليغهم رسالات ربهم، وامتحن المرسل إليهم بالرسل، وهل يطيعونهم وينصرونهم ويصدقونهم؟ أو يكفرون بهم ويردون عليهم ويقاتلونهم؟

وامتحن العلماء بالجهال؛ هل يعلمونهم وينصحونهم ويصبرون على تعليمهم ونصحهم وإرشادهم ولوازم ذلك؟ وامتحن الجهال بالعلماء، هل يطيعونهم ويهتدون بهم؟ وامتحن الملوك بالرعية، والرعية بالملوك، وامتحن الأغنياء بالفقراء، والفقراء بالأغنياء، وامتحن الضعفاء بالأقوياء، والأقوياء بالضعفاء، والسادة بالأتباع والأتباع بالسادة.

وامتحن المالك بمملوكه، ومملوكه به، وامتحن الرجلَ بامرأته وامرأته به، وامتحن الرجال بالنساء والنساء بالرجال، والمؤمنين بالكفار والكفار بالمؤمنين، وامتحن الآمرين بالمعروف بمَن يأمرونهم، وامتحن المأمورين بهم؛ ولذلك كان فقراء المؤمنين وضعفاؤهم مِن أتباع الرسل فتنةً لأغنيائهم ورؤسائهم، امتنعوا من الإيمان بعد معرفتهم بصدق الرسل، وقالوا: {لَوْ كانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إلَيْهِ} [الأحقاف: 11] وقالوا لنوح - عليه السلام -: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111]، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53].

فإذا رأى الشريفُ الرئيسَ المسكينَ الذليلَ قد سبَقه إلى الإيمان ومُتابَعة الرسول، حمي وأنف أن يُسلمَ، فيكون مثله، وقال: أسلم فأكون أنا وهذا الوضيع على حدٍّ سواء؟

وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20]: قال الزجاج: "أي أتصبرون على البلاء، فقد عرفتم ما وجد الصابرون".

قرن الله سبحانه الفتنةَ بالصبر ها هنا، وفي قوله: {ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} [النحل: 110]، فليس لمن قد فُتِنَ بفتنة دواءٌ مثل الصبر، فإن صبر كانت الفتنة مُمَحِّصة له، ومخلِّصة من الذنوب، كما يخلص الكير خبث الذهب والفضة؛ قاله ابن القيِّم في إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/ 160-162)

فالنفسُ الإنسانيةُ مليئةٌ بالانحرافات والالتواءات، والرغائبِ وأهواءِ القلوبِ، مِن الحرص والشُّحّ وحبِّ الخير للذات، وألوان غيرها كثير مِن ذوات الصدور، والدينُ الإسلامي عالَج هذا كله لتحقيق منهج الله في الأرض في صورة عمليةٍ واقعةٍ.

والشعراءُ والأدباءُ والمصلحون أشاروا لشيءٍ مِن تلك الالتواءات النفسية، ومِن أروع ما قيل قولُ أبي الطيب المتنبِّي:

وَمَا قَتَلَ الأَحْرَارَ  كَالعَفْوِ  عَنْهُمُ        ومَنْ لَكَ بِالحُرِّ الَّذِي يَحْفَظُ اليَدَا
إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ  الكَرِيمَ  مَلَكْتَهُ        وَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ  اللَّئِيمَ  تَمَرَّدَا

 

فاثْبُتي على فِعْلِ الخير أنت وأسرتك، وأدِّي الذي عليك في مُواجهة التواءات النفس البشرية وجهْلِها، واعتزازها بما ألِفَتْ واستكبارها، واصبروا على التكاليف الإسلامية وعلى أذى الناس؛ حتى يحكمَ الله في الوقت المقدَّر كما يريد، واجعلي دائمًا نصب عينك هذه الآية الفاذة: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].

وفقنا الله وجميع المسلمين للعمل بالكتاب والسنة.