هل ذنوبي هي سبب مرضي؟

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: التوحيد وأنواعه - الذكر والدعاء - الطريق إلى الله -
السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا فتاةٌ في نهاية العشرينيات مِن عمري، غير متزوجة، أثناء دراستي فعلتُ ذنوبًا كثيرةً؛ فكنتُ أتعرف إلى الشباب، وكانتْ لي علاقة بشابٍّ استمرتْ لمدة 3 سنوات، ثم انتهت علاقتي به لعدم موافقة أهله على الزواج مني؛ ولأني لستُ على قدرٍ مِن الجمال الذي يريده!

ندمتُ وتُبْتُ إلى الله، لكني لم أنسَ تلك المعاصي والذنوب، وكلما حدَث لي أمرٌ أتذكَّر وأقول لنفسي: هذا الذي حصل بسبب ذنوبي التي فعلتُها!

حاولتُ أن أبدأ حياة جديدةً، لكن للأسف في كل مرة يفشل الأمر، ولم أتذوَّق طعمَ الفرَح في حياتي، وزاد على هذا أني اكتشفتُ مرضي في الكبِد، وتدهْوَرَتْ صحتي، ومِن وقتها والدنيا سوداء في عيني.

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:

فاحمدي الله أيتها الابنة الكريمة أنْ وَهَبَك هذا القلب التائب، ووقاك شرَّ النسيان المؤدي إلى الاغترار والبوار، فأصبحتِ تتذكرين ذنبك إذا أصابك الابتلاء، وهذه أمارةُ حياة قلبك، ولكن تذكَّري أيضًا أن التائب من الذنب كمَنْ لا ذنب له، وأنه بحسب قوة التوبة وكمالها، وبحسب ما أحدثتْه المعصيةُ مِن ذل للنفس وخضوعٍ وإنابةٍ وخوفٍ من الله يُصبح العبد بعد التوبة أفضل منه قبل الذنب.

فتدبَّري وأنصتي - بارك الله فيك - لما سأذكره لك جيدًا؛ عسى الله أن يُبَدِّل حزنك فرحًا، وهمك فرَجًا، ويُنير لك الدنيا ويُمَتِّعك بالصحة والعافية، ويحقق جميع آمالك.

أولًا: تعلَّمي أيتها الفاضلة أن الله تعالى له كمالُ العلم، وكمالُ الحكمة، وسعة الرحمة والبر والإحسان والإحاطة، وأنه سبحانه يُحِبُّ الصابرين، ويحب الشاكرين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، وأنه سبحانه أشد فرحًا بتوبة عبده المؤمن مِن رجلٍ في أرضٍ دوية مهلكةٍ، معه راحلتُه، عليها طعامُه وشرابُه، فنام فاستيقظ وقد ذهبتْ، فطلبها حتى أدركه العطشُ، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنتُ فيه، فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زادُه وطعامُه وشرابُه، فالله أشد فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم.

ثانيًا: هذا المرضُ الذي أَلَمَّ بك هو من عند الله، فاستعيذي الله منه يعذْك ويشفك؛ وأكْثري مِن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أُحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك، يا حيُّ يا قيومُ، يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن»، "فالمستعاذُ منه إما وصفه وإما فعله وإما مفعوله الذي هو أثرُ فعلِه، والمفعولُ ليس إليه نفعٌ ولا ضرٌّ، ولا يضر إلا بإذن خالقه؛ كما قال تعالى في أعظم ما يتضرر به العبد وهو السحرُ: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، فالذي يُستعاذ منه هو بمشيئته وقضائه وقدرته.

وإعاذتُه منه وصرْفُه عن المستعيذ إنما هو بمشيئته أيضًا وقضائه وقدرته، فهو المعيذُ مِن قدَرِه بقَدَرِه، ومما يصدره عن مشيئة وإرادته بما يصدره عن مشيئته وإرادته، والجميعُ واقعٌ بإرادته الكونية والقدَرية، فهو يُعيذ منه هو، بل المستعاذُ منه خلْق له، فهو الذي يُعيذ عبدَه من نفسه بنفسه، فيُعيذه مما يريده به بما يريده منه، فليس هناك أسبابٌ مخلوقةٌ لغيره يستعيذ منها المستعيذ به، كما يستعيذ مِن رَجُلٍ ظَلَمَهُ وقهَرَهُ برجلٍ أقوى أو نظيره.

فالمستعاذُ منه هو الذنوب، وعقوباتها والآلام وأسبابها والسببُ مِن قضائه، والمسبب مِن قضائه، والإعاذة بقضائه، فهو الذي يُعيذ من قضائه بقضائه، فلم يعذْ إلا بما قدَّره وشاءَهُ، وقدَّرَ الاستعاذة منه وشاءها، فالجميعُ قضاؤُه وقدرُه وموجبُ مشيئته، فنتجتْ هذه الكلمةُ التي لو قالها غيرُ الرسول لبادر المتكلِّم الجاهل إلى إنكارها وردها - أنه لا يملك الضر والنفع، والخلق والأمر، والإعاذة غيرك، وأن المستعاذ منه هو بيدك وتحت تصرُّفك، ومخلوق من خلقك، فما استعذتَ إلا بك، ولا استعذت إلا منك، فالملكُ كله له والأمرُ كله له، والحمدُ كله له، والشفاعةُ كلها له، والخيرُ كله في يديه.

وهذا تحقيقُ تفرده بالربوبية والألوهية، فلا إله غيره، ولا رب سواه؛ {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38]، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17]، {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2]، فاستعذْ به منه، وفرّ منه إليه، واجعلْ لجأك منه إليه، فالأمرُ كله له، لا يملك أحدٌ معه منه شيئًا، ولا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، ولا تتحرك ذرةٌ فما فوقها إلا بإذنه، ولا يضرُّ سُمٌّ ولا سحر ولا شيطان ولا حيوان ولا غيره إلا بإذنه ومشيئته، يصيب بذلك مَن يشاء، ويَصْرِفُه عمن يشاء.

فأعْرَفُ الخلق به وأقواهم بتوحيده مَن قال في دعائه: «وأعوذ بك منك»، فليس للخلق معاذٌ سواه، ولا مستعاذ منه إلا وهو ربه وخالقه ومليكه وتحت قهره وسلطانه"؛ قاله الإمام ابن القيِّم في "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل" (ص:272- 273) بتصرف يسير.

ثالثًا: ضرَب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المثَل للمؤمن، وما يلقاه مِن عواصف البلاء والأوجاع والأوجال وغيرها، وأنه لا يزال بين عافيةٍ وبلاءٍ ومحنةٍ ومنحةٍ وصحةٍ وسقمٍ وأمنٍ وخوفٍ وغير ذلك، فيقع مرةً ويقوم أخرى، ويميل تارة، ويعتدل أخرى؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمن كمثل الخامة مِن الزرع، من حيث أتتها الريحُ كفأتها، فإذا اعتدلتْ تكفأ بالبلاء، والفاجر كالأرزة، صماء معتدلة، حتى يقصمها الله إذا شاء»، فيكفر الله عنه بالبلاء ذنوبه، ويمحص به، ويخلص من كدره وترفع درجاته.

رابعًا: سأنقل لك كلامًا نفيسًا لشيخ الإسلام ابن القيم، يحتاج منك لتأمُّلٍ حتى لا تسود الدنيا في عينك، بل أبشري بالفرج؛ قال - رحمه الله - في "مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة" (1/ 299-301):

وإذا تأمَّلْتَ حكمتَه سبحانه فيما ابتلى به عبادَه وصفوته بما ساقهم به إلى أجَلِّ الغايات، وأكمل النهايات، التي لم يكونوا يعبُرون إليها إلا على جسرٍ من الابتلاء والامتحان، وكان ذلك الجسرُ لكماله كالجسر الذي لا سبيل إلى عُبورهم إلى الجنة إلا عليه، وكان ذلك الابتلاءُ والامتحانُ عينَ المِنَح في حقهم والكرامة، فصورتُه صورةُ ابتلاء وامتحان، وباطنُه فيه الرحمة والنعمة والمنة، فكم لله من نعمةٍ جسيمةٍ، ومِنَّةٌ عظيمة، تُجنى من قطوف الابتلاء والامتحان!

فتأمَّلْ حال أبينا آدم، وما آلتْ إليه محنته من الاصطفاء والاجتباء، والتوبة والهداية ورفعة المنزلة، ولولا تلك المحنةُ التي جرتْ عليه، وهي إخراجه من الجنة، وتوابع ذلك؛ لما وصل إلى ما وصل إليه، فكم بين حالته الأولى وحالته الثانية في نهايته!

وتأمَّلْ حال أبينا الثاني نوح، وما آلتْ إليه محنتُه وصبرُه على قومه تلك القرون كلها، حتى أقرَّ الله عينه، وأغْرَق أهل الأرض بدعوته، وجعل العالم بعده من ذريته، وجعله خامس خمسة، وهم أولو العزم الذين هم أفضل الرسل، وأمر رسوله ونبيه محمدًا أن يصبرَ كصبره، وأثنى عليه بالشكر؛ فقال: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3]، فوصفه بكمال الصبر والشكر.

ثم تأمَّلْ حال أبينا الثالث إبراهيم، إمام الحنفاء، وشيخ الأنبياء، وعمود العالم، وخليل الرحمن، فلما أُمِرَ إبراهيم بذبح ولده، فبادر لأمر الله، ووافق عليه الولد أباه، رضاءً منهما وتسليمًا، وعلم الله منهما الصدقَ والوفاءَ - فداه بذبح عظيمٍ، وأعطاهما ما أعطاهما من فضله، وكان من بعض عطاياه أنْ بارك في ذريتهما حتى ملؤوا الأرض، فإنَّ المقصودَ بالولد إنما هو التناسل وتكثير الذرية؛ ولهذا قال إبراهيم: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]، وقال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40].

ثم تأمَّلْ حال المسيح، وصبرَه على قومه، واحتماله في الله، وما تحمَّله منهم حتى رفعه الله إليه، وطهَّره من الذين كفروا، وانتقم من أعدائه، وقطعهم في الأرض ومزَّقهم كل ممزق، وسلبهم ملكهم، وفخرهم إلى آخر الدهر.

فإذا جئتَ إلى النبيِّ، وتأمَّلْتَ سيرته مع قومه، وصبره في الله، واحتماله ما لم يحتمله نبيٌّ قبله، وتلوُّن الأحوال عليه مِن سلمٍ وحرب، وغنى وفقر، وأمن وإقامة في وطنه، وظعن عنه وتركه لله، وقتْلِ أحبابه وأوليائه بين يديه، وأذى الكفار له بسائر أنواع الأذى من القول والفعل، والسحر والكذب، والافتراء عليه والبهتان، وهو مع ذلك كله صابرٌ على أمر الله، يدعو إلى الله، فلم يؤذَ نبيٌّ ما أوذي، ولم يحتملْ في الله ما احتمله، ولم يُعْط نبي ما أعطيه، فرفع الله له ذِكْرَهُ، وقرن اسمه باسمه، وجعله سيد الناس كلهم، وجعله أقرب الخلق إليه وسيلة، وأعظمهم عنده جاهًا، وأسمعهم عنده شفاعة.

وكانتْ تلك المِحَنُ والابتلاء عين كرامته، وهي مما زاده الله بها شرَفًا وفضلاً، وساقه بها إلى أعلى المقامات، وهذا حالُ ورثته من بعده الأمثل فالأمثل، كلٌّ له نصيبٌ مِن المحنة يسوقه الله به إلى كماله بحسب متابعته له، ومَن لا نصيب له من ذلك فحظُّه من الدنيا حظُّ مَن خلق لها، وخُلِقَتْ له، وجُعِل خلاقه ونصيبه فيها، فهو يأكل منها رغدًا، ويتمتع فيها حتى يناله نصيبه من الكتاب، يُمتحن أولياء الله وهو في دعةٍ، وخفض عيش، ويخافون وهو آمن، ويحزنون وهو في أهله مسرورٌ، له شأنٌ ولهم شأنٌ، وهو في وادٍ وهُمْ في وادٍ، همُّه ما يُقيم به جاهه، ويسلم به ماله، وتُسْمَع به كلمتُه، لزم من ذلك ما لزم، ورضي من رضي، وسخط من سخط، وهمُّهم إقامة دين الله، وإعلاء كلمته، وإعزاز أوليائه، وأن تكونَ الدعوةُ له وحده، فيكون هو وحده المعبود لا غيره، ورسوله المطاع لا سواه.

فلله سبحانه من الحِكَم في ابتلائه أنبياءَه ورسلَه وعباده المؤمنين ما تتقاصرُ عقولُ العالمين عن معرفته، وهل وَصَل من وَصَل إلى المقامات المحمودة والنهايات الفاضلة إلا على جسر المحنة والابتلاء؟!

كَذَا المَعَالي إِذَا مَا رُمْتَ تُدْرِكُهَا       فَاعْبُرْ إِلَيْهَا عَلَى جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ"

اهـ. مختصرًا.

وفي الختام أوصيك أن تصْدقي اللجوء إلى الله بالضراعة أن يشفيك شفاءً لا يغادر سقمًا، فهو الجوادُ الكريمُ الرؤوف الرحيمُ.

هذا؛ وأسأل الله العظيم، رب العرش العظيم أن يشفيك، وأن يُذْهِبَ عنك البأس، وأن يشفيك شفاءً لا يُغادر سقمًا، اللهم اشفِ أمَتَك تنكأ لك عدوك، أو تمشي لك إلى الصلاة.