الحصول على أجري الدنيا والآخرة بإخلاص النية
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: أعمال القلوب -
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أشكل عليّ موضوع النية، فقد قرأتُ عدة محاضرات، وقرأتُ فيها مراتب النية الثلاث؛ بأن يكون العمل كله خالصًا لله لا تبتغي به شيئًا في الدنيا، والمرتبة الثانية: أن يكون لله؛ تبتغي به ثواب الآخرة وعاجل ثمرته في الدنيا، والثالثة: أن تعمل العمل للدنيا فقط، وقرأتُ قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} [هود: 15]، وقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]، ولكن حالت الذنوبُ بيننا وبين فَهم مقصد الله في هذه الآيات؛ فأرجو منكم توضيح هذا الأمر.
كذلك قرأتُ عن موضوع الصدقة؛ حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «داووا مرضاكم بالصدقة»، وذكروا أن مَن يتصدق فقط لكي يشفي المريض فلا أجر له في الآخرة.
السؤال الأول: كيف نوفق بين أنَّ مَن يتقرب لله بعبادة الهدف منها الاستعانة على الدنيا لا أجر له في الآخرة، وبين ما ورد من أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم – والصحابة؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم:
- يصلي صلاة الاستسقاء لطلب المطر وهو رزق في الدنيا.
- وجود صلاة الحاجة.
- وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة عندما طلبت خادمًا - وهو أمر دنيوي - بالأذكار قبل النوم.
- قصة الصحابي الذي أسر ابنه، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإكثار من: لا حول ولا قوة إلا بالله.
فهل تتنافى هذه الشواهد مع أنه يمكن عمل قربات لله بهدف الحصول على منفعة في الدنيا؟
السؤال الثاني: ابني مريضٌ؛ كيف تكون نيتي إذا أردتُ أن أطرق باب الصدقة؟!
السؤال الثالث: إذا احتجت أمرًا دنيويًّا، وأردتُ أن أستعينَ بالله على قضائه، ماذا يجب أن أعملَ؟ وماذا يجب أن أنوي بهذا العمل؟
السؤال الرابع: كيف نوفق بين التوكل على الله عند مباشرة أعمال الدنيا؛ رغبةً في التوفيق بها، وطلب ذلك من الله، وبين الإخلاص؟
خامسًا وأخيرًا: موضوع تصحيح النية كيف نتأكد منه؟ فكنتُ أنوي طلب العلم (هندسة مثلًا) حبًّا وفهمًا لهذا العلم، ولطلب الرزق بذلك العلم أيضًا، وكان يتسرب للنفس موضوع الشهرة، فكيف أصحِّح النية؟!
وجزاكم الله خيرًا.
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فالله نسأل - أيها الأخ الكريم - أن يزيدك حرصًا على فِعْل الخير وقصده، كما نسأله سبحانه أن يشفيَ ولدك شفاءً لا يُغادر سقمًا.
فما دَفَعَك لتلك الأسئلة أنه غاب عنك معنًى كبيرٌ؛ وهو خاصية العمل الصالح في الإسلام؛ فهو يُثمر الخيرات والبركات، ليس في الآخرة وحسب، وإنما أيضًا في الدنيا، وذلك أن الله تعالى هو الشكور الذي يَشْكُر القليلَ مِن صالح العمل، ويعفو عن الكثير مِن الزَّلَل، ولا يضيع أجر المحسنين، وجزاؤه سبحانه لعبده المؤمن لا يقتصر على الآخرة، بل يكون في الدنيا أيضًا، فيدخر للمؤمن حسناته، وثواب أعماله إلى الآخرة؛ لتحقق شرط القبول؛ وهو أنه عمَلِها لله، ويجزي بها مع ذلك أيضًا في الدنيا؛ مِن تيسير حالٍ، وسهولةٍ في الرزق، وبركةٍ في الأبناء، وشفاءٍ للمرض ببركة الصدقة، وحفظٍ للذرية بصلاح الوالد، إلى غير ذلك.
ولا غرابة مِن جزائه بالحسنة في الدنيا والآخرة، وقد وَرَدَ الشرعُ به، فيجب اعتقاده؛ فعن أنس بن مالك، أنه حدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الكافر إذا عمل حسنةً أطعم بها طعمةً من الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقًا في الدنيا على طاعته»، وفي رواية: «إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنةً يعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافرُ فيطعم بحسنات ما عمل لله تعالى في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنةٌ يجزى بها»؛ رواه مسلمٌ.
فالحديثُ ظاهرٌ في أنَّ الكافر يجازى بحسناته في الدنيا فقط، أما المؤمنُ فيجازى بحسناته في الدنيا والآخرة معًا، فالذي أذهب طيباته في الدنيا، واستمتع بها هو الكافر؛ لأنه لا يجزى بحسناته إلا في الدنيا خاصة، بخلاف المؤمن، ويشهد لهذا أيضًا قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]، وقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 18، 19]؛ قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145]؛ أي: سنعطيهم مِن فَضْلنا، ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم".
وتأمَّلْ - رعاك الله - تلك الآية العظيمة، وكيف سخَّر الله اثنين من رسله أحدهما مِن أولي العزم؛ لبناء جدارٍ لذرية رجلٍ صالحٍ؛ ببركة عمل أبيهم، وهذ أمرٌ دنيوي خالصٌ؛ {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82]؛ قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: "فيه دليلٌ على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم، ورفع درجتهم إلى أعلى درجةٍ في الجنة، لتقر عينه بهم، كما جاء في القرآن، ووردتْ به السنة، قال سعيد بن جُبيرٍ عن ابن عباسٍ: حفظًا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاحًا".
فلعلك تجد فيما ذكرته لك الجواب عن أسئلتك؛ فتتصدق لله سبحانه طمَعًا في رحمة الكريم الشكور أن يداوي ابنك بها، فالمهم أن يكون العمل خالصًا لله، ومن هذا الباب صلاة الحاجة، وصلاة الاستخارة، وغيرها مما ذكرت، ومما لم تذكرْ، فكما أن للمعصية شؤمًا، ومنه: محق البركة، وحرمان الرزق، فكذلك للطاعة بركةٌ، ومنها: سعة الرزق.
وتأمَّلْ هذا النقل للإمام الشاطبي في "الموافقات" (3/ 7): "إنَّ الأعمال بالنيات، والمقاصد معتبرةٌ في التصرفات من العبادات والعادات، والأدلة على هذا المعنى لا تنحصر، ويكفيك منها أن المقاصدَ تفرق بين ما هو عادةٌ وما هو عبادةٌ، وفي العبادات بين ما هو واجبٌ وغير واجبٍ، وفي العادات بين الواجب والمندوب، والمباح والمكروه والمحرم، والصحيح والفاسد، وغير ذلك من الأحكام، والعمل الواحد يقصد به أمرٌ فيكون عبادةً، ويقصد به شيء آخر، فلا يكون كذلك". اهـ.
قال ابن نُجَيم في "الأشباه والنظائر" (19 - 26): "وعلى هذا قرروا حديث «إنما الأعمال بالنيات» أنه من باب المقتضى؛ إذ لا يصح بدون التقدير لكثرة وجود الأعمال بدونها، فقدروا مضافًا؛ أي: حكم الأعمال.
وهو نوعان: أخروي، وهو الثواب واستحقاق العقاب.
ودنيوي: وهو الصحة والفساد.
وقد أريد الأخروي بالإجماع؛ للإجماع على أنه لا ثواب ولا عقاب إلا بالنية"؛ وساق ابن نجيمٍ الأمثلة على ذلك في الأفعال والتروك، ثم قال: "ولا تشترط للثواب صحة العبادة، بل يثاب على نيته، وإن كانت فاسدةً بغير تعمده؛ كما لو صلى محدثًا على ظن طهارته".
والله أسأل أن يرزَقَنا عمَلاً صالحًا، وقصْدًا صائبًا.