هل تسجيل المصروفات يمحق بركة المال؟

خالد عبد المنعم الرفاعي

  • التصنيفات: فقه المعاملات -
السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

منذ مدة بدأتُ بعمل سِجِلٍّ لمصروفات المنزل؛ لعدة أسباب منها: أنني كثير النسيان، ولغلاء الأسعار ومحاولة مقارنة الأسعار عند الشراء من وقت لآخر، لكن نبَّهني بعض الأصدقاء إلى أن هذا العمل يتسبَّب في محق البركة من المال.

فهل هذا الكلام صحيح؟

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:

فلا أعلم دليلًا صحيحًا يُفيد بأن حساب المصروفات والاعتبار بها يَمْحَقُ بركة المال، بل قد يكون العكس أقرب للصواب؛ فالمتأمِّلُ للشرع الحنيف يُدرك أن هناك أدلةً كثيرةً تحُثُّ على كتابة الحقوق وتدوينها، ويدخُل في ذلك كتابةُ ما يُنفقه رب البيت ليسترشد به؛ ومن ذلك ما رواه البخاري عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «كِيلُوا طعامَكم يُبارَكْ لكم»، وتدقيقُ وكتابةُ ثمَن ما تشتريه أشبه بمعرفة كيل الطعام، والحديثُ ظاهرٌ في أنَّ ذلك ليس مذمومًا، بل تتحصل البركةُ بالكيل وامتثال أمر الشارع، كما أخبر الصادقُ المصدوقُ صلى الله عليه وسلم.

غير أنه يمكن أن يقال: إن سبب هذا الظن مِن صاحبك هو أنه يعلم أن البركة أكثر ما تكون في المجهولات والمُبْهَمَات، فظَنَّ أن ذلك الحكم مطلقٌ أو عامٌّ، والأمر ليس كذلك، فليس كل ما يعرف كيله أو ثمنه تعدم بركته، كما في حديث المقدام السابق، أن البركة إنما تنزل على المكيلات عند البيع أو الشراء، وهناك أحاديثُ أخرى تفيد بأنها تنزل المجهولات، ولكلِّ واحد منها مناطٌ خاصٌّ - كما سنُبَيِّنه إن شاء الله تعالى.

أما ما ورد في أن البركة في المجهولات والمبهمات، فروى مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالتْ: "تُوُفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في رَفِّي مِن شيءٍ يأكُلُه ذُو كَبِدٍ، إلا شطرُ شعيرٍ في رَفٍّ لي، فأكلتُ منه حتى طال عليَّ، فكِلْتُه ففَنِي!" وفيه أيضًا عن جابر أنَّ رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستطعمه، فأطعمه شطر وَسْقِ شعير، فما زال الرجلُ يأكل منه وامرأته وضيفهما، حتى كالَهُ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لو لم تَكِلْهُ لأكلْتُمْ منه، ولقام لكم».

قال الإمام النووي في شرح مسلم (18/ 107): "قال القاضي: وفي هذا الحديثِ أنَّ البركة أكثر ما تكون في المجهولات والمبهمات، وأما الحديثُ الآخر: «كيلوا طعامكم يُبارَكْ لكم فيه»، فقالوا: المرادُ أن يكيلَهُ منه لأَجْلِ إخراج النفقة منه، بشَرْطِ أن يبقى الباقي مجهولًا، ويكيل ما يُخْرِجُه؛ لئلَّا يُخرج أكثر من الحاجة أو أقل".

وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (4/ 346): "والذي يظْهَرُ لي أنَّ حديث المقدام محمولٌ على الطعام الذي يُشترى، فالبركةُ تحصُل فيه بالكيل لامتثال أمر الشارع، وإذا لم يمتَثِل الأمرَ فيه بالاكتيال، نُزِعَتْ منه لشؤم العصيان، وحديثُ عائشة محمولٌ على أنها كالتْه للاختبار، فلذلك دَخَلَهُ النَّقْصُ، وهو شبيهٌ بقول أبي رافع لما قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الثالثة: «ناوِلْني الذراع»، قال: وهل للشاة إلا ذراعان؟! فقال: «لو لم تقلْ هذا لناوَلْتَنِي ما دمتُ أطْلُب منك»، فخرج مِن شؤم المعارضة انتزاعُ البَرَكة، ويشهد لما قلتُه حديثُ: «لا تُحْصِي فيُحصي الله عليك»، الآتي، والحاصُل أن الكيلَ بمجرده، لا تحصُل به البركة ما لم ينضمَّ إليه أمرٌ آخر، وهو امتثالُ الأمر فيما يُشْرَعُ فيه الكيلُ، ولا تُنْزَعُ البركة من المكيل بمجرد الكيل ما لم ينضمَّ إليه أمرٌ آخر؛ كالمعارضة والاختبار، والله أعلم".

والحاصلُ أيها الأخ الكريم، أنه لا بأس مما تقوم به مِن تدوين النفقات لدخولها في جملة المباحات وللدلالة السابقة، وما لا يستحب تدوينه أو كيلة فالأغراضُ بعدما اشتريتها مكيلة أو موزونة أو معدودة، لتحل فيه البركة، فدعْها في خزانتها ولا تكلها أو تعدها بعد الاستعمال لتنزل فيها البركة مرة ثانية.

أسأل الله أن يباركَ في أرزاقنا وأبنائنا وبلادنا.