أريد تقصير ثوبي وأمي تمنعني
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: فقه الملبس والزينة والترفيه - التقوى وحب الله - الأدب مع الوالدين -
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا شابٌّ ملتزمٌ، لديَّ مشكلةٌ مع أمي، فأنا أريد أن أُقَصِّرَ ثوبي؛ لأنَّ الإسبال محرَّم، لكن أمي لا تسمح بذلك، وتعتبر هذا غير محرَّمٍ؛ لأني لا أقصد به الخُيلاء!
وعندما قصرتُ البنطال وأصبح فوق الكعبين ورأتْني أمي؛ غضبتْ مني، ومنعتني مِن ذلك، فهل مِن طريقةٍ لأقنعها بها، بالإضافة إلى أنها لا تسمح لي بالذهاب لصلاة الفجر في جماعة، وتحتج بأنها تخاف عليَّ!
فكيف أقنعها بتقصير الثوب وأداء الفجر في جماعة؟
وجزاكم الله خيرًا.
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فبارَك الله فيك - أيها الابنُ الكريمُ - واللهَ أسأل أن يُثبِّتنا وإياك على الحقِّ المبين، وأُبَشِّرك بحديث رسول الله الذي رواه البخاري ومسلمٌ: «سبعةٌ يُظلهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظله»، وذكَر منهم: «وشابٌّ نشَأ بعبادة الله».
أما رفْضُ والدتك الكريمة لتقصير ثيابك بحجة أنك لستَ ممن يَصْنَعُه خُيلاء، فهذا هو المذهبُ الأشهر عند أكثر الناس، وهو أيضًا مذهبُ جمهور الفقهاء، ويحتجُّون عليه بأدلةٍ كثيرةٍ؛ منها: ما رواه البخاريُّ عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ جَرَّ ثوبه خُيلاء، لم ينظر اللهُ إليه يوم القيامة»، فقال أبو بكرٍ: إن أحد شِقَّيْ ثَوْبِي يَسْتَرْخِي، إلا أن أتعاهَدَ ذلك منه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنك لستَ تَصْنَعُ ذلك خُيلاء»، وفيه - أيضًا - عن أبي هريرة، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى مَنْ جَرَّ إزاره بَطَرًا»، وفيه عن ابن عمر أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بينما رجلٌ يجرُّ إزاره مِن الخيلاء، خُسِفَ به، فهو يَتَجَلْجَل في الأرض إلى يوم القيامة»، وهذه نصوصٌ صريحةٌ في تحريم الإسبال على وجه المَخيلة، وأجابوا على النُّصوص المطلقة في تحريم الإسْبال - والتي سيأتي ذكرها - بأن الإسْبالَ مظنَّةُ الخيلاء، فكُرِهَ لذلك كما يُكْرَهُ مَظَانُّ سائر المُحَرَّمات.
ومِن النصوص التي تمنع الإسبالَ - مُطلقًا - وليس فيها قيدُ الكِبْر ولا الخُيلاء؛ ما روى أحمدُ وأصحاب السُّنَن - وقال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «وارفعْ إزارك إلى نصف الساق، فإنْ أبَيْتَ فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار، فإنها مِن المخيلة، وإن الله لا يُحِبُّ المَخِيلَة»، وروى البخاريُّ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار».
وعن أبي ذر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثةٌ لا يُكَلِّمهم الله يوم القيامة، ولا ينظُر إليهم، ولا يُزَكِّيهم، ولهم عذابٌ أليمٌ»، قال: فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرارٍ، قال أبو ذر: خابوا وخسروا، مَن هم يا رسول الله؟ قال: «المُسْبِل، والمنَّان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب»؛ رواه أحمد، ومسلمٌ، وأبو داود، والنسائي.
وقد أجاب الجمهورُ بأن تلك الأحاديث مطلقةٌ، وهي محمولةٌ على المقيد بالخيلاء، ولكن على كل حالٍ فالسنةُ الصحيحة أَتَتْ بتقصير الثياب، ولم يقلْ أحدٌ مِن الأئمة ولا من أهل العلم: إنَّ الإسبال مباحٌ - كما تظن والدتك الكريمة، ولكن بعضهم قال: هو حرامٌ على كل حالٍ، والأكثر قالوا: هو محرمٌ إن قصد به الخيلاء، وإن كان لغير الخيلاء فهو مكروهٌ.
ومِن ثم قال ابن عبدالبر المالكي: "مفهومُه أن الجارَّ لغير الخيلاء لا يَلْحَقُه الوعيد، إلا أنه مذمومٌ".
وقال النووي الشافعي: "إنه مكروهٌ، وهذا نصُّ الشافعي".
وقال الإمام الشوكاني في "نيل الأوطار" (2/133): "وحاصِلُه: أن الإسبال يستلزم جرَّ الثوب، وجرُّ الثوب يستلزم الخيلاء، ولو لم يقصده اللابس، ويدُلُّ على عدم اعتبار التقييد بالخيلاء ما أخْرَجَهُ أبو داود والنسائي والترمذيُّ - وصححه - من حديث جابر بن سليمٍ من حديثٍ طويلٍ فيه: «وارفعْ إزارك إلى نصف الساق، فإن أَبَيْتَ فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار؛ فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة».
وما أخرج الطبرانيُّ مِن حديث أبي أُمامة قال: بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ لحقَنا عمرو بن زُرارة الأنصاري في حلةٍ إزارٍ ورداءٍ قد أسْبَل، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذ بناحية ثوبه ويتواضع لله - عز وجل - ويقول: «عبدُك وابن عبدِك وأَمَتِك»، حتى سمعها عمرٌو، فقال: يا رسول الله، إني أحْمَش الساقين، فقال: «يا عمرو، إن الله تعالى قد أحسن كل شيءٍ خلقه، يا عمرو، إن الله لا يحب المسبل»؛ والحديثُ رجالُه ثقاتٌ.
وظاهرُه: أن عمرًا لم يقصد الخيلاء، وقد عرَفت ما في حديث الباب مِن قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكرٍ: «إنك لستَ ممن يفعل ذلك خيلاء»؛ وهو تصريحٌ بأن مناط التحريم الخيلاء، وأن الإسبال قد يكون للخيلاء، وقد يكون لغيره، فلا بد من حمل قوله: «فإنها المخيلة» في حديثِ جابرِ بنِ سُلَيْم عَلَى أنه خرَج مخرَج الغالب، فيكون الوعيدُ المذكورُ في حديث الباب مُتَوَجّهًا إلى مَن فعل ذلك اختِيالًا، والقول بأن كل إسبالٍ مِن المخيلة أخذًا بظاهر حديث جابرٍ ترُدُّه الضرورةُ، فإنَّ كل أحدٍ يعلم أن مِن الناس مَن يُسبل إزاره مع عدم خطور الخيلاء بباله، ويردُّه ما تقدَّم مِن قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكرٍ؛ لِمَا عرفت.
وبهذا؛ يحصُل الجمع بين الأحاديث، وعدم إهدار قيد الخيلاء المصرَّح به في الصحيحين".
فتناصَحْ مع والدتك برفقٍ ولينٍ وأدبٍ جمٍّ، وبيِّن لها ما ذكرناه لك: أنَّ سنة النبي على كل حالٍ هي ترْك الإسبال، وأنه يجب علينا - جميعًا - التمسُّك بما شرعه الله تعالى وأمر به، والكفّ عما نهى عنه؛ سواءٌ كان نهي تحريمٍ، أو نهي كراهةٍ، وأكثر مِن الدعاء والتضرُّع إلى الله - عز وجل - أن يشرحَ الله صدر والدتك لقبول الحقِّ، ولتُحسن صحبتها بالمعروف؛ قولًا وعملًا.